محمد نجيب عبدالكافي
قال صاحبي: كأنّي بك تركز على طرابلس في ما تكتبه. اسطنعت ابتسامة وأجبت: قبلت عتابك وأشكرك عليه وأعدت الابتسام بأكثر اتساع. لاحظ صاحبي ذلك فقال: ما معنى هذه الابتسامة ؟ قلت هي محمّلة كثير المعاني منها أنّي كنت منتظرا ملاحظتك أو عتابك، ثمّ أنّ نظرتينا متقابلتان. فأنا أرى ليبيا واحدة موحّدة بينما أنت تراها أشخاصا وأفرادا ونواح وأمكنة. أضف أن العواصم في بلاد العالم جميعا هي بودقة لكلّ ما في البلاد التي هي عاصمتها، وهي المرآة التي تعكس نور وأشعة البلاد من كلّ أطرافها إذ فيها تتجمّع السلطة واتخاذ القرار ودواليب الأمور والمسؤولون والمسيرون من أيّ ركن أتوا. أضيف، كي لا أطيل، أنّ معظم 17 سنة التي أقمتها بين أحضان ليبيا، قضيتها لأسباب ما دفعني إلى الهجرة ولضرورات العمل للعيش الكريم، في طرابلس العاصمة. لكن دعني أسألك: هل عرفت غات أو طبرق أو كاباو مثلا؟ حوّل صاحبي نظره إلى الأرض ففهمت الإجابة بالنفي.
– أين ولماذا؟
واصلت حديثي فقلت: لتعلم يا صديقي العاتب أنني عرفت من تراب ليبيا أكثر من الكثيرين. زرت وتعرفت على كلّ مدن الساحل من زوارة إلى طبرق وغصت جنوبا فزرت وعرفت غات وأوباري وسبها وسوكنة وودان ثمّ شرّقت فعرفت الكفرة وجغبوب والمرج والبيضاء، واستضافتني مصراتة والخمس وجميع مدن الجبل الغربي وأولها – وهذه نادرة غريبة – نالوت التي زرتها في رحلة خاطفة قبل لجوئي واستقراري بليبيا قرابة العقدين.
هذه والمزيد زرتها وعرفتها وعرفت أهلها الذين، حيثما حللت، كنت محل الترحاب وكرم الضيافة وتقديم الشروح والإيضاحات فتعلمت وتثقفت واعتبرت، لأن العبرة أفضل الدروس. تثقفت باكتشاف بلد شاسع رزقه الله، علاوة على ما تحت الأديم وفوقه، ثروة بشرية أشبه بفسيفساء إثنية منسقة منظمة جميلة، لا يعرف قيمتها إلا العارفون بقواعد مثل هذا الفن. تعلّمت كيف يكون الكرم فتجود اليد وهي في حاجة، تعلمت عزة النفس والكرامة في بساطة وتواضع، تعلّمت أنّ الوطن الواحد هو مجموعة شعوب عددها عدد مواطنيه إذ كلّ فرد شعب قائم بذاته، له خصوصياته وتربيته وأخلاقه وتقاليده وعاداته، لا يرى نفسه سوى حلقة في سلسلة جامعة شاملة فيقول: ” اليد بروحها ما تصفقش” لذلك شاهدت وتعلمت كيف يكون التآزر والتعاون عملا بمثل آخر لُقِّنْتُه وهو “حمل الجماعة ريش”. تعلّمت، وبهذا أكفّ عن الثرثرة، أنّ التديّن الحق، لا يكون بكثرة الكلام والصياح بل بالإيمان الباطني والعمل به في الظاهر. لابد لي هنا من ذكر حدث، أو طرفة نشرتها في كتابي “نسالة الذاكرة” فسأنقلها كما جاءت بالكتاب لأنها إن دلّت على شيئ ببساطته وتلقائيّته، فإنما تدلّ على تديّن ترشح به كلّ تصرّفات المرء المؤمن في ليبيا التي عرفت. كنا أربعة، ربان الطائرة بلجيكي وخبيران بريطاني ويوناني والمتشرف بالكتابة، نقوم بجولة بكامل ليبيا إعدادا لمخطط تطوير المواصلات البرية والبحرية والجوية ومنشآتها. عاكستنا الأحوال الجوية فنزلت بنا الطائرة الصغيرة في حقل جالو للتنقيب ساعة بعد الوقت المحدّد فأسرع بنا المرحبون إلى المطعم قبل أن ينصرف الطباخون. جلسنا أربعتنا إلى مائدة بجانب الجدار المواجه للباب وسرعان ما أوتي لنا بالطعام. عندها رأيت الباب يفتح ويقف به طباخان بزيهما والطرطور على رأس كليهما فظننتهما استجابا إلى حب الاطلاع. أخطأت الفهم لأني ما أن أمسكت السكين والشوكة وبسملت، حتّى صاحا بي: لا يا أستاذ. تبادر إلى ذهني بسرعة أنّ الذي أمامي لحم خنزير، فطلبت من جون ستراود، (خبير بريطاني في شؤون المطارات) وهو أمامي، أن أبدل صحني بصحنه فوافق وهو مسترسل في حديثه. عندها انسحب الرّجلان وشرعت في التهام الطائر اللذيذ. أنهى جون حديثه فسألني عن سبب إبدال الطبق بآخر، فقلت لأن الأول لحم خنزير.
انفجر المسكين ضاحكا وهو يسألني: هل الخنزير في بلادكم له أجنحة ويطير؟ عندها اتضح لي الأمر. فالطبقان دجاج مصلي غير أنّ الذي وضع أمامي كان لا يحلّ على المسلم أكله، بينما الثاني هو لي ومن حقي. أليس هذا التصرف من الطباخين وهذه العناية برهانا على إيمان صادق وإسلام سليم؟
هذه ليبيا التي عرفت. وللحديث بقية إن طال العمر.
____________________________________
– الصورة: قصر نالوت الأثري، وهي اول مدينة تشرفت بزيارتها فى ليبيا.