من الشعراء القلائل الذين لا يسقط شعرهم بالتقادم ولا يعتريه الذبول لأنه إنساني بامتياز , الشاعر مفتاح العماري , ولهذا أعود إليه كل مرة لتجديد التواصل معه ولاختبار تأثيراته السابقة مرة ثانية , وربما العثور على دلالات مغايرة لدلالات القراءات الماضية , ذلك ان شعر العماري إلى جانب أنه شعر يحتك كثيراً بالواقع, له نصيب وافر من الخيال , من خلال صوره الرائقة وتعبيراته التي تضاهي تعبيرات كبار الشعراء شرقا وغربا وتتفوق عليهم , وحتى مفرداته التي ينحتها الشاعر كل مرة وينفض عنها غبار الإهمال ليوظفها في القصائد التي ما ان تحل بها حتى تصبح نابضة بالحيوية ومثقلة بالدلالات , ونستطيع هنا ان نتحدث عن مفردات خاصة به اكتشفها شعرياً وتألقت على يديه بالتآزر مع ما قبلها وما بعدها من كلمات وجُمل بحسب السياق الذي تقع فيه.
إنه مفتاح العماري الشاعر الذي امتلك له من الدواوين اكثر مما أمتلك لأي شاعر غيره , الشاعر الذي نجد في شعره ما لا نجد في شعر آخر , الشاعر الذي يتميز شعره بوجود مسحة غموض طفيف يظل مع القراءة يُحفز ويُنشط القارئ ويُمتن علاقته بالقصيدة , فالقصيدة لدى العماري لا تؤتي أُكلها من أول قراءة والأمر هنا يحتاج إلى انتباه مضاعف وحساسية خاصة من قبل المتلقي , ثم ان هناك ما يمكن أن نطلق عليه اسم الطبقات في شعر العماري , طبقة المُعلن وطبقة المستتر , فثمة خطاب مضمر إلى جانب ما هو ظاهر وصريح , فالشاعر قد يتحدث عن المرارة المترسبة في أعماقه او يحكي قصة انكساره وخيبة أمله ويكتب غربته وقد ينعى عمره الضائع ما بين الثكنات وحياة الجندية التي وجد نفسه بداخلها فقط لان طاغية صور له خياله المريض انه يستطيع أن يكتسح العالم بأفكاره وبجيشه , والشاعر إذ يرى عمره – وهو كل ما يملك – يتسرب من ثقب دقيق إلى ألخواء ويتآكل على مرأى منه لا يمتلك إلا أن يبوح بأوجاعه لعله بهذا الفعل يهدئ من ضراوتها , والشاعر إذ يقول كل هذا يحيل إلى من كان السبب في حصول كل هذا العبث بطريقة أو بأخرى , يحيل إلى الظروف التي جعلت كل هذا يحدث في غياب اية نوازع إنسانية , ولعله إذ يقوله بكل حرقة يمنع تكراره مرة اخرى ويحذر منه.
وهنا نقف بإزاء الخطاب المضمر أو ظل القصيدة وبُعدها اللا مرئي , هذا غير أن القصيدة تنطوي على عوامل جذب أخرى مثل الصورة الشعرية الإستثنائية والتشبيه البليغ الذي لم يخطر على قلب شاعر من قبل وذلك الحزن الخفي والنبيل الذي يجوسها من أدناها إلى أقصاها , وهاته المرارة التي تتسرب إلى السطور لتعطي القصيدة واقعيتها وصدقيتها وتمنحها مذاقها المميز , مزيج من حيل شتى وأساليب في الكتابة عدة هو شعر مفتاح العماري , إذ لا بد من أن يحرك فيك شيئا هذا الشعر ويجعلك منجذبا إليه وإن لم تفعل فتحسس ذائقتك والخلل يتعلق بطريقة قراتك له والأمر يحتاج إلى ما يمكن أن نسميه – وعي شعري أكبر – وإحاطة بالمتاح والمُتداول من الشعر حتى تتم المقارنة والموازنة والمفاضلة.
وثمة نقطة اخرى يجب الإشارة إليها وهي أن العماري في كل ما كتب من شعر وهو غزير , لا نكاد نلحظ ذلك التكرار أو الأجترار لصورة أو لتعبير معين مثلما يحدث في بعض التجارب الشعرية الأخري ودائما نقرأ الجديد والغير مُستعمل ونقف على الإستثنائي , وهذا يشي بتجاوز العماري لذاته في كل مرة يكتب فيها وتفوقه على نفسه , والشعر عند العماري مرتبط بحالات نفسية اكثر مما هو مرتبط بمناسبات خارج الذات وإن كان هذا الخارج لا ينفك يمارس سطوته على الجميع ومن ضمنهم الشاعر , وفيما يمر على الكل بجنازيره الثقيلة لا يسمح له الشاعر بذلك دون أن ينتزع منه قصيدته , وهذا يعد نصرا للشاعر.
