هذه المسرحية نشرت ككتاب إلكتروني ضمن منشورات الطيوب
لتحميل الكتاب يمكن زيارة (الكتاب الإلكتروني) أو من (هـــنــــا)
_____________________________________________________________
…وسط حوش ليبي في الكدوه (العزيزية القديمة).. -معمار القرن التاسع عشر-.. يفتح على السماء.. طلاء الجدران أبيض، البيت مضاء بالشمس…
…باب خشبي مقفل. في الباب كوة صغيرة للتهوئة…
…في الجهة اليسرى “رضا”- – في العقد الخامس يضطجع على بساط شرقي صغير وقديم.. يقرأ في صمت من مخطوطة، وأمامه فنجان قهوة عربية (مقلوب)، ومن خلفه نرى أربعة أكياس بلاستيكية تطفح بالأوراق الممزقة ـ مكتوبة وأوراق مرسومة ملغاة…
…في الجهة اليمني “حمودة الزاهي”_ _ جاوز المائة عام، يجلس على كرسي هزاز، لحيته كثة بيضاء تتهدل على صدره، يرتدي جلابية بيضاء، والسروال الأبيض، وبيسراه عكاز أبيض… يبدو عليه الانشراح.. وجهه مشرق، صوفي.. من أتباع التأمل، بين اليقظة والنوم…
…من خلفه “صالح” _ _ في العقد السادس من العمر.. في تأمل عميق.. يجلس جلسة اللوتس (القرفصاء)، يتنفس الشهيق والزفير من أنفه، يركز النظر على أرنبة الأنف…
…”فاطمة”- – في الثلاثين.. تجلس على كرسي هزاز، تتمرجح باستمتاع، أمامها فنجان قهوة فارغ مقلوب.. موسيقي تأمل هندي تأتي من مكان ما.. وفي عمــق الركح (لوحة) جداريه كبيرة تمثل أسطورة طرابلسية عن عروس البحر وابن السلطان.
الزاهي:
نحن جميعا نمثّل في مسرحية اسمها الحياة..
صالح:
والكلمات غير قادرة على وصف اللحظة الحاضرة بين لحظتين.
فاطمة:
وغير قادرة علي وصف عطر الوردة، وصوت يد واحدة تصفّق.
(صالح الآن بيدين مرفوعتين فوق رأسه، ينظر إلى السماء).
صالح:
الشمس وراء الشمس وراء الشمس وراء الشمس…
(“رضا” يتوقف عن قراءة المخطوطة، ينظر إلى الثلاثة بترفع).
رضا:
هراء زرعه “الزاهي” في رؤوسكم، بعد أن شرب حتى الثمالة من رحيق كتب الشرق.
الزاهي:
لو كنت معنا يا “رضا” في تواصل مع عناصر الوجود.. لأصبحت حياتك مهرجانات.
صالح:
أنت لأتشبع من شيء.
رضا:
أنا إنسان عاقل.
الزاهي:
أنت سطل بلا قعر (توقف).. لو انسابت إليك أنهار الأرض غير قادر على الاحتفاظ بشيء (صمت).. العقل دائما يميل إلى التطرّف.. إما هذا، وإما ذاك (صمت).. وعندما نفكر في الماضي.. والماضي ميت.. نفكر بالذكريات!.. وعندما نتطلعّ إلى المستقبل، والمستقبل لم يأت بعد، نفكر بالأحلام (صمت).. ونحن عندما نتأمل نمنع الفصّ الصدغي من المخ من معرفة الفرق بين الذات والعالم.
رضا (ساخرا):
جاوزت المائة ومازلت في طفولة أبدية!.
فاطمة (متباهية):
وأنت أيضا كن طفلاً!.. هذا ما يقوله كتاب الطاو.
رضا (بثقة ومهل):
سقراط الفيلسوف قال: (عرفت شيئا واحداً، وهو أنني لا أعرف شيئاً).. فماذا أعرف أنا!؟.
صالح:
أعرف ربع لاشيء.
فاطمة:
أعرف الأبيض واحتفظ بالأسود.
الزاهي:
سقراط هو أكثر الناس حكمةً لأنه أكثرهم جهلاً.
(.. “رضا” يستند على ذراعه الأيسر وينظر إلى السماء التي لا تري… ثم ينظر إلى الثلاثة، ويرفع المخطوطة مهدداً).
رضا:
سأعيد كتابة النصّ..
الزاهي:
أخرجنا من خيالك.. وغادرنا كيس القمامة رأسك.
(يشير بعكازه إلى رأس رضا).
صالح:
ولسنا مثلك.. يتخّبطنا المسّ من هوس القراءة والكتابة والرسم والسفر والمال واللــذة (صمت ).
فاطمة:
تتشرنق في (الكدوة) صّرة القيظ في العالم (صمت).. وتخبو في بيت تحاصره مجاري الرمل ومجاري القرية..وتتنفسس الهواء الساخن في حرارة بلغت في كتاب قنز للأرقام القياسيـة (136) درجة فرنهايت.. والبحر على مسافة نصف ساعة.
رضا (بثقة):
هذا زمان العزلة، وفي العزلة فرح إلهي (صمت).. وهذا الباب (يشير إلى باب المكتبة) يفصلني عن الجميع.. وعالمي هو: عندما يهددني الجنون أغلق باب غرفتي تهرباً من الزائرين.. وأرسم، وأتطوع في الجنون..
صالح:
كله كلام فارغ!.. الجنون لا يقبل التطوع (صمت).. تطوّع في أي شيء إلا في الجنون.
فاطمة:
الوقوع في الحب أفضل من الوقوع في الجنون.
رضا:
الناصح من نصح نفسه يا لِلا “فاطمة”.
الزاهي:
البشر يا “رضا” سجناء ثلاث دوائر أحادية المركز.. سجن الجسد.. وسجن العقل.. وسجن القلب!.
فاطمة:
نشارك الحيوان في سجن الجسد.. احتياجات بيولوجية: الطعام، والشراب، والهواء.
صالح:
السجن الثاني هو العقل.. عجينة من الخلايا الرمادية تشحن بالمعرفة.. والمعرفة هي شجرة الأسف.
فاطمة:
والسجن الثالث هو القلب.. مضخة تنبض المشاعر.
الزاهي:
الحب حيلة بيولوجية.. نحب أطفالنا فلا نهجرهم.. (توقف) واللذة يا “رضا” أوهام عابرة اخترعتها الطبيعة لحفظ الحياة (صمت).. ومن قبيل مكر الطبيعة أيضاً قابلية الغريزة للتطويع.
(صالح الآن يعود إلى حالة التأمل، ويردد بين الشهيـق والزفير).
صالح:
سأم، سأم، سأم.. كل لذة يعقبها ألم (فاطمة تشير بيسراها إلى الزاهي).
فاطمة:
الرجل الطيب هو معلّم الرجل الشرير (تشير بيمناها إلى “رضا”).. هكذا يقول الطاو.
رضا (يتحول من الاضطجاع إلى الجلوس):
مسكين “لاوتسه”.. مؤلف كتاب الطاو (توقف).. هرب يائساً من الصين في القرن السادس قبل الميلاد.
الزاهي:
غادرنا خيالك الأجرد (توقف)!.. أنت مجرد وسيط.
(“رضا” يمشي إلى منتصف الجدارية ويتوقف.. يخاطب الجدارية).
رضا:
تعبت يا غزالة البحر!.. خلقتهم من اللا شيء.. ويتمّردون!.
(“رضا” يجلس أمام اللوحة جلسة اللوتس ) يسأل الزاهي.
رضا:
وماذا افعل للتخلّص من قمامة رأسي!
الزاهي (بهدوء):
علق المرآة منخفضة.. وانظر: ترى رقبتك ولا ترى رأسك (صمت) عدة أسابيع تنظر في المرآة.. لا ترى رأسك.. وترى رقبتك.. تختفي القمامة.
