اعتراف بالتأويل الوردي لبياض الكوكب
تداهمني بين الحين والآخر موجة من الكآبة، حين أتأمل مشهدنا الثقافي، بل والاجتماعي.. حين أعجز عن الإجابة عن أسئلة مثل: لماذا كل هذا التقهقر؟ وهل نستحق هذه الفوضى؟ فأقاومها بالاستغراق (أو المِلاحة بلغة الإنترنت)، في أرجاء المراجع القديمة المغبرة في الغرف السفلية بمكتبة الجامعة.. بحثا عن حقائق أو أوهام.. عن سمات هويتنا الوطنية.. بحثا عن جمالياتها وتشوهاتها. من حقنا أن نتعرف على المواطن الإيجابية، ولكن دون طمس الفشل والسقطات.
وأقرأ أيضا، ما ينشر لدينا من شعر، ربما طمعا في صورة أو قصيدة حداثية تنتشلني ولو لثواني من سبخ الحيرة. لكنني غاليا ما أصاب بالخيبة. ويلح علي السؤال: ماذا يريد أن يقوله هؤلاء الشباب؟ وهل جلّ القصائد مجرد تأوهات ذاتية ؟ أم رسائل شخصية مراهقة؟ لماذا هذا التسطح والارتباك؟ أم أنهم شعراء بدون قضايا؟ وهل يكون شاعـرٌ دون قضية ؟ ولو كانت مقـت الحضارة، أو مناجاة الكون ؟
اللغة
تعجز أحيانا اللغة اليومية عن التعبير عن انطباعاتنا ومشاعرنا وخبراتنا.. أولا لأن كل هذه التجارب شخصية وذاتية لا تقع خارج دائرة من يشعر بها. وحين نصفها للآخرين نستعمل اللغة المتعارف عليها.. لغة المجتمع بكل قيودها وحرصها على الإخفاء والكتمان. كيف إذن يمكننا تجاوز هذه العقبات لوصف أحاسيسنا واستجاباتنا الوجدانية.. الألم، السعادة، الحب، الحزن، الحياة، الموت ؟ عادة ما نستعيض عنها ببدائلها الموضوعية: الابتسام، الدموع، البكاء، خفقان القلب والتوتر أو الغضب.
لكن الشعراء والفنانين.. يحشدون لنا الصور.. وبذلك يفتحون لنا نوافذ نطل منها على آفاق هذه التجارب العميقة.. يفتحون لنا نوافذ لا أكثر. والشعر الحديث، إذ ألقى جانبا بحيل التشبيه والمجاز العتيقة..الخ، يكتفي بالصور المحضة، المتلاحقة لكي تقرب لنا مفهوم الحزن والخيبة، أو الفرح والأمل.. تماما مثلما يفعل الرسام بالتجريد والمفارقات، أو حتى الاكتفاء بمسطحات لونية لا أكثر.. لغة الفن إذن الإيحاء، لا الصراحة.
نزق
فيما أذكر، قال صالح قادربوه، الشاعر الشاب.. في لحظة نزق، أنه الوحيد الذي يستحق هذا اللقب في ليبيا! أووه ! لكن بعد فترة خـفـتت ردة الفعل الأولى.. وقلت لنفسي: مجرد اعتداد، فمن حق الأديب أن يفاخر بعطائه.. ويصرّ أن يَسمع كلماته من حتى من به صمم !! وإذا توخينا الصدق، نذهب إلى ما هو أبعد، ونقول أن القاعدة هي جرعة من النرجسية التي تبلغ حافة الغرور.. تلك هي سمة كل فـنان.. شاعرا، أو رساما أو ممثلا أو مغنيا. أما التعبير عنها فيعتمد على ذكاء الفنان الاجتماعي وقدرته على إخفاء تلهفه طلبا لثناء الآخرين وتصفـيقهم. إذن فلنغفر لصالح زلـّـته. فكان أن قرأت ديوانه الجديد التأويل الوردي لبياض الكوكب، الذي نشره مجلس الثقافة العام.
ألوان
عرف الإنسان منذ أقدم العصور قوس قزح الذي يظهر في الأفق بعد نزول المطر.. ووله بألوانه، وربما حزن لقصر ديمومته. والأكيد أنه حار في أسبابه. ولم يفهم البشر حقيقة الألوان إلا في قبل قرنين وبين العلماء أن الضوء الأبيض هو محصلة الألوان الأساسية، وبالعكس إذا مررت ضوء الشمس مثلا عبر منشور زجاجي فإنه يتحلل إلى آشعة من ألوان قوس قزح. وكاستجابة لهذه الاكتشافات، ولدت المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي، التي حرص رساموها.. مونيه، غوغان، لوتريك، رينوار.. على رصد تغيرات الأشكال والمباني والعواطف مع تغير الضوء والألوان.
