“خرائط الروح” أنموذجا
د. عبد الله أبو هيف – سوريا
ألّف أحمد إبراهيم الفقيه (ليبيا) روايات كثيرة عن التلاقي بين وعي الذات العامة (الوطنية والقومية) والخاصة (الشخصية وأبعادها الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية) غالبا، كما هي الحال في رواياته: ” حقول الرماد ” (1985)، و” الثلاثية: سأهبك مدينة أخرى، هذه تخوم مملكتي، نفق تضيئه امرأة واحدة ” (1991)، و” فئران بلا جحور ” (2000)، و” خرائط الروح” ضمن الأثني عشرية:خبز المدينة، أفراح آثمة، عارية تركض الروح، غبرة المسك، زغاريد لأعراس الموت، ذئاب ترقص في الغابة، العودة إلى مدن الرمل،دوائر الحب المغلقة، الخروج إلى المتاهة، هكذا غنت الجنيات، قلت وداعا للريح، نار في الصحرا ” (2007)، وتقع الرواية الأخيرة في (1882) صفحة من القطع الكبير(في الطبعة المحدودة، التي ستصبح 3000صفحة في الطبعة اللاحقة التي ستصل المكتبات)بما يشير إلى أنها من أطول الروايات العربية، وبنى الروائي الفقيه سردها الملحمي تاريخيا ومقارنا وواقعيا وتخييلا ضمن دوائر العتبات النصية الباعثة للرؤى والأفكار، والمعاني والدلالات، وآليات التخاطب والتحاور، وآليات التداولية والإحالية من خلال التناص والمتعاليات النصية، وآليات العلامية والتأويل، والانفتاح النصي وتفرعاته وتمنهلاته المقروءة والمكتوبة، والمنظورات النصية الظاهرة والكامنة.
تركزت مفاهيم السرد الروائي العميقة في روايته المتميزة ” خرائط الروح ” على العنوانات، والمقدمات المفتاحية، والاستهلالات، وفضاءات المتعالقة النصية، والحوارات، والإحالات، والإشارات المرجعية، والتناصات المتنامية الكامنة المعنى في فيوض عناصر التمثيل الثقافي المعمقة لهذه المعاني والدلالات والرؤى والأفكار.
تناولت الرواية قضايا الوجود القومي في ليبيا في نصف القرن العشرين الأول لإبراز مزايا التاريخ العربي في الاحتلال الإيطالي والأوروبي ومقاومته لأشجان الحرب والهدم والغزو والقتل والخراب والاستغلال في مدارات الكفاح والاستقلال والبناء والحرية والسلام والأمن والمصائر الوطنية والقومية والحضارية، فلم تنقطع الأحداث والصراعات بين العرب والغرب من القرن العاشر الميلادي بالحروب الصليبية لأكثر من قرنين من الزمن، إلى الحروب الكثيرة ضد العرب وأقطارهم احتلالا واستعمارا وهيمنة على الوجود العربي، وما حدث في فلسطين ولبنان والعراق خلال العقدين الأخيرين على سبيل المثال لهو استمرار الاستعمار الأجنبي واستهدافاته المتحكمة بهذا الوجود العربي.
أما رواية خرائط الروح” الملحمية فهي رصد مكابدات الذات العربية في ليبيا في الحروب والاحتلالات ودوام الواقع الاستعماري لعقود من الزمن من مطلع القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ قاوم الليبيون الاحتلال الإيطالي وجيوش الحلفاء الغربيين المحتلين للدول العربية الأخرى.
وتمثلت الرواية في حياة الليبي عثمان الحبشي وتحولاتها من صحراء الحمادة الحمراء، مكان ولادته وإقامته إلى العاصمة طرابلس، وإخضاعه ضمن جنود الحملة الإيطالية لفترة طويلة في ليبيا، وفي بر الأحباش على الحبشة، وفي القاهرة والصحراء الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية، محاربة لجيوش الحلفاء ثم الجيش الإيطالي في ليبيا اثناء العودة إلى وطنه في طرابلس ثم الصحراء،وكان جوهر حياته، شأن الليبيين بعامة هو النضال، ونصرة حركات التحرر، ودعم الحرية والاستقلال.