(رضا.. يتلفّت إلى أكياس القمامة، يطوى المخطوطة مثل عصا.. ويشير بها إلى صالح والزاهي وفاطمة)
رضا (بصوت آمر):
عودوا إلى القمامة كما كنتم.. أنتم من شجرة المسرحيات الميتة.. ومصيركم مكب (الكدوة) النهائي …
الزاهي (مبتسماً):
شربنا الماء من عين الحياة الربّانية مثل الخضر عليه الســلام (صمت).. شرب من عين الحياة فعاش إلى الآن.
فاطمة:
نحن ما كان وما هو كائن وما قد يكون، ونحن آخر من يفنى مثل ملك الموت!
الزاهي:
والسعيد من يتقدم في الزمن لا العمر.
(فاطمة تقف وتمشي إلى منتصف الركح.. وتخاطب “رضا”).
فاطمة:
كنت أخاف الناس.. واكتشفت أنهم لا يخافون مني (صمت).. علمني “الزاهي” كيف أمشي في السوق.. أنادي اسمي وأجاوب.
فاطمة (تنادى نفسها):
فاطمة!… فاطمة…!
فاطمة (تجاوب):
نعم سيدتي، نعم! (صمت+توقف).. وفي تمارين التأمل (توقف).. أكبّر حجمي.. بين شهيق وزفير.. وابتلع ليبيا.. وجنوب وشمال البحر المتوسط.. والكرة الأرضية.. والمجموعة الشمسية.. ثم أصغّـِر حجمي.. وأخرج المجموعة الشمسية.. والكرة الأرضية.. والبحر المتوسط.. وليبيا..
(“فاطمة” تعود إلى الجلوس المريح)
رضا (ساخراً يصفر):
أنتم خيال!… خيال من خيالي..
صالح (مبتسما منشرحاً):
الآن أرى من دون عينين..
أسمع من دون أذنين..
كونوا أفضل وأفضل..
تخلصوا من الحواس الخمس…
هكذا تكلم مولانا جلال الدين الرومي…
رضا..
أنتم تعيشون في حقل من الكلمات الخردة!
الزاهي (مبتسماً منشرحاً):
اجعل التخلي وطنك.. ثم اترك نفسك، وتعال إلى البقاء معنا يا سلالة من طين!
رضا (يمسك الكراسة):
الكتابة زقاق غير نافذ، لأن المجتمع نفسه طريق مسدود.. “رولان بارت”.
(“رضا” يقف أمام اللوحة ويشرع في تمزيق المخطوطة إلى شقين..)
صالح (في تأمله يقول):
لو غطينا العالم بالإسفلت وجلسنا نتفرج.. سنلاحظ الحشائش تخترق جدار الإسفلت لكي تحصل على الضوء والحياة..
وصفة في حب الحياة، قالها “باسترناك” وعمقها “إريك فروم”.
فاطمة (ساخرة):
الكاتب “أمبرتو إيكو” يقترح: (ابتلاع النص كأفضل وسيلة في ممارسة العنف على النص).
(“رضا”.. يتوقف الآن عن تمزيق المخطوطة).
رضا:
الكاتب “فراتز كافكا” يقول: (ما أكتب يختلف عما أقول.. ما أقول يختلف عما أفكر فيه، ما أفكر فيه يختلف عما ينبغي لي أن أفكر فيه، وهكذا تسير الأمور أبعد فأبعد إلى أن أصل إلى الظلام الدامس).
(“رضا” يعود إلى تمزيق المخطوطة إلى قطع صغيرة.. ويحتفظ بها في يديه).
رضا:
و”ديستويفسكي” ينصح: (.. إذا كنت كاتباً وتكتب فلا بأس.. وإذا كنت كاتباً ولا تكتب.. فهذا من أفضل الأمور).. ( صمت ).
(“رضا” الآن يقذف بالأوراق الممزقة عالياً أمام اللوحة.. وتنزل الظلمة على الركح.. قبل سقوط الأوراق.. وعندما تعود الإضاءة تدريجياً ـوتتغير من إضاءة نهار إلى إضاءة ليل .. نرى ورقات توت من حجم كبير من ذهب وفضة تتساقط كالمطر على الركح..).
(موسيقي ومؤثرات).
(“صالح” في تأمله العميق، في جلسة اللوتس بعينين مغمضتين لازال غير مهتم بما يدور حوله).
صالح (يردد):
أريد أن لا أريد… أريد أن لا أريد… أريد أن لا أريد…
(“حمودة الزاهي” يراقب كقط مستريح تساقط الأوراق).
(نسمع نقيق ضفادع).
الزاهي:
السماء تمطر الذهب والفضة يا ضفادع (الكدوة).
(“فاطمة” و”رضا” أمام اللوحة الكبيرة يلتقطان الأوراق ويتوجهان إلى “الزاهي”.. “فاطمة” تقدم له ثلاث ورقات..( يتوقف النقيق)..
“فاطمة” تنظر بتمعن في ورقات التوت.. ثم تعلق).
فاطمة (في دهشة):
هنا شجرة المسرحيات (توقف).. النصّ العصي على الانتهاء!.
(“الزاهي” يخرج نظارة من جيب الجلابية العلوي، وعدسة مكبّرة من جيب الجلابية الجانبي.. وينظر في ورقات شجرة التوت من خلال العدسة المكبرة ثم يعلق)
الزاهي (في ابتهاج):
هنا خطيئة ابن السلطان غادية (صمت).. هنا الصحراء واللعنة الكبرى!.
فاطمة (تقرأ من ورقة):
قبل عشرة آلاف عام كان وطننا يقع تحت حزام المطر.. وكان مناخنا دافئاً وريحنا حنونة.. وكانت أرضنا بساتين متماوجة.. وتغطيها شبكة مياه غزيرة وخضرة كثيفة.. وأهل ليبيا جميعا.. لا يعوزهم اللحم واللبن الجيد والعسل، ولا تنقصهم الجبنة.. وسهّلت تربتهم الخصبة معرفتهم المبكرة بالزراعة وتصنيع الأسمدة، وكان خبرتهم متساوية مع أمثالهم من زرَّاع الحبوب في العالم.. وتعطي حقولهم غلة عظيمة مثل بابل.. كل حبة نبات تعطي مائة حبة.
الزاهي (يقرأ من الأوراق):
وكانت النساء جميلات من ذوات لون القهوة إلى ذوات لون الشقرة الليبية.. وبينهما ذوات الشعر الأسود الفاحم.. بهيجات… واقيات من الضجر.. بعيونهن المعبّرة المكحلة.. بأسنانهن اللؤلؤية.. بنظافتهن البالغة، بشعورهن الطويلة المنسدلة على الظهر والملفوفة من أطرافها، وغير متمردات أو صخابات (صمت).. حين كنت أرسمهن في كهف (وان آميل) أو على جدار (تين العاشق)..
كنت أكافأ بالفيروز الأخضر القدسي من محاجر (إنغي زوما) شمال تيبستــي (توقف).. وفوق ذلك كنت أكافأ بدلك يجرينه لي بأيديهن بزيت المسك.. وجرة من عســل جرما…
وكانت امرأتي رسامة من (التحنو) متقدة القلب.. بعينين زرقاوين، وشعر فاتح.. كاملة الجمال والجنون والفنون من صميم القلب (صمت).. رسمتني على قمة جبل (أدراك) في (أكاكوس).. ورسمتها على (صخرة النبع) في (وان تلوكات) (صمت).. وليس أكثر خسرانا من نساء ما قبل التاريخ حين نقارنهن بنساء اليوم المتحضرات)..
(“رضا” يعود بعينيه إلى ورقة من ورقات شجرة المسرحيات، ويقرأ).
