النقد

قراءة في الحياة الافتراضية للسعادة: للشاعرة عائشة إدريس المغربي

على عادة الأصدقاء.. تمددت على الأريكة, على يميني صحن من العنب الأبيض (فاكهتي المفضلة) وفي يدي الحياة الافتراضية للسعادة, للشاعرة عائشة إدريس المغربي الصادر عن روافد/ القاهرة/مصر/2016. جاءتني به صديقتي الشاعرة حواء القمودي من مصر, مع كيس من الحلوى و الشكلاطة والقصص لصغاري. وعلى الصفحة الأولى كتبت حواء” يا مريم هذه صديقتنا عائشة إدريس المغربي تهاجر عبر الكلمات و تبحر إلى قلوبنا”. حقا أوجز هذا الإهداء المتن الشعري فالصور عديدة و أبرزها هذا الإبحار, المنارة, القارب, القبطان, الدفة, السفينة, الأزرق و الموج الغاضب, رحلة مائية قادتها باقتدار روح شاعرة من خاصرة الكرة الأرضية إلى قلب الوطن بحثا عن سعادة افتراضية. ” أين أنت يا صاحب مفاتيح السعادة افتح الدكان كراستي تبكي من البياض”

الشاعرة عائشة المغربي ومجموعتها الجديدة الحياة الافتراضية للسعادة.

في الحياة الافتراضية للسعادة تذهب الشاعرة بعيدا.. تتخطى الحدود و القيود, كأنها عصفورة غير معنية بأوامر الزمان و المكان.” أخرب الجغرافيا ينشق المحيط” تذهب بعيدا إلى لا مكان إلا قلبها ” حدائق الحياة” و حيت القصائد تكتنز بالرمان و هي لينة و مسكونة بالرقص و الموسيقى و الضحك, تشرع قلبها للحب و جسدها للحرية وتتربص بنفسها عاشقة في كل ليل جديد.
” سأخترع جغرافية
لها ضفتان
نطل منها على روحينا المتعانقتين في الماء
أنت من هناك وأنا من هنا
نلعب بالبحيرة الفضية
تجذبها أميل إليك
اجذبها تقع في غرامي”
ويبدو لي أن هذا التحليق سر سعادتها و شغفها وفيض العذوبة المنهمر من مفرداتها ” سأحلق في هاواي سأحلق على هواي”و ترسل إغواء يتلبس تحذيرا “لا احد يلحق بي الرحلة خطرة”
في الحياة الافتراضية للسعادة تفر الشاعرة من العلب منتهية الصلاحية, و كواتم الصوت, والهواء الرديء إلى مساحة حرة ونظيفة من الفخاخ والمطبات و المنزلقات.. تريد أن تتنفس شعرا في عالم لا يطاردك فيه احد بمقاييس الحياة الجاهزة. تريد أن تفترض حياة لا قبضة فيها للخوف والأوامر العليا, و مجانية الموت. تقفز وتقلع بمظلة القصيدة وحدها من (أسوان إلى الأمازون إلى قمة افرست إلى سيبريا إلى باريس و الحي اللاتيني)
” سأحلق على هواي
أبددك في العالم
و اكتفي منك”

في الحياة الافتراضية للسعادة تبدو القصائد منبسطة و جاهزة لكشف رموزها و فض صورها وطرح إيقاعها وموسيقاها بغنج و دلال القصائد القصيرة و ليس الضئيلة. “فاضت روحي في القصيدة حررتها من شرنقة القطيعة” حتى أن القارئ لن يجد مشقة في التهامها في جلسة واحدة, متلذذا بكل قضمة, سابحا في كل نغمة تأسر المكان بعذوبتها, غير أبهة بتسمية هذا المكان, فالمكان حيت هي تفرد أجنحتها و تطير في الحدائق المفتوحة لشذى الزهور و خفق أجنحة الطيور و شغب الأطفال و مجون العشاق. ”
” ذهبت النافذة في نزهة
و تركته يحرس الانتظار
الانتظار الذي نبت لبلابا و تمدد”