تعددت آليات السرد الروائي وتقنيات التحفيز (تنامي الفعلية) من الواقعي إلى التأليفي والجمالي الناظم للسياقات النفسية والاجتماعية والتاريخية وأنساقها المعمقة لمنظورات الأغراض والقضايا العامة والخاصة، وتداخلها بين الواقع والتخييل والأخيولة (الفنطزة)، فقد توسعت هذه السياقات وأنساقها في نظام التحفيز التأليفي، والتحفيز الجمالي على وجه الخصوص، نشدانا لتبصير الحوافز (الوحدات السردية) في الأوضاع والمواقف والقضايا والأحوال تورية وترميزا وأسطرة وتأويلا للتاريخ والواقع والنظم السياسية والاجتماعية والإنسانية والحضارية.
بنى الروائي الفقيه روايته الملحمية على السرد الخطابي والحواري والوصفي والوظيفي (ثراء التداولية) في الزمن والمكان والفضاء الشامل للتحولات المدروسة، وفي تنوع وظائف الراوي والمروي له (ضمائر المخاطب والمتكلم والغائب)، ولا سيما التواصل وما وراء السرد والأدلجة والتفسير، فهناك الكثير من الوظائف المعنية بالمنظورات والأهداف للتوكيد على المدلولات الكامنة في البنى السردية الداخلية، وتفسيرها بالعتبات النصية الغزيرة، والانطلاق إلى فضاءات الراوي والمروي له من خلال ضبط ضمائر المخاطب والمتكلم والغائب، وقد استخدمها بدقة في رواياته الأثنتي عشرة، وسأعرض مثالا الرواية الأولى “خبز المدينة ” المبنية على ضمير المخاطب، وأشير إلى الرواية الثانية ” أفراح آثمة ” وهي بالضمير نفسه، والى الرواية الثانية عشرة ” نار في الصحراء “، وهي بتعد د ضمائر الرواة ووجهات النظر.
إن ضبط الضمائر في روايته فاعلة في تبئير الرؤى الداخلية والخارجية، مثلما ترسخ التوصيف السردي في معالجة الكائنات والشخصيات والأزمان والأماكن والمرجعيات والصلات بين هذه الأطراف والمكونات السردية ومستوياتها الفنية والفكرية، كالأقوال والأفعال والأوصاف الصريحة والضمنية، وقد اعتنى
إلى حد كبير بمنظورات هذا التوصيف وغالبيتها باطنة وتمثيلية وإيحائية ومعرفية في الخطاب السردي الوظيفي.
كان الحوار في الرواية موضوعيا في الإخبار والإعلام والإفصاح عن العلاقات الشخصية والوطنية والقومية للإفادة التصويرية والتفسيرية والتأويلية والاستبطانية لهذه الرؤى والأفكار الكاشفة للاحتلال والاستعمار والمقاومة والمواجهة داخل الوطن العربي الليبي.
خوطب المواطن عثمان الحبشي بضمير الخطاب لتواصل الراوي والمروي له في الرواية الأولى “خبز المدينة”، لدى انتقاله من الصحراء إلى طرابلس، ودخوله جيش الغزو الإيطالي، وتصارعاته مع المحتلين والمنضمين معهم من بحثه عن العمل في طرابلس ومسعى الإقامة فيها، وانتشار الجوع وصعوبة الطعام والغذاء، ومأزق العيش لليبيين بعامة، ثم تدريبه مع الطليان والليبيين الخاضعين لهم، وسفره إلى الحبشة، نحوتوكيد التأزم في البلاد بأوامر المحتلين.
