“اللهم صلي عالنبي”…! هذه هي الجملة التي اشتهر بها محمود البوسيفي.. إنها تمثل الدهشة التي كانت تعقب تفاعله مع كل لحظة إبداعية، أو لقطة جمالية، أو أي موقف إنساني مؤثر كان…!
مثقف استثنائي بكل ما تحمل هذه الصفة من معنى.. خصوصاً في تكوينه المعرفي الباذخ، ورؤيته الواسعة للثقافة وأسئلتها القلقة.. إضافة لذائقته الانتقائية وذكائه الاجتماعي.
هذا هو الكاتب الصحفي محمود البوسيفي.. صاحب الشخصية المميزة من حيث محورها المرح، الراسخ في الدعابة.. وفي المقابل فإنه إنسان آسر جداً.. وعليه علامات النبل.. يحظى بقبول كل من يقترب من محيطه الخاص.. لما له من قدرة على التعامل مع كل الأمزجة مهما كان نشازها.. ناهيك عن المزايا الأخرى الموحية بدماثته وتواضعه الجم.. وحرصه على تلقي آراء الجميع، ثقافياً، وفنياً، وسياسياً، واجتماعياً.. ومحاورتهم بعذوبة وعمق.. وهذا ما جعله يسهم بدرجة كبيرة في نشر الوعي الثقافي بمختلف تجلياته من خلال قدرته على تكوين تصور شامل للزخم المعرفي الهائل الذي يمتد عبر جغرافيا البلاد الشاسعة المتنوعة تراثياً.. فعندما تحاوره تشعر بأنك أمام رجل متجدد الرؤى، كمثل ماء النهر.. تكامل وتناغم وحضور طاغ.. هذه اللوازم لا تجتمع إلا في مثقف استثنائي، نادراً ما تجده في المشهد الثقافي الليبي، مؤمناً بأن الكتابة الإبداعية هي السبيل الوحيد إلى تحقيق الهدف الجمالي.. فتعامل مع اللغة الصحفية بكل شعرية وشغف..!
إنه حلم مشرئب وندي، كزهرة في شرفة على البحر.. وحادٌ كحواف صخرة في وادي مرسيط.. ومتجذر كنقش على جدران أكاكوس..
ما يميز البوسيفي، أنه يفكر ويعمل بدأب حتى وهو خلف طاولة مكتبه المزدحم دائماً، الطاولة الشهيرة التي تؤثثها صور وقصاصات الأدباء الذين مروا من هنا.. منتبهاً وهو في قلب الصخب؛ باحثاً عن النقل الفاتن للكلمات التي تعطي المأساة وجهاً شعرياً.. فهو يعيش في منطقة بين الشعر والمقال الصحفي.. يظل متيقظاً بكامل تركيزه حتى وهو منهمك بالحديث مع الآخرين.. مستنداً على فكرة ذلول لعمود في صحيفة أو فكرة تنظيمية مفارقة.
أتذكر أنني قبل أن آتي إلى طرابلس كنت في (فزان) مسكوناً بالأسماء الثقافية في الشمال.. ومن بين كل هذه الأسماء كان دائماً يلمع اسم محمود البوسيفي.. وذلك عائداً إلى شهرته الواسعة في تلك الفترة الذهبية للنشاط الثقافي للمنظومة الثقافية والفنية والصحفية على حد سواء، خصوصاً عندما استطاع أحد أشهر القيادات الفكرية والثقافية في ليبيا آنذاك، الدكتور (عبدالله عثمان)، أن يعبر بالثقافة الليبية إلى ضفة الثقافة الأخرى؛ تاركاً خطاطة الفكر الأخضر، كبرواز جامد يحيط بتفاصيل الدهشة التي بدأت تتخلق داخل (مركز دراسات الكتاب الأخضر).. يحايثها جهد فكري آخر، لا يقل قيمة عن فكر الدكتور عبدالله عثمان، ألا وهو (المثقف المنظومة)، الدكتور عبدالمنعم محجوب، الذي تعددت مواهبه، فكراً، وشعراً، ونقداً.. شخصية فذة لا تستسلم لأي ظرف قاهر، إذ كان وما يزال يتنفس بذات الهواء الأبدي الحالم بالمطلق…
إضافة لمجهودات أخرى، كمشروع مجلة (شعريات)، وكذلك (إدارة الندوات) الإدارة الاستثنائية التي قدمت للمشهد الليبي أهم الأسماء الفكرية في العالم، متمثلة في (فرنسيس فوكو ياما) ونهاية التاريخ، و(محمد أركون) وتاريخية القرآن.
إن الثنائية التي تشكلت بين الدكتور عبدالله عثمان والصحفي محمود البوسيفي استطاعت أن تعيد البريق الثقافي الغارب بكامل إشراقه.
وبالحديث عن محمود البوسيفي، فإنه استطاع أن يقدم صحافة جديرة بالاحترام.. وأن ينأ بها عن التوجيهات والتوجهات الخاصة، وأن ينقلب على عتق ميكنة الصحافة وتواضع الجانب الفني، عن طريق مطابع (ليبيا الغد) الحديثة… والمتتبع لأعمدته المعتادة، من قبل ومن بعد، يلاحظ قدرته الفائقة على التقاط رائحة الحدث بالكتابة، وتشخيص الداء ومن ثم تشريحه وتقديم الحلول المفترضة من خلال رؤية رشيدة تضمن للمواطن الحياة الكريمة المبنية على تضافر وعي الجميع بخطورة الظرف.
ما يميز محمود البوسيفي عن غيره.. هو قدرته الفائقة على التواصل مع الهامش وهو في دائرة الأضواء والشهرة، وسعيه الدائم، والدائب، للإصلاح في معناه الحقيقي.. كأنه يريد أن يقول بأن الصحافة قصاصة تحمل السؤال من وجه والجواب من الوجه الآخر.. صحافة يمكن أن تؤسس لمشهد مختلف عندما تصادق الحقيقة.