من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
قصة

خطأ مطبعي

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

 

نفض الغبار الَّذي علق ببدلته، ثبتَ شعره الرمادي إلى الخلف بتمرير كفِّه ببطء عليه، عدّل نظارته الطبية ثُمَّ ابتسم لصورته في المرآة وغادر المكان… بخطوات متردد دخل القاعة، صدمه الازدحام الكثيف، والجلبة المرتفعة، ضغط على مجموعة مِنَ الأوراق كانت بين يديه وهو يحاول السَّيطرة على الرُهاب الَّذي بدأ ينشر الارتعاش في كُلِّ خلية في جسده.

– “هذه خطوة مهمة، ويجب أنْ أستفيد منها للتدريب على مواجهة الجموع”

خاطب نفسه بحزم، ثُمَّ أسرع بخطواته نحو المِنَصَّة. خلال الممرِّ الطويل الَّذي يؤدي إلى المِنَصَّة، ويقسم الصَّالة قسمين أخذ يوزع النظرات والابتسامات و التحايا على أشخاص لَمْ تسعفه الذَّاكرة للتعرف على واحد منهم. أحسَّ بالحرج والغربة مع ازدياد سرعه نبضه، وتسلل حبات العرق عبر مسام جبينه.

– “ربما بسبب الارتباك ضاعت الذَّاكرة”

هكذا مَنَّى النفس، وعاد يحاول – بجهد مضاعف – السَّيطرة على نفسه. تابع سيره بين الجموع المتراصة، الجالسة حول الطاولات مطأطأ الرأس، مسرباً بين الحين والآخر نظرةً مرتبكةً خجول إليهم ، بينما كان يربت بمنديل ورقي – يسحبه مِنْ جيبه – على جبينه المُندَّى.

كانت محاولة السَّيطرة على نفسه، والتعرف والتواصل مع الحضور، والوصول بسلام إلى المِنَصَّة، مهام ثلاث لَمْ يتخيلها أبداً بمثل تلك المشقَّة والصعوبة حين كان يؤسس لحزبه النَّاشئ. طوال سنة مِنَ التنظيم والعمل الجماعي والدِّعاية، والتَّسول أيضاً استطاع هو ورفاقه أنْ ينشؤا نواةً لحزبٍ سيصارع ليأخذ مكانه في السَّاحة السياسية في البلاد، وسيكون له شأن كبير بين جماهير هذه المدينة، بَلْ و في البلاد بأسرها. ولأنَّه شخصية لا تحبُّ الظُّهور، وإنَّما يهمه العمل فقط، فقد حرص على البقاء في الخلف دائماُ، وقدم إخوته وأقاربه ونسباءه (رفاقه الَّذين ضمَّهم الحزب).

غير أنَّ تكالبهم على الظهور، وحرصهم على الشُّهرة قد أثار في نفسه التساؤلات، واقتنع بنصيحة صديق أخبره بصدقٍ أنَّه إذا أراد لحزبه أنْ يستمر فعليه أنْ يكون هو قائده لا غيره، وبناءً على نصيحة هذا الصديق أيضاً فقد قرر أنْ يحتفل بمرور سنة على إنشاء الحزب، ويظهر للنَّاس، ويعلمهم أنَّه هو مؤسس الحزب وقائده، وأنَّه سيكون معهم في مثل هذا الوقت مِنْ كُلِّ عام للاحتفال بيوم الحزب واستعراض ما أنجزه.

قبل أنْ يصعد درج المنصَّة ارتفعت الموسيقى بالنَّشيد الوطني، فجمد في مكانه، رِجلٌ على الدرجة الأولى، ورِجلٌ على الأرض. لعن أولئك الَّذين كلفهم بتنظيم الحفل وهو يردد بصوتٍ مرتعشٍ مشروخ: “يا بلاااااااااااادي. ..يا بلاااااااااااادي بجهادي وجلااااااااااااادي.

– “لابد أن هذا الفعل مقصود، إنهم يرغبون في إحراجي وإزاحتي، لقد كانت زوجتي على حقٍّ حين حذرتني مِنْ مكائدهم مؤكدةً أنَّ الأقارب عقارب”.