تنامت الأحداث في الرواية الثانية ” أفراح آثمة ” في الحديث عن أوضاع المجتمع العربي الليبي في زمن الاحتلال الإيطالي الناظم للفقر والجور والجوع والقهر والاستبداد والظلم والتجني، وانتهاك الحرمات في الوطن والمواطنين، مما تعاون الليبيون في الدفاع عن وطنهم،وقام السرد على توصيف شخصيات ليبية وتلاقيها مع المحتلين، وعلى رأسهم السنيورة حورية مع الحاكم المارشال إيتالو بالبو، وانتظام عثمان الحبشي في معسكر “بومليانة “ومصاحبته نورية وإفرازاتها الجنسية، وتسلم المارشال إيتالو بالبو الحكم في طرابلس مع زعيمهم موسيليني، وخرق الإيطاليين للوطن الليبي ومواطنيه.
ولئلا نعرض بقية الروايات، أشير إلى محتوى الرواية الثانية عشرة ” نار في الصحراء ” الضابطة لمعنى الحرية في مفتتحها، فقد قاد عثمان الحبشي معسكر تدريب جهادي في منطقة ليبية قرب قرية أولاد الشيخ وتعاون مع جبهة التحرير
الجزائرية في تنفيذ عمليات ضد القوات الفرنسية المحتلة، وهو شخصية ملتبسة مرّ بأطوار مختلفة من ضابط يخدم في الجيش البريطاني إلى مسؤول أمني في طرابلس، إلى تقي ورع، إلى مناضل ضد الاحتلال ومن اجل الحرية.
ميرانا الصحفية الأنكليزية التي تغطي الأحداث في ليبيا وعلى صلة بالأحزاب الوطنية وقادتها ومنهم تستقي الكثير من الأخبار والمعلومات وكانت صاحبة سبق صحفي في هذا المجال بفضل علاقاتها الاجتماعية والسياسية والعاطفية التي سهلت لها مهمتها أرادت الاقتراب من عالم عثمان الحبشي بعد أن وقفت على ملفه كاملا من قبل من عايشوه، وكانت لهم تجربة معه وخاصة النساء اللواتي شهدن على قوته العاطفية والجنسية، ودخلت إلى عالمه من باب رغبتها بالكتابة عن الحركات المسلحة المناهضة للاستعمار، ومن ثم رغبتها في الانخراط في صفوف هذه الحركات،لأنها من دعاة التحرر الوطني وضد المستعمر والاستعمار ونجحت ميرانا في مسعاها، وأقامت مع عثمان علاقة عاطفية قوية مشبوبة خلال فترة التدريب رغم أنه متزوج وتعرف زوجته، ومن أجله قبلت مهمة في الجزائر وقتلت الجنرال “لانسيو” بمساعدة عثمان الذي سهّل لها الوصول إلى مدبرة العملية السيدة زهور البوسعيدي التي تنتمي إلى أسرة غنية معروفة بصلاتها مع الفرنسيين، فهي التي خططت للعملية ولتهريب ميرانا من الجزائر إلى طرابلس قبل اكتشاف الفاعل.
اثناء وجود ميرانا في الجزائر تعرض معسكر عثمان الحبشي إلى غارة فرنسية بتواطؤ ليبي، وقتل من كان فيه ودمر كاملا ونجا الحبشي بصعوبة ونقل إلى المشفى، وخضع للعلاج ولكن حالته ساءت ودخل غيبوبة، وحين زارته ميرانا في المشفى وسمع صوتها نطق باسمها على طريقته (ميرانيا) وسط ذهول الأطباء، ولكنه فارق الحياة ليلا،وشيّع وسط جنازة شعبية حاشدة جاءت لوداعه كبطل شعبي وقف ضد الظلم والجور والعسف الاستعماري. ” فالمقاومة الشعبية مستمرة في عنفها وزخمها وقوتها، وبأسلوب أكثر شراسة وقسوة مما كان يسمح به الحبشي في حياته. لقد مات الحبشي الإنسان المحكوم بنواميس الطبيعة الإنسانية وما فيها من ضعف وقصور، وولد الحبشي الأسطورة المتحرر من كل ضعف وقصور ” (ص168).