ويبدو أن صالح يرى كل شئ من خلال منشور زجاجي.. لكنه هو أيضا إبن اليوم، عصر الألوان: على شاشة التلفزيون والكمبيوتر، في الفيديو كليب، وفي لافتات الإعلان، ووراء زجاج واجهات بوتيكات شارع دبي في بنغازي أو شارع الجرابه في طرابلس. لقد أمسى اللون خيارا أساسيا.. من البردية إلى غات أو نالوت.. تبرز به الفتاة جمالها، وربة البيت ثراءها، والثري روعة السيارة التي يقودها.
واللون لغة، وإيحاء، وانطباع ورسائل خفية. الألوان أيضـًا استحالة وتغيير.. ومعها تتغير الدلالات: فرح، حزن، إغواء، كآبة، طاقة.
ولكي تفهم شعر صالح قادربوه في ديوانه الجديد، عليك أولا أن تقرأه بعينيك وتراقب تحولات الآشعة الضوئية عنده إلى كلمات وصور وألوان، قد تبدو دونما علاقات.. لأن اللون هو الأساس.. يربط شتى الصور الذهنية. ففي قصيدة أزرق: اللون سوء ظن بالفرشاة، والدهشة احمرار في المكان الخطأ.. ولهذا فإنه حسن الظن بالأزرق. وفي النهاية، ربما لأنه لا يستطيع الخروج من المتاهة، فإنه يركن:
” لـقـــارئة الكـف”،
” لأنها تجيد انتـقاء حليتـها،
تقرأ أيامك حمراء وخضراء وصفراء وسوداء،
…
هل تشترين مستقبلي العجيب،
مقابل حليتك العجيبة ؟!”.
حركة
تتلوى أشعة الضوء فوق سطح مدينة لتضئ المنازل والشوارع والأشجار والأفق.. دونما توقف. وهذا يذكرني بالفنان الأميركي الريادي جاكسون بولوك (ت. 1956) Pollock، الذي فاجأ العالم حين نفـّذ لوحاته، بإدلاق الألوان عليها مباشرة، دون فرشاة ودون حركة مدروسة، معتمدا على ديناميكية اللون من حيث لزوجته وسرعة واتجاه سقوطه وتأثير ارتطامه بسطح اللوحة.. فكان ينتج مسطحات لونية تعج بالطاقة والحركة والألوان.
هذه السينمائية التي تستغل الحركة للتعبير.. لتعريف الذات والأشياء والعواطف.. تبدو واضحة في قصيدة الديوان الأولى “الغريب”.. وليلاحظ القارئ أنها بدون ألوان، أبيض وأسود ! لكنها الحركة.. التي تكشف لنا عن مظاهر الغربة.. إذ يدير صالح كاميرته.. حول الشوارع والعربات والنظرات والقطط والبعوض، ليكتشف أن:
” الغريب الذي تلتف حوله مداخل الشوارع،
الغريب الذي تلتف حوله النظرات القاسية،
الغريب الذي تلتف حوله غربته كربطة عنق”.
صفاقة محببة
هذا هو عنوان القصيدة الثالثة، وقبلها كانت “ليه يا بنفسج” وليس البنفسج من مفردات الدارجة الليبية. هنا يلعب صالح بالصور والكلمات، بنوع من الطفولية غير البريئة.. من باب المشاكسة والاستفزاز.. ربما.. ومن حق الفنان أن يلعب.. فحين سئل بيكاسو مرة عن بعض منحوتاته واحتفاء الناس بها، رد قائلا: ” ذلك شأنهم، أما أنا فألعب لا أكثر!”. وإلا كيف نفسر قوله أنه يجوز للشاعر:
“أن يقول
لأي عابرة في الطريق من الثدييات
قطة أو إمرأة
” تعجبيني””!.