رضا:
وكانوا يملكون معارف في الهندسة، كافية لبناء معاصر زيتون جيدة التصميم والتنفيذ من ألواح الحجارة المغليثية .. نراها قائمة حتى اليوم في مرتفعات (آلهات الجمال) في ترهونة.. وهي تنهض دليلا على وجود البشرية (صمت).. البشرية التي ماتت وانقرضت منذ زمن سحيق…
فاطمة (تقرأ من ورقة):
وكانت الطبيعة نصاً لأهل بلادنا.. فظهرت الحاسة الجمالية المفعمة بالعبقرية الحقيقية.. اخترعوا الرقـش وأصباغ التلوين.. وعلى جداريات الأنهار، والكهوف، وحفافي البحيرات (صمت).. أبدعوا فنونهم الصخرية في (أكاكوس وساتافيت).. وفي (وان تلوكات) يرجع تاريخ الرسومات إلى أربعة آلاف وسبعمائة وتسعون عاما قبل ميلاد المسيح.. وهذا العهد سبق العهد الذي تفتّحت فيه بواكير الفن المصري (توقف).. وفي (تادرارت أكاكوس) خمس دورات فنية متعاقبة في أكبر مجموعة من فنون ما قبل التاريخ المعروفة في العالم.. حيث توصل الفن الراقي للحضارة الرعوية إلى مستويات رفيعة من الأسلوب والتعبير -منذ سبعة آلاف سنة تقريباً- عن عالم ثقافي واقتصادي بالغ في التعقيد.
رضا (يقـرأ):
أنسنوا الآلهة على صور تهم من ذكر وأنثى في (إداراك).. ونصبوا في (الها تيا الكبير) مائة هرم صغير أو أكثر، من الأضرحة شبه الهرمية لملوك الجرمانتيين وملكاتهم..
واستخدموا الثيران لجر عربات النقل والبضائع من وسط أفريقيا إلى شمالها.. وعرفوا عمليات التحنيط في فترة لم يعرف فيها قدماء المصريين بعد طرق التحنيط بالعناصر القطرانية، ولم تبتدئ هذه الوسيلة إلا من خلال السلالات الأولى (صمت).. وعرفوا العربات الحربية قبل المصريين.. وكانت عرباتهم التي تجرها الجياد مزوّدة بالأقواس المستديرة والمثلثة، وجعب السهام وقرب المياه.. وطوروا المركبات بعيدة الأرجل ذات الخيول الأربعة قبل ظهور شعوب البحر (توقف).. منذ تسعة آلاف سنة استقرت جماعات من صناع الفخار العتيق وجماعات من الصيادين المائيين القاعدين حول مجاري المياه الغنية بالأسماك.. وتركوا نماذج من لغة الإشارات وأقدم نقش كتابي بحروف ليبية عمرها حوالي أربع وعشرون قرناً.
الزاهى:
وفي هذه البلاد التي تخلّصت من قيود الحاجة.. وتركت بصمتها على العالم باللوحات الحجرية الحافلة بالحياة والمعاني الغامضة.. وكان الفن الصخري الليبي من أوائل الفصول التي كتبت تاريخ الإنسانية (صمت+توقف).. وقبل أن يراكم الإنسان تطوره من جامع القوت نصف الرحّال… إلى الراعي.. إلى الإنسان المقيم مشيد القرية ثم الحاضرة ثم الدولة.. حلت التبدلات المناخية المدمرة وأدت إلى انحصار السكان والتحشّد في الواحات والوديان…أو عند الساحل يعيشون في.. أكواخ ضيقة خانقة، يقضون بها جميع فصول السنة ولا يعرفون لذة من لذائذ الحياة.. وهكذا عجزوا عن تطوير أنفسهم مثل بقية شعوب البحر المتوسط …
فاطمة:
قبل الجفاف العظيم، بدأت قلوب الناس تتحجر واختاروا طريق الانا المفروش بالشر والجشع (توقف).. فغضبت السماء.. وأوفدت ملاكاً على هيئة عروس بحر جميلة (صمت).. غزالة البحر خرجت من الماء إلى ساحل طرابلس.. وسكنت وسط غابة رّمان في واحة المنشية (توقف).. شاهدها ابن السلطان “غادية” فأحبها بجنون (صمت).. أمر بأن توضع في الأغلال وتلحق بنساء الحريم.. فتبخّرت الغزالة وانسحبت إلى البحر، وأنسحب وراءها خط المطر (توقف).. وجفت الينابيع المتدفقة تحت الشمس الحارقة، وخلت السماء نهائياً من السحب.. وبدأت الصحراء تتعرّى على مهل، في مطلع عصر الجفاف الذي بدأ منذ عشرة آلاف سنة تقريباً وما يزال مستمرا حتى الآن.
الزاهي:
ومنذ حوالي ألفي سنة مضت، كانت فترة التردّي المناخي في أوجها.. وصار ضروريا استجلاب الجمل من أسيا.. وهو الحيوان المستأنس الوحيد القادر على العيش في الصحراء القاحلة.. وسميت لوحات الدور الأخير بدور الجمل، وهو الدور الذي ظهرت فيه صورة الجمل عند منتصف القرن الأول الميلادي (صمت).. وحمل الجمل على ظهره اقتصاديات الصحراء لألفي سنة.
رضا:
وما تزال الصحراء تتخلق عن طريق الانسحال والتمدد والتقلص وانفلاق الصخور.. فالحجارة تتدحرج على جوانب مرتفعات الجنوب، من صخور (تيبوز) في (جبال تاسيلي) وقمة (الاجراف) في (ادراك-الأكاكوس).. والطبقات العليا من (جبل العسل-زكنكره) في (جـرما).. وقد نحتتها بإتقان اشتدادات الحرارة، ثم تنكسر إلى قطع في منتصف الطريق لكي تتحلّل إلى كتل صغيرة صلبة سوداء في سفح الجبل، ثم تتراكم رماداً وتتغربل غباراً برتقالياً ينتهي به الأمر إلى أن يصبح رملاً أصفر على الكثبان العالية في الشمال، حين تهب من الصحراء رياح القبلي فتملأ الجوّ بالرمال وترفع درجات الحرارة إلى حوالي نصف درجة حرارة غليان الماء.
الزاهي:
كنت في (أكاكـوس) وشاهدت تقلص البحيرات وتفتت التلال ومجاري الأنهار.. وهجرة الفيلة وأفراس النهر طلباً لمراعي أفضل.. أمامي … خلعت البلاد رداءها الأخضر، وتدثرت بالكساء الرملي (توقف).. البلاد التي كانت يوماً جوهرة عديمة المثال.. البلاد التي كانت يوما مساحات من الكرمة والنخل والزيتون.. وحقول الشعير وأهرامات القمح.. البلاد التي كانت تنتج ثلاثة مواسم غلة في السنة الواحدة.. ومائة ألف جواد أصيل في العام.. البلاد التي تعهدت بإطعام أربعين مدينة يونانية من بينها (أثـينا) نفسها، عندما اجتاحت المجاعة الكبرى شعوب شمال البحر المتوسط.. البلاد التي تشير الحفريات إلى أن الليبيين الذين استوطنوا جبلها الأخضر، عرفوا فن النحت قبل قدوم الإغريق.. وتركوا أسلحة حجرية في كهف (هوا الفتايح) يقدر عمرها بأربعين ألف سنة.
البلاد التي كانت في أسطورة (عرافة دلفي): ليبيا البهيجة مرتع القطعان.. البلاد ذات السماء المثقوبة من غزارة المطر بلاد حدائق الإسبيراديس حيث أعطي الربّ زيوس زوجته هيرا.. من التفاح الذهبي.. بلاد السلفيوم من العصر المطير الأول إلى القرن الثالث قبل الميلاد.. البلاد التي استضافت الحضارات الكبرى..وشهدت اكتشاف الإنسان للوعي والفن والدين… وأبدعت كتابة التاريخ بالفن الصخري.. تجف عصارة روحها وتصبح يابسة كالقديد (صمت).. فأصبحت ألواني أكثر عطشاً.. وتطريق الحجر أكثر عنفا.. واضمحل الفن نهائيا، وتقلص إلى نقوش بسيطة.. باستثناء المرحلة الفنية الأخيرة.. مرحلة الحصان أو مزدوجة المثلثات، بسبب الأسلوب التخطيطي التجريبي الذي أبدعه فنان الجرمنت، منذ 1500 قبل الميلاد.