لم تحضر ميرانا دفن الحبشي بل عادت إلى الفندق لتكتب قصته كما عاشتها وعرفتها منه ومن الآخرين لتنقل: ” إلى الناس ملامحه الحقيقية كواحد من الشخصيات المعبرة والممثلة لهذا العصر ” (ص17 ). كما كتبت للصحف عن هذه الشخصية الوطنية وفضحت الاعتداء الفرنسي
على معسكره، ثم تخيلت عثمان الحبشي وهي في غرفتها في الفندق، انها التقت به في مكان لقائها الأول به خارج معسكر التدريب وسط الهضاب، وقد أتاها بثوب فضفاض يمسك بيدها، ويغيب معها وسط الصحراء.” سيدي الحبشي، ها أنت تعود، لأنك تعرف أنني لا أستطيع أن أحيا بدونك، التقينا عند سفح الهضبة، يأخذني بين ذراعيه، وآخذه بين ذراعي نتبادل الأحضان والقبلات، ثم يضع يده في يدي ليسير بي في اتجاه الصحراء تلفح وجوهنا أنسام طرية عذبة مضمخة بعبير أشجار البطم والطلح وحقول الحنطة وأزهار الخشخاش ” (ص169).
العتبات النصية في ” خبز المدينة “:
أوحى عنوان الرواية ” خرائط الروح ” بالدلالة الواسعة عن مأثورات البعد التاريخي والراهن في ليبيا، على أن المعنى كامن في أشجان الأفعال السردية غير المباشرة عند استحضار الأحداث والوقائع والوثائق، فثمة تصوير لوجدان الذات الوطنية والقومية باسم الروح وما ينخرط فيها من خرائط الأحوال والأوضاع المنتشرة في تاريخها وواقعها الراهن، وتعززت هذه الدلالة الواسعة الملحمية في عنوانات الرواية التفصيلية في الأثني عشرية الروائية إلماحا إلى معنى المعنى في كل عنوان مثل ” خبز المدينة ” الذي يؤشر إلى مكابدة العيش عند سحب الاستعمار لموارد الشعب وتفقيرهم وإضعافهم في عمليات الهدم والهدر والنهب والغدر. أما عنوان الرواية الثانية ” أفراح آثمة ” فيوحي بعناءالحب والحرب، فقد صار الفرح إلى الإثم بتخريب العلاقات الوطنية الداخلية عند مواطنين ارتبطوا، مع المحتلين وأفسدوا الأوضاع العامة رجالا ونساء.
أفضى عنوان الرواية الثانية عشرة ” نار في الصحراء ” إلى استمرار الحرب والغزو على الوطن حتى صارت البيئة حريقا، فقد قام الحلفاء بالغارات على العرب،ومنهم فرنسا التي قامت بغارة حربية على معسكر ليبي دون أية مسوغات، على أن الاستعمار الغربي على العرب لا يتوقف، ولا يوافق على الحوار الحضاري، ولا يخفى أن هذا الاستعمار تلبّس الاستهداف والهيمنة من خلال الغزو والحرب وخراب الأوطان، وآخرها احتلال العراق والطغيان على الدول العربية التي تناهضهم دفاعا عن الأمة العربية.
ثم كشفت العنوانات عن هذه الدلالات في المحتويات السردية وعنواناتها الداخلية، فتصدر عنوان “ثريا” الرواية الأولى “خبز المدينة”، وهي المرأة الليبية المحتلة والمسجونة مع زوجها، لأنهم يناهضون النفوذ الإيطالي، ويقاومونه، كما في مخاطبة الراوي تعبيرا عن دلالة العنوان الداخلية: “دائرة النفوذ الإيطالي في القارات السمراء، لا بد أن تزداد اتساعا، لكي تعيد أمجاد المبراطورية الرومانية. هكذا كانت تقول الدعاية الإيطالية، فالحملة على الحبشة لم تكن مفاجأة، ولكن المفاجأة هي الحملة على الأسواق والأحياء السكنية لتجنيد الناس، قبل أن تستطيع الهروب، سدّ الجنود أمامك باب الدكان، وأخذوك تحاول المقاومة والتملص من قبضتهم” (ص57 ).
