المقالة

تخريط الوجدان

منذ فترة، أو بشكل أدق منذ غزوة شيوخ الكاسيت لعقول شبابنا، لم أعد أقابل مسلما كما كنت أقابل قبل هذه الفترة، ولم يعد التعريف التقليدي (أخ في الإسلام) دارجا أو كافيا بعد أن بدأت تدخل توصيفات فرعية مربكة تجعلني أحاول أن أعرف مرجعية مَن أمامي قبل أن أدخل معه في نقاش، وغدا هذا التشظي للعقيدة، أو بالأحرى للوجدان الديني، مربكا للعلاقات الاجتماعية التي بدأت تحددها هذه الولاءات المختلفة والتي وللأسف بدأت تتحول إلى موضة أكثر منها اختلافات معرفية أو فكرية، بل إنها بدأت تقترب من طبيعة العقل الكروي الذي يجعل مراهقاً اختار بالصدفة تشجيع فريق كرة متعصبا له بشكل مبالغ فيه، وغير مستعد لسماع أي شيء عن الفريق الخصم أو المنافس، فمدينة صغيرة مثل درنة، يقبع في مدينتها القديمة ثلاثة معابد لأديان مختلفة تفصل بينها أمتار، تحارب فيها الشقيقان لأن أحدهما تابع للبغدادي والآخر للظواهري.

مفهومي للإسلام تشكل فطريا عبر نمط حياتي وروحانية محيطي القريب، وعبر أبي الذي لم يمنعه تدينه حد الورع من أن يكون مرحا متسامحا ديمقراطيا ومحتفلاً بالحياة، وهو الشيخ الأمي الذي كان يدرك فطريا أن الدين طريقة حياة قبل أن يكون طريقة موت، وكان هذا الورع يظهر في سلوكه أكثر من عباداته حتى أن أهل القرية كانوا يعتبرونه وليا صالحا بسبب سلوكه، وهي القرية التي حين أذهب إليها الآن أجد فيها فتيانا شبه منعزلين عن المحيط، لهم ملابسهم الخاصة وطريقة صلاتهم الخاصة، ينظرون شزراً إلى الكبار من آبائهم أو أعمامهم وكأنهم من جماعة أبي لهب، ولأن بعضهم أقاربي جدا دخلت مرة معهم في نقاش ودي، وقال لي أحدهم إن لم يكن لك شيخ تسمع منه وتتبعه فسيكون إسلامك ناقصاً، ونصحني بالابتعاد عن قراءة الكتب، وقلت له شيخي هو أبي الذي تعرفه جيدا وسردت له إحدى حكاياته التي كان تأثيرها في قويا في فترة مبكرة من حياتي.

الحكاية: بداية السبعينيات، وبعد أن بدأت ليبيا تعيش بعض الانتعاش الاقتصادي بسبب بدايات تسويق النفط، وإثر التغيير الذي حدث في ليبيا ونقلها إلى واقع سياسي شبيه بالواقع الناصري في مصر، بدأ أخواننا المصريون يأتون إلى ليبيا بشكل كثيف بحثا عن لقمة العيش، البعض يأتي عن طريق عقود رسمية، والبعض المفتقر للإمكانات المادية أو المهنية يأتون تهريبا عبر الحدود، وكنا نسميهم (السلكاويين) نسبة إلى السلك أو الأسلاك الشائكة التي ابتدعها غراسياني على الحدود بين الدولتين من أجل محاصرة المقاومة في المنطقة الشرقية آنذاك، كان هؤلاء العمال يسلكون دروبا بعيدة عن المدن وعن بوابات الأمن، ويتعاملون غالبا مع الريف والبادية، من مزارعين ومربي أغنام في مواسم الحصاد وفي الرعي، أو يقومون بإنشاء الأسوار من الحجر الجبلي، أو يحفرون آبارا سطحية، أو يقومون بصناعة الفحم من حطب الجبل الأخضر.

