في هذه الأيام، يصعب على المرء أن يخوض حديثاً في السياسة أو في السياسات العامة من دون ذكر عبارة “المجتمع المدني”، لذلك يمكن له أن يفترض، وباطمئنان، أن الساسة وأهل القرار لديهم فكرة واضحة عما يعنون عندما يستخدمون هذه العبارة، وأنهم يدركون أهمية وضرورة المجتمع المدني . ولكن، ولسوء الحظ، سيكتشف غياب الوضوح والدقة عند استخدام هذا المصطلح . فالمعني سيختلف طبقا للصيغة المفضلة لدى القائل، فمعهد كاتو*، على سبيل المثال، يُعرِف المجتمع المدني “كوسيلة للحد وبشكل رئيسي من سيطرة السياسة علي المجتمع وذلك من خلال توسيع الأسواق الحرة والحرية الفردية “، بينما المنتدى الاجتماعي العالمي يراها ” كأصلح بديل لمقاومة طغيان الدولة والسوق “، أما حزب العمال الجديد فيعرف المجتمع المدني على أنه الحلقة المفقودة في نجاح الديمقراطية الاجتماعية، و”الوصفة الناجحة للعلوم الاجتماعية “و” التحليل الجديد الذي سيفتح أسرار النظام الاجتماعي “،” أخر وأفضل أمل ” للحكم الرشيد وللنمو الذي يحد من الفقر .. كما روج الحزب أن السبب الحقيقي لاشتراكه في الحرب ضد العراق هو خلق المجتمع المدني في الشرق الأوسط..(!). وهكذا نجد تباين وتعدد الآراء بشأن هذا المفهوم فالبعض يرى أن المجتمع المدني هو نتاج لتطور الدولة القومية الرأسمالية بينما يراه البعض الآخر باعتباره تعبيراً عالمياً عن الحياة الجماعية للأفراد وأنه سبق وأن وُجِد في جميع البلدان وفي مختلف العصور، ولكنه يتخذ أشكالا مختلفة وفقا للتاريخ وللسياق.
هذا يدفعنا مجددا للتساؤل عن طبيعة المجتمع المدني، .. هل هو إحدى قطاعات المجتمع أم أنه وثيق الصلة بتطور الدول والأسواق؟ هل هو حكرا على فئات محددة سلفا، كالفئات الديمقراطية والعصرية والمدنية’، أم أنه يضم جميع أنواع الجمعيات، بما فيها ‘الجماعات الغير مدنية’ والجمعيات التقليدية القائمة على الخصائص الموروثة مثل الدين والعرق؟ وهل الأسرة مكون من مكونات المجتمع المدني؟ ثم ماذا عن قطاع الأعمال؟ هل المجتمع المدني هو الحصن المنيع ضد الدولة، أم أنه يعتمد بدوره على تدخل الحكومة من أجل وجوده؟ هل هو أساسي في حماية حقوق الفرد من خلال تجربة التعددية ؟ أم أنه يمثل تهديدا للديمقراطية من خلال المصالح الخاصة التي قد يمثلها؟ هل هو أسم — إي جزء من المجتمع، أم أنه صفة ملاصقة لنوع من أنواع المجتمعات ؟- هل هو ساحة للجدال الاجتماعي ؟ أم مزيج من تعريفات وخصائص عدة..؟.. ما الذي بإمكاننا فعله إزاء فكرة غير واضحة المعالم وذات تعاريف هلامية الشكل؟.. هل يمكن لكل وجهات نظر المختلفة جذريا مع بعضها البعض أن تكون صحيحة؟.. هل يمكن التوفيق فيما بينها؟.. بل هل ينبغي لنا أن نحاول؟ ..أم أن علينا التخلي عن هذا المفهوم المربك، والانضمام إلى رد فعل المتنامي ضد فكرة المجتمع المدني، وضد أوجه قصور منظمات المجتمع المدني ؟
هذه هي الأسئلة هي التي سعى كتاب الكاتب مايكل ادواردز للإجابة عليها. منطلقا من أن المجتمع المدني يعني في واقع الأمر أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين في أوقات مختلفة وأن هناك العديد من المواقف المختلفة من المجتمع المدني، وأن كل منها يمكن أن يكون مفيداً ومشروعاً في سياق أو أخر. وقد حدد الكاتب هدفه بالسعي لتوضيح معنى المجتمع المدني، لأن مثل هذا الوضوح “يمكن أن يكون أساسا لحوار مجدي مستقبلا حول المجتمع المدني– حول الإمكانيات والاحتمالات في كل من النظرية والممارسة، وللتنبيه من محاذير ومخاطر استخدام هذا المصطلح باعتباره شعار سياسيا أو ملجأ للفكر والعقيدة.” كما بين الكاتب بأن هذا الوضوح لا يعني بالضرورة مجرد التوافق بين الآراء المختلفة.
* البحث عن رؤية جديدة
نقطة البداية بالنسبة للكاتب كانت تفكيك الآراء القائمة حول المجتمع المدني إلى ثلاثة مدارس فكرية متباينة وهي :
– المجتمع المدني كبوتقة لجمعيات العمل الأهلي والتطوعي (الرأي الأكثر شيوعا).