تركز ت العتبات النصية على الكلمات والعبارات المفتاحية كذلك، فقد أورد ملاحظة تمهيدية من أقوال محي الدين عربي، وأفيديوس بما يؤكد قيام المخاطر على العرب منذ القديم حتى الآن، وقد صوّر أوفيديوس في كلمته تصحر ليبيا بجفاف الينابيع والبحيرات عند هجوم روما لبلدان المغرب العربي ومشرقه قبل الميلاد.
أضاءت العبارات المفتاحية والاستهلالات هذا الشجن الاستعماري، في مفتتح الرواية الأولى، مثلما أدغم الملاحظات التمهيدية والاستهلالات بإحالاته وهوامشه، على أن هذه النصوص المرافقة للرواية نافعة، على الرغم من أنها ” ليست جزءا أساسيا منها ” _ ص1).
حضن مفتتح الرواية الأولى الإشارة إلى خيارات نجيب محفوظ في رواية ” أصداء السيرة الذاتية ” باستخدام الأفكار العامة والهوامش مع أقوال الحكماء مثل الشيخ عبد ربه التائه، و” بمثل ما يكتسح الطوفان الأول العالم القديم، ليهلك أهله الفاسدين، فلا تنجو إلا فئة قليلة من الأخيار، تباشر بناء عالم أفضل بعد الطوفان “(ص3).
وهناك إحالات وإشارات في داخل السرد الروائي، مثل التعبير عن البداية والنهاية في الاحتلال والاستعمار الإيطالي، وما يرافقها من الأصفاد، وأشباح الجثث، والغدر المهاجم، وحريق الوجود، ورعب الكوابيس (ص3- 4)، على الرغم من أن جيش الغزاة، كانوا مجموعة من المجندين مع الجيش الإيطالي، وليس بينهم إلا ضابط الفرقة، والبقية ” صوماليون وأرتيريون وأحباش واثنان من ليبيا ” (ص4).
ثمة إحالات إلى ضنك التقاليد في العيش، في مخاطبة عثمان الحبشي، إلى جانب أوصافها ومشكلاتها مع الاحتلال ” وهذا الموج الصاخب الذي يضرب يصنع رذاذا كرذاذ المطر وهو يضرب لسان اليابسة التي تقف فوقه، فتحس بجمال ذلك الإحساس الذي يعتريك، عندما كنت تخرج مع أترابك إلى الساحات العامة عند هطول المطر ” (ص25)، ثم هناك أيضا وصف مأزق العيش الليبي توطيدا لحماية الوطن بالمقاومة والاحتراب، فعلى الرغم من استسلامهم لواقع الحياة تحت الاحتلال يعتبرون الانخراط في العمل العسكري الإيطالي شيئا مرذولا ومكروها، وصاحبه منبوذا مذموما ” (ص38).
أدانت الإحالات والإشارات الاحتلال الإيطالي الذي يجلب الكوارث، مما يرسخ دفاع ليبيا لمواجهة أبعاد الحرب الإيطالية، وتعالقت الإدانة مع الحوار الذاتي في توصيف العدوان والتحرير من المظالم والخراب، ” المثلث الهمجي القمع والكراهية والاحتقار ” (ص149). ثم أكدت هذه الإحالات والإشارات الانتماءات الوطنية والقومية، واستمرت قضايا الاحتلال والمقاومة في تفاصيل الحياة العامة والخاصة وفقرها من الإيطاليين.