استأجر أبي مرةً ثلاثة مواطنين لحصاد المحصول، لكن يبدو أن حصاد القمح والشعير لم يكن مهنتهم الأصلية، فاختفوا بعد ثلاثة أيام، وكان علينا أن نشرع في الحصاد بأنفسنا كما تعودنا، لكننا لاحظنا في الأيام التالية ذهاب أبي بعد ارتفاع الشمس إلى الحقول المجاورة على غير عادته، ثم يعود بعد ساعات بحجج مختلفة يقولها لنا، وفي اليوم الثالث توقف عن الذهاب لنعرف فيما بعد أن رحلاته التي كان يمشيها على قدميه كانت من أجل البحث عن هؤلاء العمال الذين اختفوا، وفي اليوم الثالث وجدهم في مكان يبعد تقريبا خمسة كيلومترات وهم يقومون بردم الحطب لتحويله إلى فحم، عثر عليهم ليوفيهم حقهم مقابل ثلاثة أيام عمل، وعاد ليباشر الحصاد معنا.

شكل هذا الموقف شعورا عميقا في داخلي بجوهر الضمير، وأنا أدرك أن مزيجا من الوازعين، الاجتماعي والديني، كان وراء قلق أبي من عدم إيفاء الأجراء حقهم، وشكل أيضا بالنسبة لي مفهوم أن تكون ملتزماً في تلك السن المبكرة، وكانت وصية أبي التي يكررها لنا مراراً (إياكم وعرق الأجير) وحثنا على أن ندفع له قبل أن يجف عرقه.

هكذا ورثت تلقائيا هذا الحس بالمسؤولية تجاه الآخرين، وعشت في محيط متجانس روحيا ووجدانياً، ولم يكن، في تلك الفترة، ثمة فارق بين الناس في عقائدهم المشتركة ولم يكن ثمة نقاش حاد أو توتر كما نشهد الآن، أو خلافات سببتها موجات الكاسيت التي هاجمتنا منذ الثمانينات بخطب شيوخ متوترين ، كلٌ يدعو إلى مذهبه الخاص، حتى وصلنا إلى فضاء الإنترنت والقنوات الدينية المتنافسة على أتباع شيوخها من المشاهدين البسطاء، والتي وصل بها الأمر لتوحي للكثيرين بأن حياتهم السابقة كانت كلها جاهلية. لم نكن نعرف هذا الاختلاف الذي وصل إلى شكل الملابس وملامح الوجه، والذي جعل تلميذات الابتدائي يذهبن إلى مدارسهن متحجبات.

ما أعنيه بقولي “أني منذ فترة لم أقابل مسلماً” هو أن ثمة تيارات عديدة دخلت على هذا المجتمع بل غمرت المنطقة برمتها، فغزتنا التنظيمات والجماعات الدينية التي تجاوزت الإسلام الجامع إلى طوائف وشيع ومذاهب متناحرة ومتنافرة، يكفر بعضها البعض، فحين يتحدث شيخ في قناة فضائية لا يكفي معرفتك به كعالم (مسلم)، ولابد من معرفة مرجعيته المذهبية كي يُقيّم من خلالها وليس من خلال ما يقوله، وهذا التشظي في الوجدان الديني انتقل إلى شوارعنا ومساجدنا وبيوتنا ومقابرنا، وأصبحت الثياب أو شكل اللحية والشوارب علامات دالة على خلفية هذا الشخص الذي لم يعد يكفي أن تقول عنه أنه مسلم وكفى، ولابد من معرفة مذهبه، مثلما المواطن الليبي يحتاج غالبا للتعريف بقبيلته أو عشيرته كي يثبت مواطنته.

كل هذا الصراع، وكل هذا الرياء والتباهي باستعراض الإيمان، وكل هذا المشي مرحا في الأرض لمن يُظهرون عبر الهيأة إيمانهم وتعاليهم على العوام، لا يعنيني، ما يعنيني هو إسلام أبي وجيله الطيب وتلك الحكاية التي علمتني ماذا يعني أن تكون إنساناً قبل كل شيء، وأن يكون ضميرك حاضرا في كل تصرف، وأن أي دين هو في الأساس منظومة أخلاقية سلوكية جوهرها المعاملة والخوف من أذى الآخرين، إخواننا في الإنسانية، أو إهدار حقوقهم، وأخطر ما يتعرض له (إسلامنا) الآن أنه ابتعد عن كونه روح المجتمع بخصائصه الاجتماعية وقيمه السلوكية، وعن روحانيته لصالح الطقوس والقشور والاستعراض والموضة بلا حدود.

مقالات ذات علاقة

جمال الصوت والأداء قبل حُسن المظهر لدى الفنان الليبي محمد السليني

زياد العيساوي

التحفظ الاجتماعي

المشرف العام

من وحي اليوم العالمي للكتاب

المشرف العام

اترك تعليق