رضا:
ومع بداية عصر الجفاف ارتبطت عبادتهم بإله الشمس الذي اسمه (غرزيل).. الذي ينطق بالنبوءات عن المستقبل، وهو الدليل الدنيوي للعثور على نبع ماء أبدى يقهر العطش الآبد في الصحراء.. حيث يظهر كنحت على الصخور يحمل الشمس بين قرنيه.. وهو متميز عن آمون المصري.. الذي لا يتنبأ، بل بدأ كرمز للخصب والنمو.. (غرزيل) الليبي جمع بين قوة الثور وسناء الشمس، الذي طبقت شهرته الآفاق بين شعوب العالم القديم بأسره.. ظهر في البدء في أسطورة الطفل الذي يتزيا بزي حمل.. وهبط من السماء في مكان ما بين (بـرقة) و(قرطـاج) أمام مزارع ليبي ونطق بالنبؤات عن المستقبل ثم اختفى (توقف).. و(آمون سيوه) هو نسخة عن (غرزيل) السماوي الذي يظهر للتائهين في الصحاري، ويقودهم إلى النبع الخفي.. أو المدينة التي لا ترى إلا مرة واحدة (توقف).. اشتهر عند اليونان (بزيوس آمون) الذي أنقد “هـرقل” من الموت عطشاً في الصحراء.. وظهر للـ”إسكندر الأكبر” في لحظة يأس، فحج إليه “الإسكندر” في (سـيوه) طلباً للبركة (توقف).. و(غـرزيل) يتحول في النقوش الصخرية الليبية في إمساك ساتافيت إلى الودان أو الكبش أو كلب الصيد السلوقي المطوق.. ووصلت شعائر تقديسه إلى (قرطاج) وضم إلى مجمع الديانات بعد تحوير اسمه الى (بعل هامان) (صمت).. والتقدمات النذرية التي عثر عليها في (قرطاج) وبلغت بضعة آلاف ثلاثة أرباعها مقدمة إلى (بعل آمون).. وحملته السفن القرطاجية كتعويذة في الحرب والسلم.
فاطمة:
بسبب خطيئة ابن السلطان وتحجر القلوب أنشد الشاعر أو فيد:
(ليبيا تصحرت..
القيظ اختلس الرطوبة،
فناحت الحوريات مهدلات الشعور
ونعين جفاف الينابيع والبحيرات).
رضا (يخاطب الزاهي):
منحتك يا “حمودة” مد الولادات المتعددة.. تقمصت حيوات ماضية.. أنشأتك فنان الكهوف في ثقافة ما قبل الصحراء.. ثم فارس الأسطورة في (غرناطة) زمن حرب الاسترداد بين الملكين الكاثوليكيين “فرناندو” و”إيزابيل”، وملك غرناطة الأخير “عبدالله الصغير”.
الزاهي:
كنت أحارب حتى النهاية.. رافضاً استسلام (غرناطة).. واختفيت في النهر الأندلسي مع جراحي (صمت).. لقد جعلت كشاهد عيان على المصائب..
(“صالح” يعود من رحلة التأمل).
صالح:
أنا من مخلفات الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء والمحور.
الزاهي:
الأم ليبية، والأب من جيش الفيلق الإفريقي الألماني، بقيادة “رومل” المنسحب أمام الجيش الثامن الإنجليزي بقيادة “مونتيغومري”.
فاطمة:
في الحرب تصبح النساء ضحايا.
صالح (يخاطب الزاهي):
وجدتني ألعق إصبعي في المهد.. عند ملتقى الطرق والسكك الحديدية (توقف).. تحت شجرة السرو التي غرست في الكدوة.. يوم زار الدوتشي “بينيتو موسوليني” ليبيا.
(“رضا” يعود إلى الاسترخاء على البساط، ويخرج من تحت حاشية البساط كراسة مخطوطة أخرى.. يرفع المخطوطة عالية).
رضا:
النسخة السادسة من شجرة المسرحيات يا أبناء خيالي المثقوب.
فاطمة:
مسلسل اللعنات المهيبة في حلقات لا تنتهي…!
رضا:
ابن السلطان “غادية”.. والانا وفعل الشر وتحجر القلوب.. هي سبب الجفاف وظهور الصحراء (صمت).. هذا هو التفسير الخرافي في علم الناس (توقف).. فالأساطير هي صوت الشعب كما يقول الشاعر الألماني “هولدرلن”.. ومن خلالها يحي الشعب ذكري انتمائه إلى الوجود بكليته.. غير أن العلمنة فصلت بين الأسطورة والعقل.. وبين العلم والميثالوجيا.. فقد باتت الأسطورة عقلا.. لكن العقل يمكن انقلابه إلي إسطورة (توقف+صمت)…
…الصحراء الكبرى تخلقت تدريجياً بعد انحراف دوري في مسار الأرض حول الشمس (توقف).. منذ أزمنة بعيدة بدأت دورة الجفاف وانحرف مدار الأرض، وانسحب الجليد شمالاً إلى مواطنة الحالية حول القطب (صمت+توقف).. وربما كانت الصحراء المركزية بين (تاسيلي وفـزان) طوال مليون سنة مجرد صحراء.. تتغير قليلاً أو كثيراً بتغيرات المناخ الرطب والجاف.. تستقطب السكان، وتهجرهم.. مثل رئة الإنسان تمثلي بالهواء.. وتفرغ من الهواء…
…وظهرت الصحراء على امتداد الحزام الجنوبي من شرق الجزيرة العربية عبر مصر وليبيا والجزائر إلى الحافة الجنوبية من جبال أطلس في أطراف المغرب.. وفي وقت واحد أصبح شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية صحاري متشابهة تمتد منها طرق الهجرة شرقاً وغرباً.. وهي مساحة من الرمل تستطيع أن تغطي نصف سطح القمر …(صمت).
الزاهي:
حلقات من العطش، والعناء. والجفاف، والجدب، والجوع، والقحط، والحر، والريح القبلية الحارة المؤلمة كأنفاس من فرن.. تهب في لون مغم فتبتهج الأفاعي وتضطرب العصافير (توقف).. لم يستسلموا للانقلاب المناخي الذي غير وجه ليبيا منذ سبعة آلاف سنة.. عالجوا التربة الصخرية.. وعمقوا حفر الآبار (صمت).. أكلوا الأفاعي والجراد والنبق وحشائش الأرض.. وأسماك المد الميتة والقواقع وتوسلوا للسماء بالصلوات والرقص كي تمطر.. وصمدوا في وجه الجفاف العظيم.. أو رحلوا في هروب جماعي من صحراء لم تعد مضيافة إلى نيل مصر.. التي يبدوا أن سكان ليبيا الحاميين يشكلون خلفيتها الأفريقية.. في موجات مهاجرة من مئات الألوف مع قطعانهم.. وأخذوا يعبرون الحدود المصرية في حشود عسكرية من حملة السيوف التي يصل طولها إلى ثلاثة أرباع حاملها، ويحملون السهام الصغيرة في جعب خلف ظهورهم، والشفرات البرنزية.. في هروب جماعي… (صمت).. ومنذ بداية الألف الرابعة قبل الميلاد وتحت قيادة قبيلة (الليبو) تحالفت القبائل الليبية مع شعوب البحر لغزو مصر، واشتركت في هذا الحلف جميع القبائل التي كانت تعيش في شرق ليبيا…
فاطمة:
ومنذ منتصف الألف الثانية (ق.م) بدأت موجات الهجرة المسلحة من الرجال مع زوجاتهم وأطفالهم وقطعانهم.. تتواتر مع الغزوات العسكرية المنظمة..وتتواصل متدفقة نحو مصادر المياه الدائمة حول مجرى النيل (صمت).. وامتد الصراع إلى أربعمائة سنة بين عصر (سيتى الأول) وبداية حكم الأسرة الليبية سنة 945 قبل الميلاد.. وشهدت ثلاث حروب رئيسية.
رضا:
فر الأمراء إلى ليبيا وتركوا نعالهم وزوجاتهم.. وفي بعض الرسوم الفرعونية يظهر الأسرى عراة إلا من الجراب.. وفي رسوم أخرى (رمسيس الثاني) يذبح أسراه بخنجر معقوف، وقطته تنهش من لحمهم.. وفي مشهد أخر الفرعون يدق فأساً في رأس أسير ليبي (صمت).. وفي عصر البرونز نجد الأمير الليبي “مريي بن دد” رئيس قبيلة (الريـبو) الليبية في زحفه على النيل لم يحضر معه نساءه وعرباته البرونزية الفخمة فحسب، بل إنه أحضر معه كرسي العرش لكي لا يضطر للجلوس على الأرض.