قال ذلك في نفسه وهو يسحب رجله مِنْ على الدرج ليضعها ببطء وحذر بجانب شقيقتها. وكأنَّ الحماس قد تسرب مِنْ كلمات النَّشيد وموسيقاه فشدَّ مِنْ عزيمته، قفز – بعد انتهاء الموسيقى – بخطوات أكثر ثقة إلى المِنَصَّة بعد انتهاء النَّشيد وغَرَقِ القاعة في التصفيق والهمهمة.

– “لن يترك فرصة لأحد ليغلبه، هذا أوان الجد”

حدَّث نفسه بذلك، ثُمَّ بسط الأوراق أمامه، قرّب مكبر الصَّوت مِنْ فمه، نقر بإصبعه فوهة المكبر ليتأكد مِنْ أنَّه يعمل بشكل جيد، وعندما ترددت نقراته عبر الصَّالة مضخمة، تنحنح وقال: “أيها الأحرار……”… قاطعه أحد المنظمين للحفل واضعاً كفَّه على فوهة مكبر الصَّوت ليمنع وصول كلامه إلى الجموع: “يا أستاذ عبد الرؤوف، لَمْ نتفق على ذلك، يجب أنْ تكون أنت أول مَنْ يحترم النظام”… أحسَّ بوجهه يحترق، وبأنَّ قبضة يده تتشنج وتستعد لردِّ ما اعتبره صفعة.

– “أنا رئيس الحزب يا جاهل”

خرجت عبارته وسط عاصفة مِنْ لعابه المتطاير وبعض مِنَ الزبد المتجمع على حافتي فمه، الأمر الَّذي جعل الرجل الآخر يتحرك ليصنع بجسده حاجزاً بين رئيس الحزب الثائر والجمهور النَّاظر المنتظر.

– “(على عيني وراسي) يا أستاذ، لكن مِنَ اللياقة أنْ نقدم الكلمة لمن يعنيهم الأمر أولاً، ثُمَّ تتحدث حضرتك باسم الحزب”
– “هذا الأفَّاق يريد أنْ يعلمني أنا أصول اللياقة”

استشاط غضباً بهذه العبارة الَّتي دارت في نفسه، لكن تساؤلاً اعترض ثورته، ولنقل صدمه قليلاً، فتراجع الغضب ليحلَّ محله فضولٍ مرعوب.

– “مَنْ تعني بمن يعنيهم الأمر؟”

ناوله الرجل الآخر قائمة وهو يقول في لهجة مَنْ يريد الخلاص: “هاكَ انظر بنفسكَ”… تفحَّصَ عبد الرؤوف القائمة، عدّل نظارته ليتحقق مِنْ محتواها، كانت مرتبة ومرقمة : كلمة رابطة الشهداء، جمعية أم الشهيد، منظمة شهداء بلا حدود، تجمع أسر الشهداء، إئتلاف شهداء الحرية…. تصاعد في نفسه الفرح كلما مضى في قراءة القائمة.

– “ما أجمل أنْ يتعاطف البسطاء مع حزبه الناشئ!”

اتسعت ابتسامة على وجهه، رفعت تجاعيد شدقيه راسمةً أنصاف دوائر فوق زاويتي فمه. أضاء الفرح في عينيه، ونظر إلى الرجل مِنْ لجنة التنظيم معتذراً. تراجع إلى الخلف وهو يهز رأسه طرباً، نزل مِنْ على المِنَصَّة وهو يوزع نظرة امتنان إلى الجموع الغارقة وسط الضجيج وسحب الدخان. جلس على أول كرسي رآه فارغاً، وهو يزفر بفرح و ارتياح، فوجود كُلَّ مَنْ له صلة بشهداء الوطن يعني أنَّ الحزب قد نال رضا الأغلبية، وأنَّ قاعدته أقوى القواعد لأنَّها تستند على أهمِّ وأكبر شريحة اجتماعية وهم الشهداء.