ولا يجوز شعراً أن نتحدث هكذا بالمطلق عن شعر العماري دون ان نستأنس بشيء منه , وخير من يقوم بتقديم شاعر هو شعره .
كلما يسهو بابك قليلاً
يتسلل نجم حالم إلى شرفة
روحك النائمة .
وتحت عنوان مقاطع من مطولة شعرية من كتابه ” مدونة النثر الليبي ” نقرأ له هذا المقطع الشعري :-
ما الشعر ان لم يلتقط صوراً تذكارية للعائلة
عيوننا ثرية بالغيم , أقدامنا فقيرة . .
أُمي تعتق شعرها خارج النوم وتنشر القرنفل بقامة فتية
أبي , بجبة شرطي متصالب يروض حصانه الناري على
براري بنغازي الوعرة
جدي الأعمى , واثقا من صلابة خياله يقود الحكايات إلى
مراعيها .
أيضا
ثمة كلب مدلل يتبختر مزهوا بذيله في فيللا
السنيورة مانويلا .
يلعق فخد سيدته كلما تدلى سكان صدرها
وهي تنحني على ياسمين حديقتها .
حدث ذلك قبل أن تترعرع بساتين النفط
عندما كان رغيفنا فخورا بنبله الريفي
مزهواً بأهازيج الرحى وأصالة الملح والبكتيريا
والنار التي تزوجت الحطب .
يحتار المرء حقيقةً في اختيار النماذج الشعرية للعماري لأن شعره ينطوي على طاقة شعرية عالية التركيز وحين تنتقي مقطع شعري معين تشعر بالذنب لعدم اختيار مقاطع شعرية أخرى لا تقل عنه إقناعاً وتتمنى لو أنك تضع كل ما تحبه من شعر ولكنك محكوم بمساحة لا تستطيع تجاوزها و هذا شيء يبعث على الأسف .
ومن ديوان حياة الظل من قصيدة ” بين الوردة وتاريخها ” نقرأ :-
ماذا يعني موت الشاعر يا شريكة صوتي
سوى غياب الضوء الأثير عن جهة الحلم
وسماء المخيلة
حدوث خللٍ ما في العلاقة بين الوردة وتاريخها
أنقطاع الكهرباء عن منازل الطمأنينة وقد استبدت مواسم القتام
بلغة العائلة
وأيضا أهمال الحقيقة وتركها رهنا بدورات الغبار .
موت الشاعر يا حبيبتي
يشي باختفاء نضارة المعنى عن حياة لغة بأسرها
وقد أمست رهنا برفات الذاكرة
حيث ستفقد المعرفة زوادة السفر وهبة النار
وبعد حين ستضيع سلسلة مفاتيحنا , وتتهشم العديد من البراهين
كالأكسجين والموسيقى وبصيرة الماء
اشياء ناعمة ورحيمة وضرورية جدا لكي نستمر في كتابة رسائلنا
وهندسة خرائط عمرنا .
******
وهذا بعضا مما جاء في قصيدة ” كأنك أعمى . . دعها تنتظر ” :-
وأنت تثقب الظلمة بعين خائفة
وخيال مهجور
ثمة شهقة هسيس تتخفى . . كأنك أعمى يا أبن مخيلتي
أقتف دخان محبتك واطرد لغو الريح عن قصيدتك التالية ودع الكلمة الوحيدة تنتظر .
الكلمة الصغيرة الناعمة , التي تتبعها آيات النور
الشبيهة بكتل سابحة في سديم يسافر
الكلمة الهابطة من علو أزرق بشعر مبلول
الكلمة الجريئة وهي تصهل من بعيد الكلمة التي نجمة طليقة ترفرف عيدا في مدارج الوحشة
عصافير حرة في سماء مطمئنة
قوس قزح يزهو بكريستال محبته
الكلمة , المديح للنار جالبة المطر , المديح للألفة التي واءمت بيننا
وبين كل ملح , وماء قليل يتكاثر . . .
لكل واحد يتعدد , الكلمة أبجدية خطف .
الكلمة التي انفصت عراها بين المعاني
وتفتح بريق شهوتها عاليا . . حيث الأسماء تشير إلى
برتقال المسارب الحارة / برتقال الشموس الثملة
بالغة النشوة .