الزاهي:
وفي نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، تذكر لنا لوحة فرعونية أسماء ستة من أمراء المشواش على الأقل.. تذكرهم كحكام من مدن مختلفة في الدلتا.. وفي المنظر المصور في (مقبرة خنوم) تظهر قافلة من الليبيين المهاجرين إلى أرض مصر، بنسائهم وقطعانهم وكل ما لديهم من الماشية.. وهذه القافلة من قبيلة (التحنو) ذوي البشرة البيضاء والشعر الفاتح والعييون الزرقاء.. وفي نصوص معبد (هـابـو) الفرعوني ترد إشارة إلى أن السبد تجمعوا مع (المشواش) و(الليبو) وتنادوا قائلين: (دعونا نذهب إلى مصر).. وهذه إشارة إلى اتحاد القبائل الليبية الذي هاجم الدلتا في عصر رمسيس الثالث.. وتصفهم بالشراسة والعنف.. وكانت القبائل الليبية قد اخترقت تحصينات الدولة واستوطنت الدلتا.
فاطمة:
وفي الألف الأولى قبل الميلاد، تمكن أمير (المشواش) الزعيم الليبي “شيشـنق”.. الفرعون الليبي الأول من اعتلاء عرش مصر من (945-929) قبل الميلاد.. بعد انقلاب سلمي في نهاية عصر الأسرة الواحدة والعشرين.. وبدأت مرحلة جديدة من فصل التاريخ الليبي خارج ليبيا.. وهو الحفيد الرابع لـ”بويوويوا” الشهير بـ”النمر صاحب الشوشان” وجدُّ “شيشنق الثالث” “موسين” كاهن آمون وقائد جنود المرتزقة في المدينة.
رضا:
جمع “شيشنق” بين البسالة والإقدام وحب الفن الصخري المتوارث من الوطن القديم.. وحكمة وعلم مصر الحضارة.
صالح:
وهو الموحد لمصر والسودان وليبيا والشام.. وهو المذكور في إصحاحين من العهد القديم بعد حملة كاسحة على فلسطين (صمت).. وكانت خريطة الشرق الأوسط تشبه إلى حد كبير شكلها الحالي الذي نعرفه به الآن.. وكان الإسرائيليون قد تعاظمت قوتهم في فلسطين تحت حكم أسـرة “داوود” (صمت).. وقد فرغوا من احتلال فلسطين واخذوا يمدون أنظارهم في اتجاه مصر ومنطقة دجلة والفرات.. فيما ظل الفلسطينيون يقاومون هذا الغزو في أماكن متفرقة، ويتوافدون على مصر طلباً للعون العسكري، لكن أحداً من ملوك الأسرة الواحدة والعشرين لم يستجب لهم.. أمام سلسلة المعاهدات التي عقدها الفراعنة مع ملوك إسرائيل وعقدوا الصلح معها.
الزاهي (يقـرأ):
ومنذ حملة “سيتى الأول” على الشام في الألف الثانية قبل الميلاد، ظل الجيش المصري في سيناء عاجزاً عن الحراك (صمت).. وقد بقي هذا الجيش واقفاً حتى سار به “شيشـنق” في حملته الشهيرة على فلسطين.. عند الألف الأولى قبل الميلاد.
صالح (يقـرأ):
وفي العهد القديم جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر الملوك الأول: (… في السنة الخامسة للملك “رحبعام” صعد “شيشنق” ملك مصر إلى (أورشليم) وأخذ كل شي،. وأخذ جميع تروس الذهب التي عملها سليمان).
فاطمة:
وجاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر أخبار الأيام الثاني: (… ولما تثبت الملك “رحبعام” وتشدد ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه، وفي السنة الخامسة للملك “رحبعام”، صعد “شيشنق” ملك مصر على أورشليم، لأنهم خانوا الرب، بألف ومائتي مركبة وستين ألف فارس ولم يكن عدد للشعب الذين جاءوا معه من مصر.. لوبيين, وكوشيين، وأخذ المدن الحصينة التي ليهودا وأتي إلى أورشيلم.. فجاء “سمعيا” النبي إلى “رحبعام” ورؤساء يهودا الذين اجتمعوا في أورشيليم من وجه “شيشنق” وقال لهم: وهكذا قال الرب أنتم تركتموني وأنا أيضاً تركتكم ليد “شيشنق” فتدلل رؤساء إسرائيل وقالوا: بار هو الرب).
رضا:
وعلى جدران صرحه المتناه الضخامة في معبد الكرنك.. الذي يبدو أنه أكبر صرح عرفته مصر القديمة بأسرها.. سجل “شيشنق” انتصاراته على إسرائيل في فلسطين.. وقد حفرت هذه الرسوم على الحائط الجنوبي من الخارج وانتشرت.. وانتشرت حتى غطت على المناظر العسكرية الخاصة “برمسيس” كانت تروي انتصاراته على الليبيين وما أنزله بالمشواش من قتل ومطاردة.
صالح:
(كان شيشنق يكتب التاريخ بطريقة صحيحة) هكذا كتب “الصادق النيهوم” في تاريخنا (صمت).. وهكذا كان “سيشنق” بطلاً قومياً لليبيا ومصر على السواء.. وقد جاء في فترة تاريخية خاصة تميزت بتعاظم عنصرية إسرائيل (توقف).. وقد حكم “شيشنق” إلى واحد وعشرين عاماً كانت أعظم أيام ليبيا ومصر على حد سواء.. نصر العدالة وحارب الفساد.. ودفع عن المنطقة خطر إسرائيل.. وأعاد تاريخها إلى مجراه الصحيح (صمت).. وحفر منجزاته على الصخر بمثابة تذكار دائم لشعوب المنطقة من بعده (توقف).
فاطمة:
وقدم الأمراء الفينيقيون بهداياهم إلى مصر.. ووضعوا في معابدها قرابين من لوحات وتماثيل باسم “شيشنق” العظيم.
الزاهي:
…وخرجوا في نبضات مهاجرة من مئات الألوف إلى كريت -كما يقول هيرودوت- ونشروا صناعة الخزف فيها…
…وإلى (إسبانيا) التي كان فنها المشرقي منتسباً إلى مجموعة واسعة أيبيرية/افريقية، يفسرها وجود برزخ جبل طارق منذ القدم (توقف).. وعبروا البحر إلى جزيرة إيرلندا.
فاطمة:
وفي (إيرلندا) اليوم.. نسمع الصدى الليبي القديم في موسيقى (الجيلك).. ونرى الأثر الليبي في قعقعات رقصة (الكاسكا).. التي لا يوجد مثلها في العالم ماخلا رقصات الحرب عند الهنود الحمر وأمريكا اللاتينية (صمت).. وربما شعوب (السلت) التي جاءت إلى بلادنا في دور من أدوار التاريخ، غير المعلومة في رحلة عبور للسلت في شمال أفريقيا.. تفاعلت مع الأفكار والمنجزات.. وطبعوها بطابع سلتي قوي بعد أن انتقلوا عبر أوربا إلى إيرلندا.
رضا:
الآن، هناك شفرة جينات يمكن استخدامها مع فصائل الدم لكتابة تاريخ الهجرات البشرية في الآلاف الأخيرة من السنين.
الزاهي:
عند فحص زمرة الدم عند الويلزيين القدماء.. وجد أن الأغلبية يحملون زمرة الدم O.. وكثرة هذه الزمرة الدموية يمكن أن ترد إلى أصول قبلية من جزر البحر المتوسط وشمال أفريقيا.
رضا:
أساطير (أيرلندا) تصف قدوم الموجة المفاجأة من المهاجرين، بأنهم وصلوا إلى الجزيرة على غيمة سحرية مسلحين بكنوزهم وسيوفهم الطويلة (صمت).. وكانوا تحت قيادة زعيمهم “داقـدا”.
فاطمة:
خاضوا المعارك مع السكان واكتسحوا الجزيرة.. وعرفوا بشعب الرب أو الدانان.. الذين منهم جاء كل الرجال الايرلنديين المتعلمين.