– المجتمع المدني كنموذج للمجتمع الصالح أو المثالي(الذي تسعى هذه الجمعيات لتحقيقه أو خلقه).
– المجتمع المدني كمجال عام — إي كمنبر أو منتدى يتناقش المواطنون من خلاله في قضايا الساعة ويصلون إلى نوعا من التوافق السياسي.
ثم أعاد بعد ذلك بناء وصياغة هذه الرؤى الثلاث في رؤية جديدة ومتكاملة وأكثر إقناعا حول المجتمع المدني.
تؤمن المدرسة الفكرية الأولى بأن الجمعيات الأهلية هي بمثابة “جينات تحمل صفات وخواص المجتمع الخير” وتنشر قيم مثل التسامح والتعاون، وتخلق المهارات اللازمة للحياة الديمقراطية. المشكلة الحقيقية هي أن هذه المؤسسات تحوى بطبيعة تكوينها أنواعاً مختلفة البشر يحملون قيم ومعتقدات مختلفة ولهذا السبب فأنه نادرا ما يمكن للجمعيات الأهلية تأمين مستوى من التوافق السياسي اللازم لتحقيق قاعدة عريضة من الإصلاحات الاجتماعية. ومن هنا تبرز أهمية المدرسة الثانية لأنها تضع مساهمات الجمعيات الأهلية في سياقها الصحيح، وتصر على أن إحراز التقدم نحو تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والأهداف السياسية يرتبط بالعمل عبر مجموعات مختلفة من المؤسسات، بما في ذلك الحكومة وقطاع الأعمال. أو كما يعبر عنه بالقول الشهير “حسن الجوار لا يمكن أن يحل محل حكومة جيدة”.
ومع ذلك، إذا كان بناء المجتمع الصالح يتطلب تنسيق العمل بين مختلف المؤسسات ليصب في اتجاه واحد، فكيف ستتمكن المجتمعات من تحديد هذا الاتجاه؟ وكيف يمكن التأكد من أنه الاتجاه الصحيح في ظل ظروف ومعطيات تتغير طوال الوقت ؟ كيف سيتم الاختيار والمفاضلة والتفاوض للوصول في نهاية المطاف إلى توافقات عادلة وفعالة؟
من أجل الإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نلجأ للمدرسة الفكرية الثالثة، والنظر للمجتمع المدني والمجال العام من خلال مفهوم عام وشامل كالصالح العام أو الوطنية – هذا المفهوم السياسي الذي يهتم بالمصالحة العامة ويسعى لتحقيقها ديمقراطيا — وهو أمراً أساسياً في فكر المجتمع المدني. (تطوير المصالح المشتركة، والتنازلات المتبادلة، والقدرة على تفهم الأخر، والتعامل بفعالية مع الآخرين، والالتزام بالحلول السلمية) كل هذه الصفات التي تخلق إدارة فعالة وتطور القدرة على حل المشاكل، والوصول إلى حلول سلمية للخلافات التي بيننا.
في دوره الوطني، يتحول المجتمع المدني إلى ساحة للنقاش والجدال وللتعاون بين المؤسسات ويصبح ازدهار هذه الساحة أمرا حاسماً لازدهار الديمقراطية. أما ذا لم تتمكن وجهات نظر معينة من التعبير عن نفسها، أو تم تغييبها، أو استبعادها وقمعها،أو إذا احتكرت مجموعة واحدة أسماع صوتها فأن مصالح الناس ستتضرر.
يرى الكاتب أن كل واحدة من هذه المدارس الفكرية مفيدة ولكنها غير مكتملة، لذلك فالنهج الأفضل هو تبني رؤية شاملة تجمع عناصر المدارس الثلاث ” فالمجتمع المدني يزداد قوة وتأثيرا كفكرة وكأداة للتغيير الاجتماعي عندما يخلق تكاملاً بين عناصر القوة وعناصر الضعف في كل من المدارس الثلاث.” فرؤيتنا للمجتمع المدني كالمجتمع المنشود أو المثالي تدفعنا نحو تحقيق أهداف مثل الحد من الفقر وخلق الديمقراطية الفعالة التي تتطلب التعاون بين مختلف المؤسسات. وعندما تكون مثل الرؤية واضحة أمام أعيننا فإنها ستساعدنا على الحذر من الميل لتعزيز بعض المؤسسات على حساب أخرى. كالانحياز للدولة على حساب الجمعيات التطوعية، على سبيل المثال، أو للاقتصاد الحر على حساب الاثنين . ومع ذلك، فالرؤية الجيدة لا تكفي لوحدها. بل يجب أن تتوفر الكيفية التي يمكن تحقيق الأهداف بها. وهنا تبرز أهمية دور الجمعيات الأهلية. يمكننا القول إذن أن الرؤية تحقق لنا التركيز على الثغرات ونقاط الضعف في حياة المنظمات الأهلية والتي يتعين التصدي لها إذا أريد لها أن تكون وسائل فعالة من أجل التغيير. كما أن الاختلافات وخصوصيات هذه المنظمات ستولد أراء متضاربة حول الغايات والوسائل السليمة للمجتمع. ولكن دون الرؤية الوطنية لن تكون هناك وسيلة عادلة وديمقراطية ولن نجد طريقا للتوفيق بين وجهات النظر هذه ولتأمين توافقا سياسيا في الآراء حول أفضل السبل للمضي قدما. وبالمقابل فأن وجود مناخ جيد للعمل لن يتحقق سوى من خلال المنظمات الطوعية ووسائط الإعلام التي تتيح للمواطنين نقاش قضاياهم . وأخيرا، فإن الانجازات وحدها هي التي تخلق الاستقلال وتكافؤ الفرص التي يميز الحياة الديمقراطية — عن طريق الحد من عدم المساواة، على سبيل المثال، وضمان حرية تشكيل الجمعيات.
