بقلم: فضة الشارف
يُعدّ البناء النصي ذلك الجامع للعناصر التي تحكم عملية التوليد الشعري بحيث يتبع كل عنصر عنصراً آخر، على أن يقتضي ذلك التمييز بين تصورات عدة مختلفة هي البنية والشكل والموضوع وعناصرها؛ فالبنية هي المصطلح الأعم الذي يتحدد نتيجة لمبادئ أخرى ذات طابع شكلي موضوعي تتحكم في توليد وخلق العمل الأدبي، ويترتب عليها النظام الذي تتخذه العناصر البانية لها، أما الشكل فهو على هذا الاعتبار ليس سوى الهيكل الناجم عن قوانين الصياغة ومبادئ التكرار والقوالب التي توضع فيها عناصر معينة، ويعود التمييز بينه وبين الموضوع إلى طبيعة المادة المزدوجة للأدب وهي اللغة، حيث نجد فيها أولاً جانباً طبيعياً يتصل بالظاهرة الصوتية، وجانباً آخر رمزياً يتمثل في قدرة هذه المادة على إثارة تصورات ذهنية دلالية؛ ومن هنا فإن العناصر التي تتصل بالجانب الصوتي للكلمات تسمى عناصر شكلية، وتلك التي تنجم عن الدلالة الرمزية تسمى عناصر موضوعية، وإن التفاعل الخلاَّق بين هذه العناصر هو الذي يشكل استراتيجية البناء النصي وإنتاج دلالته.(1)
إنّ العمل الإبداعيَّ هو علامة دالة على الواقع الخارجي وإن كان نابعاً من ذات الشاعر، بل هو تفاعل بين الذات الكاتبة وواقعها، وعبر هذه الفاعلية تتشكل أولى خيوط البناء النصي عبر اللغة الإبداعية التي يمتلك ناصيتها الشاعر، على اعتبار أن اللغة مجموعة من التعليمات والعادات المشتركة بين كل الكتَّاب في فترة ما، وهي مثل الطبيعة تمر جميعها عبر كلام الكاتب دون أن تعطيه أي شكل، ودون أن تغذيه، لأنها على الرغم من كل ذلك فهي دائرة مجردة من الحقائق، وخارجها فقط تبدأ تترسب كثافة فعل متوحد، إن اللغة تنطوي على كل الإبداع الأدبي تقريباً كما السماء والأرض والتقاؤهما يرسمان للإنسان مسكناً مألوفاً. إن اللغة ليست زاداً من المواد بقدر ما هي أفق، إنها حد ومحطة في آن، وبكلمة واحدة اللغة هي المدى المطمئن لاقتصاد ما، والكاتب لا يغترف منها شيئاً؛ لأن اللغة بالنسبة له هي بمثابة خط قد يشير تجاوزه إلى فوق – طبيعة للغة، إنها مجال لفعل وتحديد لممكن وانتظار له، ليست اللغة مجال التزام اجتماعي، بل مجرد انعكاس من دون اختيار، وملكية مشاعة للناس لا للكتّاب، إنها تظل خارج العنصر الطقوسي للآداب، ومن ثَمّ فهي شيء اجتماعي بالتحديد وليس بالاختيار، لأن عبرها ينتصب التاريخ كلياً، تاماً وموحداً على شاكلة طبيعة. كذلك، فإن اللغة بالنسبة للكاتب، ما هي إلا أفق إنساني يقيم على البعد ألفة ما، وإن كانت كلها سلبية.(2)