صالح:
ويصفهم “ديود روس” الصقلي بأنهم كانوا طوالاً وأقوياء البنية، بعيون زرقاء وشعر أشقر مائل إلى الحمرة.. يطلقون شعورهم حتى الذقن وشعر الرأس ليس فقط مسترسلا ولكنهم كانوا يستخدمون وسائل صناعية لزيادة هذا النوع الطبيعي من اللون.
الزاهي:
وهناك من يقول إنهم كانوا أطلنطيين نجوا من الطوفان.. أو كانوا في عملية هروب مماثل من كارثة..(توقف)… أو قدموا من الهند (صمت).. ولكننا لا نملك أي أسس واقعية يرجح بها أيا من الفرضين.. وهم بالتأكيد ليسوا من أوربا حيث أن مواصفات أسلحتهم وشخصيتهم لا تتماثل مع من سبقوهم أو تلوهم.. ولن نجد شبيها لهم إلا قبائل (التحنو) في ليبيا القديمة (صمت).. فـ(التحـنو) أيضا بعيون في زرقة البحر وشعر أحمر، كما ظهرت صورهم في نقوش الفراعنة وفي قصائد الشعراء القدامى …وفى حكايات الجدات …(صمت).. والتقدير الخاص للشمس وحجر النبوءة أو حجر الفال المزغرد المتنبىء، والوعاء القرني الذي حملوه معهم -حسب الأسطورة- الذي يستطيع إطعام جيش ويبقي مليئاً.. يمكن تأويلها كإشارات إلى “غرزيل” الليبي الذي ينطق باللنبوءات.. ويحمل الشمس بين قرنيه.
صالح:
ومن القرن الثالث عشر قبل الميلاد إلى القرن الماضي.. حجبنا عن تاريخنا بلعنات الاحتلال الأجنبي (توقف).. ثم جاءت الطامة الكبرى.. لعنة النفط الخام.
الزاهي:
ونهاية شجرة المسرحيات.. تضاءل قيمة النفط وارتفاع الحرارة، وهجوم الصحراء، ونقص المياه، وتدهور الغطاء النباتي، وازدياد عدد السكان ورحيل المطر.
صالح:
وربما نهاية العالم.. في الثلث الأخير من الألفية الثالثة! كما جاء في توقعات نوستراداموس.
رضا:
ونهاية القرن الخامس عشر للهجرة النبوية في الثالث الأخير من الألفية الثالثة، يحين وقت قيام الساعة في الوصية الكبرى لسيدي “عبدالسلام الأسمر”.
صالح:
ولهذا السبب لن أتزوج!
فاطمة:
ما العلاقة بين تصحر ليبيا ويوم القيامة؟
رضا:
الأمر متروك لي، حقي في قراءة نصي.
فاطمة:
قراءة سيـئة إذن!
الزاهي:
كل قراءة هي قراءة سيئة وتأويلات لا متناهية.. وكل شكل فني من رسوم (أكاكوس) إلى الآن (يشير إلى اللوحة الكبيرة) مفتوح على تذوق لانهائي.
(“رضا” يمشي حول “الزاهي” وينظر مباشرة في عينيه).
رضا:
أنت حروفي.. وأصواتي.. وأفكاري (توقف).. (يشير إلى “فاطمة” و”صالح” و”الزاهي” ).. أنشأتكم حرفاً بحرف.. ومفردة بمفردة (صمت).. نظرت إلى وجوهكم في العدم (صمت).. والآن تناقشون خياراتي.. وسوء اختياري..؟ أنتم من مخلوقاتي… ومن شجرة مسرحياتى في نهاية المطاف.
(“الزاهي” يقف بصعوبة ويمشي بمهل متوكئاً على عكازه بثقل واضح ويدب حول “رضا”.. يعاين “رضا” بنظرة من الرأس إلى القدمين).
الزاهي:
عندما تموت شجرة على الأرض.. شيء ما يموت هنالك أيضا. (يشير إلى السماء).
(“صالح” الآن يعود إلى جلسة اللوتس بيدين مرفوعتين فوق رأسه).
الزاهي:
خارج هذا البيت.. غربي كهوف (الكدوة) المدمكة تحت طريق جبل (سيدي رمضان).. عند منعطف مجرى نهر (الهـيرا) المختفي منذ آلاف السنين (صمت) .. شجرة المسرحيات… آخر أشجار السنديان تقاوم العطش منذ منتصف عصر الجفاف عمرها أربعة آلاف عام… رأيتها تحتضر.. تحدثت إليها بتودد.. حاولت إنعاشها.. أنقذتها لفترة.. ثم ماتت قبل بضع سنين.. كتبت الشجرة بغصون علوية كلمة لا..
(“صالح” الآن بيدين مرفوعتين فوق رأسه الناظر إلى السماء.. يردد ويردد مع موسيقي تأمل هندي).
صالح:
نعم، نعم.. لقد توسع الانحطاط الروحي على الأرض على نحو تواجه فيه الشعوب خطر فقدان آخر كمية من الطاقة الروحية، التي تمكنها من رؤية هذا الانحطاط.
(تتوقف موسيقي التأمل)
(“رضا” يشير إلى “صالح”).
رضا:
آخر أشجار السنديان قالت: لا، وهذا صالح يقول: نعم!؟
فاطمة:
في التأمل لا.. بمعني.. النفي.. الموت.. ونعم.. بمعني الإيجاب.. الحياة (صمت).. صالح كان يقول: لا للحب والضحك.
الزاهي:
و(لا).. هي بداية الكلمة التي جمعت النفي والإثبات، كلمة لا إله إلا الله (صمت).. (لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون).. و(لا) هي صيغة التأمل عند “ابن عربي” (توقف).. يستقبل القبلة، ومع الشهيق يردد: لا إله.. ومع الزفير يردد: إلا الله.. و(لا) هي الكلمة التي رسمها “ابن عربي” ليصور اسم الله الأعظم (هو) بين جناحيها.
صالح (مع موسيقي تأمل هندي):
إن تعتيم العالم وانسحاب الآلهة وتحطيم الأرض، وتحويل الرجال إلى كتل، والتشكيك بكل شيء حي وخلاق وكراهيته، كل هذه الأشياء حولت منذ وقت طويل الفصل الطفولي بين التشاؤم والتفاؤل، إلى أمر مضحك.. الفيلسوف “مارتن هايدجر” (تتوقف الموسيقي).
فاطمة:
في المسرحية.. طالبت الناس على لسان “الزاهي” التوقف عن إنجاب الأطفال حتى ينقرض الناس من على كوكب الأرض، وتبقي الحيوانات فقط !..
(“رضا” يهز رأسه بالإيجاب..)
الزاهي:
من دون الأطفال لن تكون هناك الرسوم المتحركة..!
رضا:
هكذا فكرت أنا أيضاً..
فاطمة:
وفي المسرحية أقول هذه الكلمات:” أرضى برئاسة الوزارة في (سويسرا) إذا كان الوزراء من الملائكة وليس من القديسين “.
رضا:
فـعـلاً..
فاطمة:
لماذا الوزراء من الملائكة.. وليس من القديسين؟!
رضا:
القديس يبحث عن الخلود في كتب التاريخ.. القديس أناني كبير مثلكم (توقف).. أنتم جميعاً تصرون على الظهور في شجرة المسرحيات، رغم محاولاتي تمزيق وجودكم.. أنتم تدمنون الخلود..
(“صالح” وقد عاد من التأمل .. بيدين مسترخيتين على ركبتيه..).
صالح (يشير إلى “فاطمة” و”الزاهي”):
نحصل على الخلود من ثلاث نجوم خزنت في أعماقنا… في داخل كل منا نجمة متوافقة اخترناها بعناية من بين النجوم (توقف).
رضا:
لا أصدق كلمة من هذا الهراء (صمت).. هذا العجوز (يشير إلى “الزاهي”) سافر إلى في الهند واتبع سبيل (الجورو)!
فاطمة:
ورد في الأثر: (الحكمة ضالة المؤمن، التقطها أين وجدها).