* أين يتركنا هذا من حيث السياسة العامة؟
أنه يحررنا من الوهم الذي يدعي أن بناء المجتمع المدني يتحقق من خلال إنشاء المزيد من المنظمات غير الحكومية أو تشجيع العمل التطوعي – وهي تدابير لوحدها لن تحقق شيئا يذكر. وبدلا من ذلك، يجب أن نركز على تعزيز الشروط المسبقة وعلى التفاعلات بين الجمعيات الأهلية، والصالح العام وأفكار المجتمع المثالي لخلق بيئة يمكن فيها تحقيق السلام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا يعني “محاربة جميع أشكال عدم المساواة والتمييز، إتاحة الفرصة أمام الناس للانخراط في العمل الوطني، والقيام بإصلاحات سياسية لتشجيع المزيد من المشاركة، وضمان استقلال الجمعيات وهياكل الاتصال، وبناء أساس متين للشراكة المؤسسية للتحالفات والائتلافات.”
ماذا بعد ؟
يختتم الكاتب تحليلاته بالقول أن ” المجتمع المدني يواجه، دونما شك، العديد من علامات الاستفهام الضخمة سواء من الناحية النظرية أو من ناحية كونه أداة للتغيير الاجتماعي، ولكني اعتقد أن الدقة والمرونة والانفتاح التي يتحلي بها هذا المفهوم تجعل منه إطارا مثاليا لاستكشاف قضايا الساعة، وهي وظيفة لطالما مارسها المجتمع المدني منذ أيام الإغريق”. هذه الوظائف كما يراها الكاتب هي ” تحديد طبيعة المجتمع الصالح، وحقوق ومسؤوليات المواطنين، وممارسة السياسة والحكم، وكيف نعيش معا في سلام من خلال التوفيق بين مصالحنا الفردية وطموحاتنا وتطلعاتنا الجماعية، وتحقيق التوازن بين الحرية وحدودها، والتوفيق بين شروط الاختلاف ومتطلبات التماثل بحيث تستطيع مجتمعاتنا المعقدة التركيب من أن تعمل بكفاءة وعدل.” ولأن جوهر المجتمع المدني، هو العمل الجماعي — في الجمعيات، والعمل الوطني، ومن خلال المجتمع – فأن المناقشة التي نمت حول هذا المصطلح، “تذكرنا بأن الجهود والتجارب الفردية لا يمكن أبدا أن تكون بديلا عن علاقات المحبة والتضامن والتضحية والصداقة التي هي جوهر الطبيعة البشرية.” وفي الوقت الذي تشهد فيه هذه العلاقات توترا شديدا من جانب تغييرات تطرأ على المجتمعات وعلى العلاقات الدولية، وعلى الاقتصاد، فقد يكون هذا هو أهم الدروس التي يعلمنا إياها المجتمع المدني.
___________________________________
الهوامش :
• مايكل ادواردز هو مؤلف كتاب “المجتمع المدني”، وهو مدير مؤسسة فورد للحكم والمجتمع المدني بنيويورك، عمل في مجال التنمية الدولية طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية.
• تأسس معهد كاتو عام 1977، بواسطة إدوارد هـ. كرين، وهو مؤسسة بحث غير ربحية تعمل في مجال السياسة العامة، اتخذ المعهد اسمه من خطابات كاتو، وهي سلسلة من كتيبات داعية التحرر التي ساعدت على وضع الأسس الفلسفية للثورة الأمريكية.
• المنتدى الاجتماعي العالمي فضاء مفتوح يهدف إلى التفكير ونقاش الأفكار الديمقراطية وصياغة المقترحات وتبادل التجارب والتنسيق لخلق حركة فعالة من قبل هيئات وحركات المجتمع المدني لمعارضة العولمة وسيطرة رأسمال.
• حزب العمال الجديد هو اللقب الذي أطلق على حزب العمال ببريطانيا بعد أن أجرى جملة من التحسينات والتغييرات على سياساته التقليدية. فألغى السياسة القديمة التي تقضي بفرض الضرائب من أجل المصروفات، وقرر معاملة الاتحادات العمالية بصورة عادلة دون تحيز.
• Edwards, Michael (2004) Civil Society, Cambridge: Polity.