يوم أمس الأول (السبت 9 أكتوبر 2016) كان يوم إبحار عميق في عوالم النص المحكي الذي يطرزه الشاعر الكبير محمد الدنقلي. نصٌ ثريٌ بكل أصناف الأحاسيس والمشاعر. مبللٌ بالدمع الصادق الغزير، ومسكون بالعشق الحقيقي الوفير، يراقص أنسام البهجة المستوطنة في الأعماق، ويلاحق خيالات سابحة في فضاءات لا حدود لها… ليتغنى بالإنسان والوطن والقيم الخالدة.
ما يقوله محمد الدنقلي ليس شعراً .. بل هو أنفاسُ أعماقٍ مدثرة بالعذوبة … هو بعضُ روحٍ تتوسد أحلامها الجميلة وتطلقها فراشات مكتوبة بأنوار الحياة… وأيضاً هو نص يبرز الهوية الوطنية، ويوثق مكونات المكان وصوت تاريخه التليد بكل ما يحمله من أنغامٍ وعادات وتقاليد، وتراث معطر بعرق وبطولات الأجداد، وموشى بحكايات ولهفة الجدات الموغلة في المحبة الصادقة للإنسان والعشق للأرض والوطن.
كان لقاءً مسائياً خصصه مركز دراسات الجنوب لأمسية شعرية للشاعر الكبير محمد الدنقلي الذي منذ أن باغتني نصه الجميل قبل عقدين من الزمن “أبصر كيف” الذي يستهله بالقول:
(نريد لوغه … بلا لوغه .. بلا باء .. وبلا أليف
تجي هكي … بلا صوت وصدى ..
بلا ما نيش عارف كيف)
منذ أن هزتني هذه المقدمة للنص المحكي صرتُ أطرب لهذا الجنس الشعري في الأدب الشعبي المتطور والذي أحسب أنه لوناً من ألوان التجديد في الشعر الشعبي يضاهي شعر التفعيلة في الشعر العربي الفصيح.
ويظل أهم ما يميز نص الشعر المحكي لدى الشاعر محمد الدنقلي أنه مسكون بالسؤال المحفز للتفكير … سؤال مباغث يأتي وحيداً ثم يتوالد في متن النص، ويتمدد خارج حدوده ليدير محركات العقول ويدغدغ القلوب العطشى لهطول الفرح واللهث وراء لحظة يقين صافية كالزلال.
إن نص الشاعر محمد الدنقلي ليس مجرد مفردات مكتوبة تقرأ بصوت القاريء، بل هو لوحة فنية متكاملة لنص لا يمكن أن يستقل أو ينفرد بكلماته عن صورة الشاعر محمد الدنقلي وهو يتلو صلوات شعره في محرابه البهي. فكل نبرات وحركات ونظرات ودمعات وابتسامات الدنقلي أثناء قراءته هو جزء من النص، ويمثل إضافة لا يمكن أن يتجاوزها المتلقي السامع أو المشاهد لروح الشاعر وهي تتهادى إلى فضاء النص فتهفو إلى القصي البعيد وتحضن الداني القريب، وتتواصل مع أرواح أخرى عديدة في ملحمة إبداعية مثيرة ومعبرة عن خزائن الحب والعشق التي تستوطن أعماق شاعرنا الكبير محمد الدنقلي.
أحياناً أقول بأن عدم التفات النقد الأدبي الاكاديمي لنصوص الشعر المحكي وعزوفه عن الغوص في أعماقها وتحليلها بأدوات نقدية حديثة مواكبة لتطور هذا الجنس الابداعي، قد يفقده الكثير من جمالياته وبلاغته، رغم يقيني بأن المناهج النقدية لازالت قاصرة وعاجزة عن مواكبة تطور الأجناس الأدبية الابداعية الحديثة كافة لأنها لازالت تقليدية في إسقاطاتها وتحليلاتها لبنيوية النصوص الحديثة.
(.. نريد لوغه تجاوبني … الحروف إلواه …؟؟
وتحكي عن علي بابا .. وعن اللي معاه ..
وعن القدر .. وعن السدره ..
وعن الضد … وعن الأشباه ..
وليش العيش عالمبدأ …
وليش الموت في سباه.
ولما نخاف تحضني مثل أمي ..بحرارة آه
وتزرع في .. إنّ الله .. يعني الله ..)
كمٌّ هائلٌ من الأسئلة الحساسة تطلقها أبيات قصيدة الشاعر الدنقلي بكل عمق وفطنة وجمال .. فتتداعى على بساط الفكر وتستريح مرتين .. الأولى لحظة إطلاقها .. والثانية أثناء بحثها عن الإجابات التي قد تتأخر طويلاً.
حقاً … المبدع محمد الدنقي لا يقول شعراً .. بل يبوح بأجمل من ذلك كله… فهو يقبض على نبض القلوب اليافعة وينثرها على سفوح أقمار المحبة والفرح وهذا ما يحدث معي عندما أطالع نصوصه الرقيقة “زلة” ملحمة العشق للمكان .. و”توحشتك” أغنية البوح للعيون السود و”الرسام” مشاكسة الفنان التشكيلي مرعي التليسي و”طرابلس” معزوفة الحب والوفاء.
(…يا بيت في شعري عصي مازال .. ما بي ينكتب
يا لحن في عودي شجي قاعد مأجل ما انسكب
كيف نوصفك …. كيف انتغنى بيك
يا بيتنا .. يا راحتي وقت التعب
يا طرابلس
يا بيت في شعري اعتذر ما لقاش لغة تاسعه
يا نغم يسري في وتر في هالبرور الشاسعه
مازال أنتِ أنتِ
هاي السرايا قاعدة
وهاي الغزالة والفتاة متواعدة
وهاي المآذن والمنارة في السماء متصاعدة
وهالناس الطيبين يجوك من المدن القراب
من هالبوادي .. والصحاري .. والقرى المتباعدة
وإنتِ كما أنتِ
يا ساهلة وممتنعة يا موالفة يا شاردة
هللي لفى ومو عارفك يحس يدك باردة
واللي يكون موالف يلقى جناوح فاردة
وأهلك عرب عزوتنا
وين تختلط الأمور تبقى سوا
كيف يشربوا شاهي الضحى
ومازال إنتِ إنتِ
يا بيتنا يا راحتي وقت التعب
طرابلس .. طرابلس ..
يأم المدن .. ياللي كما سموك
في أشعارهم بلد الطيوب
يا بنت في يديها زهر
عقدين فل وقت الغروب …)
بهذه الكلمات أحببتُ أن أوجه تحية للشاعر العزيز محمد الدنقلي ولمجموعة مركز أبناء الجنوب على دعوتهم لي للحضور والمشاركة في إثراء الحوار أثناء الأمسية التي نظمت يوم أمس. وبالتوفيق للجميع.
____________
عن صفحة الشاعر يونس الفنادي على الفيسبوك.