الزاهي:
قذفت بي إلى هذا العالم عدة مرات (توقف).. قبل وبعد تخلق الصحراء.. قبل وبعد سقوط غرناطة.. ثم في ليبيا.. أواخر العهد العثماني الثاني.. نهاية القرن التاسع عشر.. قبلا عودة الرومان الثانية.. مع بداية القرن العشرين كنت أحارب الطليان الغزاة على شواطئ طرابلس.. وخسرت تلك الحرب أيضا.
رضا:
وتركتك تهاجر إلى أيرلندا.. وأصبحت قساً.. ثم من أتباع الديانة اليودية.. ثم عدت بك إلى الإسلام من جديد.
الزاهي:
ما أسهل عليك التنقل بمعتقداتي.. من الشيخ “محيي الدين بن عربي”.. ومولانا “جلال الدين الرومي”.. إلى القديسين “أوغسطين” و”الأسيزى”!؟ (صمت).. أنا كاهن كاثوليكي متخرج من مانوث.. أقع في حب الراهبة الأيرلندية “نورا أوبراين”.. ونطرد معاً من الكنيسة الخ، الخ.. وهكذا سقط متاع!
رضا:
زوجتك “نورا أوبراين”.. قتلت بسم الحية (أم القرون)، في صيف (الكدوة) الحار بعد عام المجاعة المحزن بعام (توقف).. سنة 1949 زمن الإدارة البريطانية لطرابلس وبرقة.
الزاهي:
وأنا وحدي في المأتم.. وأمامي “نورا أوبراين” في التابوت، أقبض على رأس الحية.. أذبحها.. أنزع الجلد وأفدغ معها البصل فوق النار في الحساء.. أمزمز النبيذ مع اللحم والمرق .. الخدر يسري مع الشراب.. ثم أقرأ الأنشودة رقم 24 من جحيم “دانـتي” عن ليبيا النضناضة بالحيات القواتل، التي لا يوجد أسوا منها إلا أفاعي الجحيم .(توقف).. ثم عدت إلى (أيرلندا).. وقد أقسمت ألا أعود إلى وضع قدمي في ليبيا.
رضا:
وستموت في (أيرلندا) بعد سنوات قليلة.
الزاهي:
هنالك.. في بلاد الاقتصاد الأكثر انفتاحاً على العالم (توقف) أعيش على.. المساعدة الاجتماعية(صمت) . تكفي لتغطية تكاليف التدفئة والمسكن والطعام.. (صمت).. ومن يضمن لي الملبس والعلاج والشراب؟!
رضا:
والآن.. وبمعاونة الفياجرا (صمت).. تستطيع الزواج ثانية (صمت).. يا “ماسينسين النوميدي” العجوز..
الزاهي:
كان “ماسينسين النوميديى” سيد الشمال الأفريقي الصارخ في وجه الرومان: (أفريقيا للأفريقيين).. “ماسينسين” العجوز قاد هجوماً للخيالة وانجب عدة أطفال في سن الثمانين، قبل اختراع الفياجرا بألفي سنة.. وبعد انقراض (السلفيوم) بمئات السنين (صمت).. يا رجل الأدب البخيل…. أرسلتني من الكدوه.. أشد نقاط الأرض حرارة إلى دبلن .. أكثر نقاط الأرض برودة , مع دخل صغير..
(“فاطمة” الآن تقرأ بتمعن فنجان قهوتها).
رضا:
أنا في ليبيا أعيش على نصف راتب تقاعدي من صندوق الضمان الاجتماعي (صمت).. يكفي للسجائر والقهوة والسندوتيش (توقف).. أنت محظوظ أن تكون في (دبلـن).
(“صالح” ينهض ويمشي نحو “الزاهي”، وينحني له بطريقة يابانية).
صالح:
شجرة المسرحيات.. نحن شجرتها التي لا تموت.
(“رضا” يحمل فنجان قهوته الفارغ، ويتجه إلى “فاطمة” يضع الفنجان أمامها مقترحاًً قراءة الفنجان).
رضا:
أنت تشبهين نساء (أكاكوس) في مرحلة من مراحل الجفاف.. سأهبك دور ساردة الأسطورة..
(“فاطمة” ترفض القراءة.. بإيماءة من رأسها).
رضا (“رضا” يخاطب “فاطمة” بحزن):
(معليش) يا للا “فاطمة”!
(“رضا” يخاطب “صالح” الجالس الآن في هدوء على نطع الخروف).
رضا:
(معليش) بالألمانية ياجرمانيا (نيتشيفون).
(“رضا” يخاطب “الزاهي” الذي سكن في نفسه كالتمثال).
رضا:
(معليش) بلغة الهنود: (كوتشي بارو نهين هي).
(“رضا” يعود إلى مكانه بخيبة.. ويبدأ في قراءة المخطوطة في صمت).
الزاهي (يرفع صوته):
الجدار هو الباب الصحيح
صالح وفاطمة:
الجدار هو الباب الصحيح.
الزاهي وصالح وفاطمة (معاً):
الجدار هو الباب الصحيح.
(“الزاهي” يربط حزام مقعد متخيل.. ويغمغم لنفسه)
الزاهي:
إلى (دبلـن) أيها السفر النجمي.. إلى أجمل حانة أعرفها.. إلى أجمل بيرة سوداء في العالم..
(صوت موسيقي أيرلندية ولغط بالإنجليزية المنطوقة في دبلن.. وتخفت الإضاءة قليلا حول “الزاهي”).
الزاهي:
في رأسي تدور الكلمات من شعر الصوفي ” مولانا جلال الدين الرومي”:
يا حكماء
افتحوا جرة النبيذ..
إحذروا كي لا تصدأ مرآة القلب أو تتحطم..
ولكي لا يدخل الكره والاحتقار..
رضا:
أتمنى لك رحلة سعيد إلى وطنك الثاني آخر العمر…
فاطمة:
اخترنا البقاء حتى يوم القيامة حين يكتمل الحساب الرباني..
(“فاطمة” تسترخي في الكرسي الهزاز وتتمرجح ثم تتوقف عن التمرجح).
صالح:
لقد رحل “الزاهي” إلى (دبـلن) وأنتشي بالبيرة السوداء..
رضا (بصوت مرتفع ممطوط):
هـذيـان!
(“صالح” يشير إلى “الزاهي”.. ويسأل “رضا”)
صالح:
قلت: فى حياة قادمة- – يكون “الزاهي” راعي قطيع .. لاما.. في أمريكا الجنوبية.. أي بلد هي؟
رضا:
بـولـيـفـيا.
(“فاطمة” تتمرجح ثانية في الكرسي.. وتقول بصوت ممطوط تقلد رضا).
فاطمة:
هـذيـان!
(“صالح” يقف ويتجه نحو “رضا”..).
صالح:
أنت!.. أنت.. أوجدتنا هكذا في شجرة المسرحيات!
رضا:
وأنت من؟.. ولا أم لك.. ولا أب؟
صالح:
ظهرت رغم إرادتك وإرادتي.. عندما وجدني “الزاهي” في الكدوة .. مهجوراً تحت شجرة “موسوليني”.. وجد معي هذه السلسلة (يخرج سلسلة فضية من تحت ياقة القميص بها قطعة فضية مستطيلة).. ربما هدية وداع إلى أمي نقش عليها أسم أبي الألماني وعنوانه في توبنغن (توقف).. “الزاهي” علمني كتب الحكمة.. وأن أحفظ لساني من الكذب والغيبة (توقف).. لأن الكذبة الواحدة تحتاج إلى عشر كذبات لحمايتها.
فاطمة:
الكذب فضيلة منحها أفلوطين لأهل السلطان والسياسة فقط، من أجل مصلحة الشعب.
(“الزاهي” الآن يتكلم في نومه يشير إلى رحلته وتجاربه خارج الجسد..)
الزاهي:
أنا الآن على ظهر سفينة الحقيقة.. أبحر إلى نهاية الظلام.. الربان هو الصوفي الأندلسي “محي الدين بن عربي”.. أنا قصيدته دين الحب العالمي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
فالحب دينــي وإيماني.