لكن وخزة خفيفة مِنَ النَّدم ظلت تكدر عليه صفو ابتهاجه. لابد أنَّ هؤلاء النَّاس الَّذين أحبوا حزبه لا يعرفون أنَّه هو مَنْ أنشأه، وهو السرُّ وراء نجاحه، وهو الحزب بكل ما فيه مِنْ ألفه إلى يائه، لكن بسبب هذا الرُهاب الاجتماعي الَّذي يعاني منه كان قد كبَّل طموحاته، ووقفت الرهبَّة و التردد سدَّاً بينه وبين معرفة النَّاس له. تحرك في مقعده، وهو يوطَّدُ العزم على نسيان الماضي والاستعداد للمستقبل الواعد بهذا الحشد الرائع.

توالت الكلمات، وتقاطرت الشهقات والدموع فوق المِنَصَّة، كلمات كُلّها بدأت باسم الله ثُمَّ الوطن، وانتهت كُلّها بنعي الشهداء والوطن، غير أنَّها اتفقت جميعاً على عدم ذكر كلمة واحدة عَنْ حزب الوطن الَّذي يرأسه، ولا حتَّى كلمة شكر.

– “جميل هذا الحفل، لكن ينبغي أنْ تُعلم أصحابك في الحزب كيفية الكتابة الصحيحة.”

جملتين رماهما الرجل الَّذي يجلس بجانبه وهو يفرك يديه ببعضيهما وكأنَّهُ يستعد لوليمة. نظر إليه بقدرٍ كبيرٍ مِنَ الشكِّ، وببعض الحقد على هؤلاء العقارب الَّذين عَلَقُوا بحزبه.

– “ماذا تعني؟”
– “تفحَّصْ بطاقة الدَّعوة، والَّتي هي ذاتها الإعلان الَّذي عُلق في الشوارع وعلى الطرقات”

نزعَ نظارته ووضعها على الطَّاولة، فظهرتْ الهالات السواء حول عينيه لجليسه مرعبة. كان يرغب في مزيدٍ مِنَ التوضيح لكن الأفكار الَّتي تزاحمت في رأسه شوشت تفكيره، فلم يركز على نقطةٍ محددةٍ، فما كان مِنْ جليسه إلا أنْ أخرج بطاقة الدَّعوة مِنْ بين مجموعة أوراقٍ كانت أمامه، وناوله إيّاها. قرَّبَ البطاقة مِنْ عينيه وقرأ: “… نتشرف بحضوركم إلى يومِ (الحُزْن الوطني) الَّذي سيُقام….”

– “لنْ يحسبها علينا جريرة هذا المتبجح”

قال ذلك في نفسه وهو ينظر إلى جليسه وكأنَّهُ هو مَنْ طبع تلك البطاقة. نهضَ مِنْ مكانه بحزمٍ، أحسَّ وهو يصعد الدرج أنَّه متحرر مِنْ كُلِّ رُهاب وخوف وتردد. اعترضَ طريق مُقدم الحفل بحزم، نزع مكبرَ الصَّوت مِنْ مكانه، قربه مِنْ فمه: “لديّ كلمة يا سادة، وأرجو مِنَ الجميع أنْ يَسمعْ”…

غرقتْ القاعة فجأةً في الهدوء، حتَّى إنَّه سمع صوت أنفاسه مضخَّمةً في القاعة عبر مُكبر الصَّوت. تابع كلمته معتذراً عَنْ الخطأ المطبعي: “…. فما هذا يوم الحُزْنِ الوطني و إنَّما يوم الحِزْبِ الوطني، لأنَّ الحُزْنَ لن يبنينا، نحن نحتفل للغد للفرح وليس للحُزْنِ….”…

ظلَّ يواصل الاعتذار والتوضيح والدَّعوة إلى الانضمام إلى الحزب الوطني فيما كانت عيناه تتابعان بحسرة انسحاب الجموع مِنَ القاعة، جماعات وفُرادى حتَّى لَمْ يتبق أمامه سوى أقربائه، أعضاء الحزب، مع ذلك المتبجح الَّذي ملأتْ ابتسامته كُلّ الأماكن الشاغرة.

مقالات ذات علاقة

عدوى

هدى الغول

قصص مهرجان حلب العاشر للقصَّةِ القصيرة جدًّا.

جمعة الفاخري

سعير الحرب والذكريات

إنتصار بوراوي

اترك تعليق