في الحياة الافتراضية للسعادة تنساب اللذة الشعرية, و ينهمر غيم المعرفة, و تنمو سنابل الدهشة ونحن نسبح في نهر من الخمر. و الوقت وفير و الخوف قليل و نحن نرسل ونستقبل أسئلة عابرة و أخرى صادمة, و قد أخذتنا النشوة بعيدا. .” لتشرب أرواحكم السكر بعيدا عن قهوتي المرة السوداء”. ثم نريد أن نصحو ونمارس صحوة اليقظة نفكك الكلمات نلج البناء الشاهق لشعرية متماسكة نتلمس المقابض و اطر النوافذ في محاولة لمعرفة سر هذا السكر, هذا الجمال., و بعض الأجوبة لأسئلتنا العنيدة.
” كل ليلة أنام
على صدر القصيدة
امتص رحيقها مثل فراشة
و مثل أمي تمنحني ثديها
السر حيت لا احد هنا يسال الفكرة عن طول تنورتها
أو تشردها طوال الليل في الأسئلة”
ولكن هل هذا المضي بعيدا و هذا التحليق في جغرافية من صنع الشعرية المبدعة حررها من وطن يسافر معنا قبل أن نغادره؟ “و إلا كنت نسيت الملتحي الرحال الذي اغتصب طريقي في سوق الأحد… و لا كنت تذكرت ابلة عواشة مدرسة اللغة العربية كانت تلف إصبعها حول ضفيرتي كأسنان المشط و تدك رأسي في الجدار”
في الحياة الافتراضية للسعادة يضع الحنين أسماء المدن ومواقع الألفة و الألم على الخارطة الشعرية بنغازي , السلماني, كرمة الحاج مؤمن, بني وليد, طرابلس, سرت, تاورغاء, و قصص المخطوفين و المقتولين وعنف الاضطهاد, و كثافة الكراهية, و تهجير المحبة و أماسي الفرح, و مصادرة الأحلام غرقا في بحر الظلمات,. ” لم يكن هناك علامة للضحك حين كانت المدن تمرض كان الداء ينمو في السلماني و في الحدائق الخلفية في بنغازي وبيوت بعيدة”. كل ذلك السيل الجارف من ينابيع الذاكرة الجريحة يتفرع و يتشعب في تلك المساكنة الشعرية البعيدة عن العبث و الكبت و الظلام, فتنقلب الحقائب و يتصاعد منها دخان الحرائق ورياح العواصف تتسلق الحوائط و تعلن عن حضورها الكاسر. “أتعبني المسير في رحلة النسيان كلما محوت سطرا عدت اكتبه”.
في فرارها من فلم رعب طويل نطلق عليه مجازا الوطن هل حملت معها شيئا غير فداحة الأسئلة المريرة؟ ” أصدقائي الذين العب معهم في حديقة الشعر صاروا قصائد في التراب” في انتظار ..” (أنا) اتكي (علينا) في حضن عميق طويل مغبر غاضب عاصف من الصراخ” بالقصص الخانقة.

في الحياة الافتراضية للسعادة بأناقة لغتها الباذخة تهرع الشاعرة بعيدا إلى حيت الشعر لا رقيب عليه إلا الشعر..وهذا البعد يمنحها سكينة ونظرة كلية عن قرب تسمح بتقليب الذاكرة و مداواة الجروح واستخلاص القصص العالقة في الطين و عتمة الوطن الجريح, و نثرها في سماوات ” الحياة الافتراضية للسعادة” وهي “سبع قبلات متوحشة لمرة واحدة تشربتها روحي الأنيقة الفارغة منك”.

مقالات ذات علاقة

دراسة لجماليات السرد في القصة القصيرة.. قصة نعناع للشيماء الغرياني أنموذجا

عبدالحكيم المالكي

قراءة في رواية خرِّيجات قاريونس للروائيَّة الليبيَّة عائشة الأصفر

نورا إبراهيم

فاجعة ما بعد الحلم الواعد .. قراءة أولى في رواية الكلب الذهبي

رضا بن موسى

اترك تعليق