رضا:
“حمودة الزاهي” يحاور نفسه في الأحلام البيضاء ويتحدث العربية والإنجليزية والأسبانية والإيطالية، وفي بعض الأحيان القليل من الأيرلندية.
صالح:
ولم هذا أيها المؤلف؟
رضا:
“الزاهي”.. يغادر جسده ويدخل النص.
صالح وفاطمة معا:
أي نـص؟
(“رضا” يرفع كراسة المخطوطة عاليا.)
رضا:
هـذا الـنـص!
(“صالح” و”فاطمة” يتلقفان كراسة المخطوطة من “رضا”.. ويقلبان صفحاتها).
فاطمة:
صفحات بيضاء!
صالح:
صفحات عذراء!
الزاهي (يستيقظ منـتـشياً):
(وتتغير الإضاءة إلى إضاءة فخر).
رضا:
شجرة المسرحيات ماتت.. وسكنت في أكياس القمامة..
(من خلف باب المكتبة/ المرسم المغلق.. نسمع صوت انهيار السقف.. ومن الكوة نرى الآن ضوء الفجر.. “الزاهي” يرفع رأسه بهدوء تام.. وينظر إلى مصدر الصوت.. وفاطمة وصالح ورضا يسرعون إلى فتح الباب والدخول إلى المكتبة/ المرسم.. ومن الباب المفتوح نسمع أصواتهم من خارج الركح وقد امتلأت المكتبة/ المرسم بالغبار وضوء الفجر..).
فاطمة:
إنهيار السقف الخشبي المشيد في نهاية القرن التاسع عشر.. وانساب ضوء الفجر على الكتب.
صالح:
مكتبة بلا سقف كولد بلا أب.
(“فاطمة” و”رضا” و”صالح” يخرجون من المكتبة/ المرسم.. وعليهم آثار الغبار.. “فاطمة” تنظر إلى كتاب في يد “رضا” تقرأ العنوان)
فاطمة:
الوصية الكبرى للقطب الرباني العارف بالله الإمام الشيخ سيدي “عبدالسلام الأسمر”.
الزاهي (بصوت مرتفع يهلل):
قـدس سـره.
(“رضا” يفتح الكتاب على صفحة معينة.. ويقرأ من كتاب الوصية الكبرى).
رضا:
ولم نزل نتكلم في الأزمنة والسنين حتى أقول.. قد تقوم الساعة عند تمام الخمسة عشر قرناً من الهجرة النبوية وأخبرني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهيام والغياب والحال وشاهدتها في اللوح المحفوظ بعين القلب.. إخواني وإذا ناقشكم بعض الفقهاء في هذا الأمر وهو قيام الساعة فالحق معهم والشريعة تجرى مجراها والحق أحق أن يتبع قال تعالي: (تأخذهم وهم يخصمون).. ولا شك أن كلامنا هذا في أمر لم يأتي به الكتاب ولا السنة وقال تعالي لنبيه: (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله) وقال تعالي: (ويسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عـند ربي) وقال تعالي: (أن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً، وما تدرى نفس بأي أرض تموت أن الله عليم خبير).
فاطمة:
نهاية القرن الخامس عشر للهجرة، تقع في الثلث الأخير من هذه الألفية الثالثة (صمت).. نهاية العالم مازالت بعيدة!.
صالح:
وماذا يقول المساكين الموتى منذ ستين ألف سنة خلت؟
الزاهي:
يوم انقراض الدنيا أتجاوز الحياة وتكتمل سعادتي في الآخرة (إن يوم الفصل كان ميقاتا).
(مؤثرات وموسيقي..)
فاطمة وصالح والزاهي ورضا (يرددون معاً):
أحدٌ لاشي قبله ولاشيء بعده.
(نرى البرق ثم نسمع الرعد.. وصوت هطول المطر دون أن نرى المطر يسقط.. ومع إيقاع الدفوف (خلفية صوتية) نسمع إنشاد قصيدة (البحر الكبير) للشيخ “عبدالسلام الأسمر”.. ومع بداية القصيدة يبدأ “صالح” في رقصة الصوفي في التأمل الهندي (الدوران السريع عكس اتجاه الساعة ويستمر طول مدة الإنشاد).
أنا القطب الغوت السلطان/ ولي مشهور ظاهر
أنا أولانى الفرد الرحمن/ عن كل بادي وحاضر
تبدت شمسي بأن ضوت الأكوان/ الرب عاطي وقادر
بالمدد والبركة مليان/ والسر عندى تكاثر
جاتني الكهول وجاتني الشبان/ وجاتني الرجال الأكابر
من الشرق وأقصي الغرب الجوان/ إلى بلاد الجزائر
حط الرواحل عندي حطان/ بخيولهم والبعاير
نالوا الصلاح ونالوا العرفان/ وفاحت عليهم سراير
أنا الولي مشهور الشان/ عارف وطبيب ماهر
عندي علوم الخضر ولقمان/ أنا محل الأشـاير
عند نومي شفت الرحمن/ جبريل بحداي حاضر
فقال لي ياذا السلطان/ حاكم وخبير شاهر
أعطالك ربك سر وبرهان/ الله يزيدك سراير
هاذي معاطي الرب الديان/ قدوس واحد وقاهر
لو حضرت للحلاج فلان/ نحميه ويعود شاكر
وزروا ضريحي بعد ندفان/ لأني حي حاضر
نذكر ربي بخفا وعيان / وأوقات بالجملا جاهر
ولي دف دايم رنان/ ولا زلت ذو أسرار
ونصلي على الهادي العدنان/ سيد العجم والأكابر
صالح:
ربما لن تعاني ليبيا من العطش في أيام الكرة الأرضية الأخيرة.. أخي الألماني “وولف جانج” بعث إلى برسالة عن طريق الإنترنت يقول: أحد العلماء الألمان اخترع طريقة لتحويل الرطوبة إلى ماء (صمت).. كل قطرة من الرطوبة تنتج ألف قطرة من الماء.
(“صالح” يرفع كأسه المتخيل في اتجاه ألمانيا ويشرب النخب).
صالح:
“بروست”! أخي في (توبنجن).. رب أخ لك لم تلده أمك. (توقف).
(يشرب النخب المتخيل. ثم يرفع الكأس في اتجاه فزان ويشرب)
ونخبك ياجبل (أدراك) المقدس في (تشوينيت أكاكوس) (توقف).. فالدنيا في شعر الطوارق.. صراع وخداع ولا يقوى على تحملها إلا جبل (أكاكوس) الذي لا يكترث لدوران الريح حوله بعماته الزرقاء اللا مبالية بالضباب.
الزاهي:
وربما لن يعاني وطننا من صدمات ما بعد النفط.. إذا تحولت رسوم (تادرارت أكاكوس) ونقوش مساك (ساتافيت) إلي مناطق محمية أسوة بغيرها من المناطق الثقافية بالعالم.. يحج إليها الملايين من كل جهات الأرض.. فعوامل العبث بالفنون الصخرية في تزايد سنة بعد سـنة (صمت).. والجميع يطبق حرفياً النص اللاتيني القاتل: Libera Libya caca ubi libet, (بإمكان الفرد في ليبيا أن يلقي القذارة أين يشاء) (صمت)..
…وما زال يطبق حرفيا المثل النيهومى الساخر ..” زورونا لكي نقرصكم”..
… فنوننا الصخرية انتظرت طويلاً في اتجاه الإشراق المقبل (توقف)..
(يتوجه “الزاهي” الآن بالخطاب إلى “رضا”).
الزاهي:
أنت المؤلف المفترض.. لقد تخيلت كثيرا.. اقرأ الفقرة الأخيرة..
(“رضا” يتوجه بالخطاب الأخير إلى الجمهور..)
رضا:
في الثلث الأخير من الألفية الثالثة قد تقوم الساعة… وقد لا تقوم… الله وحده يعلم (توقف+صمت) نحن: “الزاهي” و”فاطمة”، و”صالح”، و”رضا”.. لن نذهب إلى الجحيم.. ولن نذهب إلى النعيم.
الزاهي وصالح وفاطمة ورضا (جميعا ومعا):
هذا كل ما كتب لنا لكي يقال لكم.
ستارة النهاية