معرض انعكاس للتشكيلية دينا القلال (الصورة: عن تاناروت)
طيوب النص

تقطير العزلة 1

الصورة: عن تاناروت.
الصورة: عن تاناروت.

في تلك الليلة قبل أن يشرع في كتابة جملة واحدة تفتتح قصيدة، كان ممتعضا من مسألة النظر إلى الاستعارات بوصفها محض سكن للمعنى، فتبلبل وهو يحرك أكثر من مجاز حار، لصور شتى تتنفس كنجمة وحيدة في سقف الظلمة؛ مما اضطره لتمزيق كل عبارة لا تنتسب لذلك النقاء النظيف من شبهة كوكب متغطرس، حتى لا تغدو استعارته مجرد ظل وحسب. ربما لأن الألم المجهول ما انفك يتغلغل منتعشا داخل مخيلته التي ما تزال بعد دهر مثل زنزانة مضاءة بأحزان الأسرى، وأنه مهما سعى لإضافة المزيد من الموسيقى وباقات الورد وإشاعة العطر والشموع الملونة؛ سيظل الأسى متربصا بكل عبارة اجتهد في إغوائها. وحتى لا يعيد كرة الفشل قرر هذه المرة أن لا ينتظر الهام الكتابة بل سيغزوها. كان رجاؤه الوحيد، وربما الأخير؛ أن تختزل القصيدةُ كل حياته التي عاشها، وان يحتكم إلى ما احتفظت به ذاكرته من وقائع قليلة افلح في إنقاذها من التآكل، مبديا في آن؛ كل اعتراف رصين بوظيفة النسيان. 

لهذا استأنس فكرة أن يكون محاربًا، وقال لنفسه “ما الضير في أن أؤسس جيشا وأخوض معركة ضارية لغزو الكلمات التي لم تستسلم”. كان فقط يتوق لاستعادة أوقات مفتقدة، هي مفتاح السرّ الذي يمكنه من كشف كلّ ما تغلّق عليه حتى ذلك الحين، في رحلة المكابدة من أجل الإمساك بشيء تائه. وضع حرفا جوار حرف، حتى أمكنه أن يخفي ما بين السطور أكثر من امرأة تسعى لأن تكون شيئا خارج الجدار؛ حينذاك تريث؛ ريثما تأخذ العباراتُ وجهتها التي كان يخشى أن تخذلها قواها على تحمّل مشقة السفر، ومجالدة المجهول القادم؛ لأن الحياة حسب ما خبرها طيلة ستين عاما لها أوجه تتقلّب، كما لها دورات ماكرة يصعب التكهن بمزاجها لمّا تغضب. ” أنا جربت ما هو أنكى من أن يكون الجندي هدفا لنيران صديقة “. لهذا كان عليه التخلي عن عشرين كتابا، هي حصيلة مسيرته الأدبية في بلاد لا تقرأ، والتنصل مما حملته من ترّهات. كان يكفيه أن يسخر من نفسه؛ ليكون أبعد من مجرد حلم. وفي آن؛ ارتأى أيضا ضرورة التخلص من هواجسه السوداء؛ بوصفه أحد القتلى في حرب تشاد، وأنه لم يكن في يوم ما يتيما أو مشردا منبوذا من ذويه؛ فليس بالضرورة أن تكون مخيلته حاضرة كجزء من أرشيف العائلة. لأن الكلمة لا تحتاج كتابا، أو بيتا يطل على ثلاث لغات أو أكثر؛ فقط إذا ما تاقتْ أن تكونَ نهرًا؛ عليها أن تطير. 

_________ 
باب بن غشير 12 ديسمبر 2018 

مقالات ذات علاقة

ألوان الطلاء الجميلة

ميسون صالح

لا صوت يعلو فوق صوت الجوع

المشرف العام

زجاج مكسور

مفيدة محمد جبران

اترك تعليق