تعمقت العتبات النصية مع التناصات والمتعاليات النصية في الرواية المتميزة ” خرائط الروح “، مثل الإشارة إلى ختام رسالة الشيخ عثمان الشيخ: ” والسلام ختام من كاتب الحروف العبد المعروف عثمان الشيخ ” (ص14) للإيحاء بإثبات الوجود الوطني عند الإيمان والأمان مع العرب والإسلام.
أورد الراوي التناص مع كتاب ” شمس العارفين في الإحاطة بأسرار العاشقين ” للاجتماع ” على الحب الصافي في الدنيا، وتعذر عليها أن تحظى بنعمة الوصال، لا بد أنه نلتقي في النعيم الأبدي، هكذا يقول الأسياد العارفون بأسرار الوجود من أهل الله، إذ ما هو النعيم إن لم يكن تحقيق الأماني والأحلام التي عجز الإنسان عن تحقيقها في دار الفناء ” (ص75)، وهذا التناص ذو فائدة في الخلاص من الضربات الاحتلالية القاسية والتحررمن العذاب والسجن والحبس الانفرادي.. الخ.
ثمة فائدة أخرى في التناص مع المثل الشعبي لتعزيزه مقاومة الطليان ونبذ الخضوع لسلطتهم، فقد وصف المثل الشعبي ” التريس ماتوا يوم الهاني ” ذلك اليوم الذي ” انطلق فيه أهل الشهامة يهبون دمهم للوطن ” (ص77).
تعددت التناصات التاريخية في السرد الروائي لكشف الاحتلال الاستيطاني الإيطالي ومقاومة العدوان من أجل بناء ليبيا والنهوض بها بالإشارة إلى التواريخ والشخصيات والحروب. عبّر التناص مع التعويذات، مثل تعويذة ” الحصن الحصين ” عن سلامة الأوضاع الإنسانية والاجتماعية بتخفيف حدة البكاء، وضياع الأحوال، وهدر الأوقات عند الاستجابة بالمشيئة الإلهية وحسن السلوك،وهدأة النفس، وصلابة الذات.
غيرأن التناص مع الأغنيات الشعبية واسع في فهم الاستعمار والتحرر منه لدى رصد قضاياه ومشكلاته إزاء غدر الصحراء والبحر والقرى والمدن والوطن الليبي ومواطنيهم بعامة (ص26، 29) ثم أوحى التناص، مع اغنية شعبية بأهمية الإيمان وعدم الإخراج من الدين الإسلامي إلى دين النصارى، لأن الأديان لها استقلالها واحترامها (ص62 – 63 – 67) مثلما أفصحت أغنية شعبية ومدلولاتها عن انفتاح المعارك مع الاحتلال الإيطالي وعدواناته (ص70– 79 – 81 – 171).
هناك المتعاليات النصية الباعثة للمعاني والدلالات وما وراء المعاني بالتواصل مع صورة ” يس ” العامرة بآيات الرجاء (ص6 )، وحفظ القرآن وترديد الآيات القرآنية إزاء ضنك قضايا الاحتلال (ص13، 15 )، ومع كتب التراث الرمزية والأسطورة لجلاء العدوان الإيطالي والغربي (ص68)، ومع الرموز والتكوينات الثقافية العربية خلاصا من الضغط على اللغة العربية وتهشيم الثقافة العربية عندما حاولت السلطة الإيطالية الاحتلالية أن تنشر اللغة الإيطالية وفنونها وثقافتها (ص93 – 97 – 106 )، ومع الدلالية في الخطاب التاريخي والإنساني للمقاومة الخارجية والمواجهة الداخلية (ص123 – 127 )، ومع المنظورات اللغوية ومعاييرها من العبارة إلى الدلالة لنفي الاحتلال وأحوال التأزم في الوطن العربي بعامة وليبيا بخاصة (ص154 – 155 ).
عنيت العتبات النصية في رواية أحمد إبراهيم الفقيه في تعميق الرؤى والأفكار دفاعا عن الوطن والمواطنين وحمايتهم، وعن الوجود العربي الأصيل منذ بدء الكينونة قبل الميلاد حتى الزمن الحاضر.