من أعمال التشكيلية خديجة جيب الله.
قصة

الندبة

مروان بن جبودة

من أعمال التشكيلية خديجة جيب الله.
من أعمال التشكيلية خديجة جيب الله.

 

استيقظ مع أول النهار، فتح عينيه فجأة بينما كان يتقلّب في فراشه , وقد شعر بالضوء يغمر المكان, كان دائماً يحاول تصيّد تلك اللحظة و ذلك التحوّل من النوم إلى اليقظة , ولم يفلح في ذلك , نعم استطاع أن يقبض على الحالة العكسية , تلك المرحلة من اليقظة إلى النوم , حينما ينفصل الوعي عن الجسد بينما تظل العينان معلقتان تنظران وتتابعان دون أي استجابة من الجسد.

نظر إلى الندبة الطولية بين اصبعيه السبابة والإبهام وإلى مقدمتهما التي استحالت إلى ما يشبه لون السخام وقد ترك القلم شقا صغيرا أمكن الشعور به إذا ما جعل يطابق بينهما ، نظر إلى المرآة في الحمام , – هذا المشهد – قرأه كثيرا في عدّة روايات ربما آلاف الروايات يُدخل الكاتب هذا المشهد دائماً , يحشره بين الصفحات , أن يقف شخص ما أمام مرآة الحمام وهو متفاجئ بوجهه الشاحب بعينيه الحمراوين و الغائرتين في الأرق وعظام صدغيه البارزة حتى تكاد تشق وجهه بينما تقفز شعيرات خشنة خارج وجهه متناثرة على غير هدى ,ولذلك سنتجاوز – عزيزي القارئ – هذا المشهد رفقا بك .

خرج إلى الشارع، ألقى نظرة جانبية إلى السيارة المركونة منذ وقت طويل , غبار متراكم أخفى لونها الأصليّ, أخذ يسير إلى الاتجاه الآخر وكان أول ما شاهد , صبية يركلون الكرة بأقدامهم الحافية , نظر طويلا إليهم , راقب تحركاتهم المتناغمة بعشوائية , تجاوزهم إلى ناصية الشارع , وقف وجال بنظره يمنة ويسرة كبومة تحاول أن تحيط بالمكان , بالقرب منه ورشة ميكانيكا السيارات, شخص ما يفترش الأرض تحت سيارة لفظت أحشائها , راقبه حتى خرج من تحتها وهو يقبض على أنبوب بينما يبدو فخور بما أنجز , كان الانبوب صدئ جداً , مرره إلى شخص بجانبه كان يبتسم , أمسك بالأنبوب بين يديه كأنه قبض على آلام العالم كله, دخل كلا الرجلان إلى داخل الورشة , مضى في طريقه , اجتاز باب مغلق قبل أن يدخل إلى مقهى عتيق أكسبته السنون وقاراً وجدرانه الباهتة ذوات الألوان غير المعروفة أعطته مسحة من قدسية , كراسيه الخشبية القديمة وطاولاته معدنية السيقان واللوحات الفنية المتشبثة بالجدران كأنها دمامل , كل ذلك أحدث في قلبه وخزة , بالقرب منه كوب من الشاي الثقيل ووريقات نعناع طازجة كأنها قطفت لتوها.

تنفّس ببطء تاركًا الروائح تغزوه , استعاد شيء من إحساس قديم , صور باهتة بدأت تطفو في مخيلته , أمعن في إطباق جفنيه متشبثًا بتلك الصور , اهتزت يده , أصابته رعدة ففتح عينيه مرة أخرى .

طاولة قرب الباب يجلس حولها أربعة أشخاص وهم يتحدّثون بصوت مرتفع وتتعالى ضحكاتهم مع دخان السجائر وروائح القهوة، كانوا ثلاثة وهو رابعهم، راقبهم راقب نفسه، شاهد كل شيء، الهمهمات المضحكة وأصوات الشتاء القادمة من الخارج رغم سماكة الليل، وحينما سقطت منه علبة الدخان أسفل الطاولة، انحنى لالتقاطها وقد ارتكز بيده على سطحها، عند ذلك دخل أحدهم مسرعًا تتقاطر المياه من أطرافه وهو يحمل سلاحاً بين يديه، نظر إلى المكان وتابعته نظرات الجالسين، ماذا فعل ؟! أطلق رشاشه على الطاولة القريبة، تم كل ذلك في لحظة، مات ثلاثة منهم، هم استسلموا لكنّه قرر أن يتشبث بالحياة، غادرت أرواحهم بينما ظل هو، شعر – ربما مسألة الشعور ليست ذات جدوى عند الانسان الذي يقف بين الموت والحياة – لكنّه شعر بأنه يموت فجأة ولم تكن الحياة عادلة بما فيه الكفاية حتى يغادرها مبكراً.

نهض من كرسيه صوب الباب، عاجلته المرآة عند الباب، الندبة الطويلة تبدو على حالها والثقوب الكثيرة جعلت من جسده سماء تتلألأ بالنجوم، غادر المقهى إلى المستشفى، دخل وقد عبر جميع الممرات، وقف أمام زجاج سميك يشف الغرفة، كان يرقد على الفراش والأنابيب الكثيرة تخرج من أنحاء جسده نحو المحاليل المعلقة والأجهزة الأخرى ذات الأصوات الروتينية، نظر داخله , إحدى الثقوب امتلئ بالكامل بينما ظل واحد بالقرب من القلب يفرز قيح صدئ ورغم ذلك فإن الوضع لا يزال مريح بالنسبة له.

___________________

نشر بمدونة الكاتب.

مقالات ذات علاقة

نظـــارةُ أبـي

خالد السحاتي

الداليا – الحلقة الثالثة

المشرف العام

ذاكـــــرة وجـــــع

المشرف العام

اترك تعليق