إن العلاقة بين الكاتب ولغته علاقة منمازة من حيث امتلاك الكاتب لهذه اللغة وللمكونات الجزئية لها التي يمكن أن تكون في السياق الذي يجعلها الكاتب فيه ذات سمة شعرية، ذلك أن النص تجسيد لغوي لكائن، وانفتاح خارج اللغة على كينونته في الغياب، النص هو علاقة جدلية بين الحضور والغياب، لا في كليته وحسب بل على مستوى مكوناته اللغوية أيضاً، فما هو حضور هو علاقة بين مكونات لا سبيل إلى تأملها أو الاستجابة لها إلا في تجسيدها اللغوي، لأنها لا تفصح وتنكشف إلا عبر هذا التجسد؛ والتجسد اللغوي ليس عصياً على التحليل إلى الدرجة التي افترضتها ميتافيزيقيا الشعر، وإن كان تحليله مشروطاً بتطوير مناهج نقدية تكون على درجة عالية من الدقة حتى تنفذ إلى البنية أو البنى العميقة للنص. أمّا ما هو غياب فإنه ينتمي إلى البعد الخفي إلى علاقات النص بآخر خارج النص، وبين الحضور والغياب تتجلّى فاعلية العناصر النصية؛ ليكون النص ذاك المترع بالدلالات التي يخفيها تحت أجنحته المبتلة برذاذ الإبداع.(3)
لعلّ فاعلية العناصر النصية تتجلى عبر علاقاتها الجدلية بين الداخل والخارج، بين الحضور والغياب، بين التجلي والخفاء، بين الإثبات والنفي، بين الواقع والمتخيل، بذلك إن دراسة بنية النص الداخلية لا تنفي أهمية دراسة النص في علاقاته الخارجية والعكس صحيح؛ بل إن كلتا الدراستين تتحرك وتُستكمل على صعيد خاص مختلف عن، لكنه متكامل مع، الصعيد الآخر.(4) ولعلّ هذا الوعي النظري هو الذي جعل الباحثين يوكلون معاينة النص إلى قراءات تتجلى عبر المعطيات اللغوية الماثلة في الانزياح أولاً وفي الانسجام ثانياً.
بهذا التصور يمكن إدراك البعد النظري الذي قرئت في ضوئه الصورة الشعرية قديماً من حيث طبيعتها الزخرفية التزيينية، انطلاقاً من تصور قاصر للأسلوب والصورة على أنهما عملان خارجيان في النص الشعري؛ لذلك رفض النقد الحديث هذا التصور التقليدي، منمّياً اتجاهات متعددة في تحليل الصورة وكشف علاقاتها الحيوية بالنص الإبداعي(5) على أنها ذات طبيعة فاعلية تكون سُدى القصيدة الشعرية ولحمتها، معايناً وضعها بوصفها دالاً من الدوال التي تتجلى عبرها الشعرية المنتظرة، كون الصورة لا تتحدد بالخبر الذي يود الشاعر أن يقرره، وإنما هي ذات طبيعة جزئية، ومن ثَمّ ذات طبيعة كلية تتركب من الأبعاد النفسية للنص ولكاتبه في آن، إذ إن التموضع الجزئي لعناصر الصورة يؤدي إلى ابتناء كلي لهاته الصورة، وقد تنفرد الصورة الجزئية دون أن تشكل نسقاً لبناء الصورة الكلية؛ وبذلك يكون النص الشعري منجزاً في ضوء كل من هاتين الصورتين.