الكلمة ذاتها , تشرد حين تلبي نداء حرف مجهول النسب
الكلمة السخية وهي تقدم أفضل ما لديها
من عصائر ورضاب ونجوم
التي تُركت غفلا بين الخرائب ستدلي بأوصاف مفسديها . .
التي أقوى من ان يقهرها نزيف أو تهزمها فاجعة
دعها تنتظر .
********
ومن نص ” نصف الجسد . . نصف الموسيقى ” نطالع :-
لا بأس يا امي , أنا بخير , وما من شيء يزعجني
غرفتي دافئة , والطبيب حاذق والممرضة حنونة
ما من شيء
فقط سهوت الليلة عن تنظيف اسناني من نتف الحروف الكسولة
كأني سأدع العبارة التائهة رهنا بمخالب لهفتها
وكلما وخز الجوع مخيلتي سالتهم الصور الضالة التي غفل عنا الصيادون
ثم سأفكر في إيجاد مخرج من هذا القتام الذي يجثم على صدري
علّي أنقد ما تبقى من كلمات , بلا أثر لهروبي
سيبحثون عني تحت سجف الأشعار الغامضة واقبية المجاز
كأجمل أسير لتيه البلاغات وخيانة المعنى
سيفتشون في قوائم الموتى والمعاجم والموسوعات وسجلات الشرطة والسجون والمستشفيات
وفي جميع محركات البحث التي في مواقع السماء
لكنهم لن يحصدوا إلا المزيد من السراب
ولن يعرفوا إذا ما كنت من الشهداء أو المفقودين
أو في عداد الأسرى
سأنقرض تماما كأي ديناصور او خرافة تفسخت أجساد قاطنيها
وغدت محض غبار من رفات لا اسم له
غبار يتطاير حزنا كلما خدشت مشاعره معاول الأثريين .
******
وهذا مقطع آخر من قصيدة بعنوان ” فصد معلن لتاريخ الوله ”
في هذا الليل البعيد , لم أجد يا أبي شرفة صغيرة
أضع خدي على نقاوة رخامها , مرتشفا نكهة برودته المنعشة
لعلي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والاعياد
لم أجد بابا رحيما أطرقه
أو قصيدة بريئة من معطف بيرنار .
لم ألتق شاعر حداثة إلا ويدّعي الصداع وعبادة رامبو
وغزو الحانات وتفكيك الجسد
وطرد الجن من أودية الموسيقى .
لم اجد في صندوق بريدي رسالة عشق واحدة
أثق في نزاهة حبرها
لكي ألجأ إليها كشاعر أو كعاشق أو كمتسول
لم أجد وردة أطمئن إلى شوكها
حتى أضعها كتاج على رأس حبيبتي
لأني لم أجد في آخر طبعة رديئة من كتاب ( طوق الحمامة )
حبيبة واحدة لم تغدر بي نزوتها
كلما سرقني الوجع بعيدا عن مزاج مخالبها
فما اكاد أتشبث بمتن عاشقة حتى تنهار جدران محبتي
أثر أول هزة ليقين الخديعة .
ومع ديوان ” حياة الظل ” أخذت قصيدة العماري تنحو نحو اللغة الصوفية التي لم ينجو من تأثيراتها الكثير من الشعراء وتتلون بألوانها , وها هو العماري بدوره يقع أسيراً في حبائل فتنتها , ففي قصيدة ” يا أبوابها التي . . . ” يقول :-
أيتها المستحمة بشمس الالفة
يا أبوابها التي بلون الحنين
أدخلك مرة أخرى بلهفة العارف الذي شفه الوجد . .
فكوني حنونة , كعهدي بك قبل سقمي
ودعيني بعد غياب هدًهُ الوهن أستنشق بارود محبتك
ممددا قرب فمك ,
*********
ولا يجد بأسا في محاكاة ابن عربي في شذراته الصوفية فينشئ قائلاً :-
الكلمة التي لا تشاطرك ثريد سّرها اتركها لسبيل أقفالها , فالصندوق الذي ينطوي على نصف الظل , خفاء ماكر أحذر مغبة فجاءته , قتام غامض لا يعول عليه .
****
الطريق التي لا تهبك إشارات عناوينها
ضياع لا يعول عليه .
******
من يكذب مرة لن تحمد عقباه
ويصير تلطفه رياء لا يعول عليه .
كذلك الحوار الذي يستنسخ ترهاته لا يصل إلى ضفة آمنة
هو متاه لا يعول عليه .
*****
الصديق الذي يأخذ ولا يعطي , لا يُعول عليه
الصديق الذي لا تنل ملح مودته لا يعول عليه . .
الصديق الذي ينثر فضته في الضوء لكي يغوي أبصار الآخرين , نزق مختال بنفسه لا يعول عليه .