أحلام
الحلم.. جزء من الواقع العقلي.. وبرز أكثر قبل قرن حين منحه العالم النفسي سيجموند فـرويد مكانة شبه علمية، كمصدر لسبر أغوار النفس البشرية.. والتعرف على مكبوتاتها. ومع أنني لست من أنصار فرويد فقد تخطاه العصر، لكن الرجل لم يكن مجرد دجال. وعلى أية حال فإن ” أحلام” قادربوه لا تخص فرويد كما يقول. هناك أيضا حلم اليقظة الذي يواجه به الإنسان الواقعَ المخيب للأمل: ” نحلم باللاشئ.. ولا يأتي.. / نحلم بآخرين يشبهوننا، / فتتكسر المرايا..‘‘. ويحلم صالح بنفسه، بأبيه، بالسجائر، بالسرطان، بالأكاذيب… وفي النهاية يقر بأن الحلم هو انطلاق القلوب في الفراغ الجميل. ولعل الإيهام نوع من الحلم، كما في قصيدته القصيرة التالية، بهذا العنوان.
احتقار
في “ممنوع الابتسام”، يسرد علينا صالح قائمة من الروائح المألوفـة التي عادة لا نكترث بها، لكنها تبدو حقيرة ومقرفة على الورق: رائحة الفاصوليا، رائحة نكتة، حمام بخاري.. بل وروائح لأشياء لا رائحة لها: رائحة جلطة دماغية، رائحة مترجم فوري.. عنده تمسي الرائحة مجرد إشارة لمناخ الزنزانة أو بهو فندق أو روايات سيئة الترجمة أو رائحة قنوات فضائية. وهي مجرد تفاصيل لـ: ” رائحة ملل أحسه الآن‘‘، كما يقول. ويفصح أكثر عن موقفه من الشعر حين يخبرنا في قصيدة” جرد سريع لأوهام المخيلة”:
” الفراهيدي لا يوزع ملوحة البحر الكامل،
في قناني التفاعيل،
إنه يركل كرة الإيقاع إلى شاشة الحاسوب”.
رسوم
هل شِعر قادربوه، شعر الرسوم المتحركة؟ فنحن، وخاصة الأطفال منا، قادرين على استيعاب قفزات المنطق.. حين يتحول طفل إلى إنسان آلي ثم إلى طائرة نفاثة.. تطلق النيران الوهاجة.. نتقبل ذلك حين نراها على شاشة التلفزيون. فلماذا ننكر على صالح هذا الخيال الطفولي المتدفق.. وليس هذا الأسلوب، بغريب عن العقل البشري الذي اخترع شتى القصص والآلهة وقدراتهم الخارقة، واخترع مردة علاء الدين وبساط الريح.. وكتب لويس كارول مدرس الرياضيات قصص آليس في بلاد العجائب، ورحلة عبر المرآة في نهاية القرن التاسع عشر.. قبيل أن يبدع والت ديزني رسوم الميكي ماوس وما تبعها، وصولا إلى توظيف التقنية الرقمية الآن لإنتاج صور وتحولات لم تخرج عن دائرة الحلم، منذ أزل البشرية. وفي قصيدته ” التأويل الوردي”، يبلغ تماهي قادربوه مع الصور المتحركة ذروته، فالشمس تلقي إلى الأطفال بخطتها المشبوهة، وزحل قبل بالصفقة فوهبته الشمس قبعة أكبر من رأسه، والمشتري كان أحيانا يختلس بعض النيازك..!!
تيار الصور
لصالح.. قدرة مذهلة على التقاط مئات الصور. صور غاية في المفارقة، لكنها عنده غير منفرة. ولصالح.. قدرة أكبر على الاندهاش أمام المألوفات والعاديات.. الصور تترى بمخيلته.. وتندلق من ذاكرته.. بسرعة قد تستعصي على المونتاج! وكما يعترف هو في قصيدة ” مدونة عـدم الفهم” :
“يختلف رعبنا عن الغابة،
وليلنا عن حاصل قسمة الماء
على الجذر التكعيبي لأخطائنا”.
ثم ماذا..؟
علينا أن ننتظر مزيدا من المفاجـآت.. حين يستجمع قـواه، وبعد مزيد من خبرات الحياة الفجة، والإحباطات.. وكل ما أرجوه ألا يغادر مشاكساته وأحلامه مهما كانت ألوانها.. حينئذ سيكون لديه ما يقول عن نفـسه وعنـّا نحن، بحـسه القاطع وكاميرته البصرية الفريدة. فهو لا يملك الآن إلا أن يهددك بالتنكيل باسمك كما في قصيدته بهذا العنوان، وأن يرفع قبضته مهددا وشاتما:
“نحن النشيد الوطني،
ولا نعرف أوطاننا،
وفي رواية أخرى،
ولا تعرفنا أوطاننا”!!
إني أحذركم: صالح ما يزال شارعا “لم يصل المخطط بعد”، كما يقول آخر سطر في ديوانه؟.