هكذا يمكن القول إن القصيدة استعارة كبرى، ولعلّ الصورة الشعرية تعتمد على تغيير المعنى وتصحيح الانحراف المقصود لأنها لا تسمي الأشياء بأسمائها، فهي تبنى على التناقض أو التنافر القائم بين المعنيين: المعنى الفكري والمعنى الإيحائي العاطفي، فكلاهما لا يتعايش مع الآخر في الوعي نفسه وفي الضمير ذاته؛ وليس بوسع الدال أن يؤدي دلالتين متنافرتين في الآن ذاته، ولهذا فإن الشعر يقوم بما أُطلق عليه (حركة الالتفاف) يقطع الحبل الأصلي الذي يصل الدال ليجعل من الممكن تشغيل النظام الجديد، وبهذا فإن الشعر ليس مجرد شيء مختلف عن النثر بل هو ضد النثر، وليست الاستعارة مجرد تغيير في المعنى ولكنها نسخ له، فالكلمة الشعرية تتضمن موت اللغة وبعثها في آن واحد وليس بوسع الشاعر أن يسمي الأشياء بأسمائها ولا أن يقول (قمراً) وحسب، لأن هذه الكلمة تثير فينا وفي ضمائرنا حالة باردة محايدة، ولكنها كي تثير صورة وجدانية لابدّ أن تلجأ إلى الحيلة الشعرية، إلى انتهاك قوانين اللغة العادية، ولابدّ للشاعر إذن أن يقول عن القمر إنّه (منجل ذهبي في حقل النجوم) فيبتعد عن قوانين اللغة التي لا تسمح عادة بتلاقي هذه الكلمات على هذا الشكل ليؤدي وظيفته الشعرية الحميمة.(6)
إذا كان كمال النثر يتجلى في تمام صياغته لتوضيح ما فيه من فكرة، فإن كمال الشعر يكمن في الإيحاء بما يزخر به من شعور أو عاطفة؛ لذلك إذا أراد القارئ أن يكشف عن العناصر البانية للنص الشعري عليه أن يلجأ إلى معاينة الوسائل الإيحائية للغة في تعبيراتها الدلالية والموسيقية، لأن الشعر تجربة ذاتية محضة، أو هو تجربة ذاتية ذات طابع اجتماعي وظف الشاعر في تجسيدها عناصر من دونها لا يمكن أن تكون القصيدة نصاً إبداعياً؛ ونعني بها الموسيقى بوصفها أقوى الطرق الروحية إلى السمو بالأرواح، والتعبير عما يعجز التعبير عنه؛ لأن الموسيقى هي التي تشكل الصور الشعرية التي من دونها لا يكون النص نصاً شعرياً مهما كان جميلاً، والقصد من الصورة الموسيقية في الشعر هو البناء الموسيقي بوصفه تكويناً من الإيقاعات المعتمدة على النغمات والاتساق والتناظر التي تتجاوب مع النفوس متلقية ومنتجة، وذلك من خلال عنصري التركيب والتكرار، حيث يمكن التمييز بين نوعين من الصور الموسيقية التي تُبنى القصائد الشعرية بها:
1- الموسيقى التركيبية: وهي موسيقى ذات القيمة المركبة، وهي موسيقى تشكيلية مجردة تعتمد على التناسق الصوتي للكلمات بطريقة تمكّن الكلمات من أن يؤثر بعضها في بعضها الآخر على أكبر نظام ممكن، إذ فيها يزداد تحديد التوقع.
2- الموسيقى التعبيرية: هي الموسيقى الناتجة عن كيفية التعبير الشعري، والمرتبطة بالانفعالات السائدة، ومهيئة لها في كثير من الأحيان بما تعطيه من إيحاءات انفعالية لنمو التجربة الفنية.
إنّ الإيقاع في الموسيقى التركيبية يمتاز بالرتابة، وقد يبعث الضيق في نفس المتلقي، أما الموسيقى التعبيرية فترتبط بالتأثيرات الانفعالية التي تنشأ من التجربة الشعرية؛ لذلك تُعدّ ذات طبيعة إيقاعية أكثر تأثيراً من الأولى لارتباطها ارتباطاً أوثق بالانفعال الشعري؛ لأنها أيضاً الإطار الانفعالي للغة الشعرية، وقد تجلى هذا بشكل ملحوظ في قصيدة النثر التي اعتمدت الإيقاع الداخلي دالاً أكبر في بنائها.
الشعر هو الخلق الفني للواقع، وهو تفاعل الشعور الإيجابي مع مواطن الجمال، فإذا تفاعل مع الحقائق العلمية، فإنه يتعامل معها من حيث الأبعاد الجمالية، لا من حيث البرهنة عليها، فتكون حينئذ التجربة الشعرية تجربة ذاتية، لا تقتصر على الحدود المعبر عنها، بل هي إنسانية بطبيعتها: إذ إن جهد الشاعر منصرف إلى التعبير عن مشاعره بعد أن يتمثلها حيث يجعل من ذاته موضوعاً ومن موضوعه ذاتاً(7). وبين هاته وتلك تكون تجربته الشعرية تجربة نفسية ذات أبعاد إنسانية يتجلى فيها الزمن الإنساني سواء أكان هذا الزمن زمناً فيزيائياً أم زمناً وجودياً، فبين هذا وذاك تنولد القصيدة محملة بالتنهدات النفسية وبالأحاسيس الكونية الآتية من أعماق الذات الكاتبة.
بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذه الحدود، بل يتعداها ليتفاعل مع عنصر آخر لا يقل فاعلية في البناء النصي عن سواه من العناصر النصية الأخرى، ونعني به المكان الذي يتخلى عن سماته الجغرافية والهندسية؛ ليكون دالاً من دوال القصيدة الشعرية، متخذاً مسارات إنسانية ذات طبيعة نفسية، بها يكون أليفاً وقد يكون معادياً لا فرق مادام يسهم في عملية البناء النصي وإنتاج الدلالة.
من هنا (باقتراح من الدكتور محمد عبدالرضا شياع) جاء اختياري للكتابة عن قصائد الشاعر الليبي عبدالمنعم المحجوب(8) من خلال مجموعاته الشعرية الثلاث:
1- كتاب الوهم، منشورات تانيت، الرباط، الطبعة الأولى، 1998م.
2- عزيف، منشورات تانيت، الرباط، الطبعة الأولى، 2002م.
3- كلّما شع النبيذ، منشورات تانيت، الرباط، الطبعة الأولى، 2009م.
إيماناً بتجربة هذا الشاعر التي نراها جديرة بالبحث والدراسة، تحت عنوان (فاعلية البناء النصي في شعر عبد المنعم المحجوب) حيث وجدت قصائد هذه المجموعات الثلاثة مترعة بالسؤال الشعري المعبّر عن حالة الذات الكاتبة، وعن الموقف الإنساني العام الذي تمثلته، في سياق شعري تتجلى فيه فاعلية البناء النصي وإنتاج الدلالة.
وبعد تأمل المنطلقات النظرية وقراءة النصوص الشعرية اتضح لنا أن المنهج التحليلي هو المنهج الملائم لإنجاز هذا البحث. وقد انبنت التصورات النظرية انطلاقاً من النصوص الشعرية ذاتها التي يرى إمكانية الاشتغال فيها قائمة على الفرضيات الآتية:
1- تشكل فاعلية اللغة العتبة الأولى في بناء النصوص الشعرية المحجوبية.
2- تظلّ فاعلية الصورة العلامة الفارقة في بناء شعر عبد المنعم المحجوب.
3- ينماز شعر عبد المنعم المحجوب بتنوع إيقاعي يقع في سياق الموسيقى الداخلية تارة وفي سياق الموسيقى المعنوية تارة أخرى.
4- يحفل شعر المحجوب بتجربة ذاتية منصهرة في بوتقة الوجود الإنساني؛ ذلك أن الزمن دال من دوال بنائها.
5- يسهم المكان في شعر عبد المنعم المحجوب بفاعلية في بناء النص وإنتاج دلالته.
(يتبع)
هوامش:
1- صلاح فضل. نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص ص: 294-295.
2- رولان بارت. الدرجة الصفر للكتابة، ترجمة: محمد برادة، ص ص: 33-34.
3- كمال أبو ديب- في الشعرية، ص: 19.
4- المرجع السابق، ص: 20.
5- كمال أبو ديب- جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر، ص: 24 وما بعدها.
6- صلاح فضل- مرجع سابق، ص: 360.
7- للاستزادة انظر: محمد غنيمي هلال- النقد الأدبي الحديث، ص-ص: 383-394.
8- مواليد عام 1963م، شاعر وكاتب باحث، انظر ترجمته في: عبدالله سالم مليطان، معجم الأدباء والكتّاب الليبيّين المعاصرين، الجزء الأوّل، ص ص: 382 – 383. من مؤلفاته:
– ورثة اللوغوس: بصدد الآخر والذات والثقافة، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، الطبعة الأولى، 2004م.
– ما قبل اللغة: الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية، تانيت، الطبعة الأولى، 2008م.
– الكتاب الأرجواني: تأملات في تاريخ قرطاج الثقافي، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م.