أنس الفقي
خلال محاضرة بعنوان ” شعراء العقد السادس ” بداية العام الجاري ذكر الأستاذ منصور أبوشناف أن القصيدة الشعرية الحديثة ليست مستوردة من الخارج، وهذا الرأي غريب حيث إنه لم يعرف هذا النوع من القصائد في ليبيا قبل خمسينيات القرن الماضي. ليست القصيدة الشعرية الحديثة فقط هي المستوردة فحتى تعبيراتها وكلماتها أيضاً مستوردة، و د. عمرو النامي في مقالات له في ستينيات القرن الماضي يشير إلى هذه التأثيرات المستوردة في القصيدة الليبية الحديثة مثل الصلبان والنواقيس وزحل كلها ألفاظ ليست ليبية، وما ذكره عمرو النامي لم يكن تشخيصاً لأزمة الهوية الوطنية بل دفاعاً عن فكر مستورد آخر تم تهريبه عبر الحدود خلال نفس فترة ظهور القصيدة الحديثة تقريباً. محاضرة الأستاذ منصور بوشناف يمكننا تصنيفها على أنها تأريخ للقصيدة الليبية الحديثة منذ بداية ظهورها إلى نهاية العقد السادس، لكن الأستاذ منصور بوشناف لم يقدم لنا مدى قوة تأثير القصيدة الحديثة على المجتمع الليبي ومدى تفاعله معها، وبغض النظر عن بروز القصيدة الحديثة خلال اضطرابات سياسية في فترات متقطعة من تاريخنا المعاصر فإن تأثيرها ظل محدوداً ويخص مجموعة معينة يجمعها الشغف بهذا النوع من الفنون. وفي ظل الأزمة الليبية الحالية فإن الطبقة المثقفة تتحمل مسؤولية كبيرة في تشخيصها، وتتحمل أيضاً مسؤولية أكبر في تقديم العلاجات المناسبة للقضاء على هذه الأزمة، وأعتقد جازماً بأن القصيدة الحديثة ليست واحدة من تلك العلاجات المطلوبة لعلاج الأزمة الليبية على أي حال. ليس لأن القصيدة الحديثة كلام نتري، وغرائبي، وغير موزن، وغير قابل للنقد لأنها لا تخضع لقواعد ثابتة ، بل لأن تأثيرها على المجتمع الليبي كان دائماً ضعيفاً. . ربما نحمل القصيدة الحديثة أكثر مما تحتمل فيما يخص الأزمة الليبية الراهنة وهذا بالذات يؤكد ضعف تأثير القصيدة الحديثة مرة أخرى. قد تكون نظرتي متشائمة ومنحازة وضد القصيدة الحديثة، لكن إذا نظرنا إلى نصف الكوب الملآن فإن العلاج قد يكون فعالاً بالنسبة للقصيدة الشعبية الليبية ( أدب الأميين ) فهي الأكثر انتشاراً، واسمها يدلل على حقيقة شعبيتها عند المجتمع الليبي، كما أن تعابيرها وكلماتها وأيضاً مضامينها وكذلك القضايا التي تطرحها قريبة من وجدان المواطن الليبي بعكس تلك المواضيع الغرائبية والنبرة الفوقية التي تعبر بها القصيدة الشعرية الحديثة والتي لا يستسيغها المواطن الليبي ويشعر تجاها في أغلب الأحيان بالبرود. ربما سيخطر على بال الأستاذ منصور بوشناف السؤال التالي. إذا افترضنا أن القصيدة الحديثة غير مؤثرة، وأنها غير ذات جدوى في علاج الأزمة الليبية الحالية – رغم أننا لم نفترض ذلك – فما هي قوة تأثير القصيدة الشعبية في علاج الأزمة الليبية الحالية؟ ربما في تقديم هذه الفسيفساء الشعرية التالية لمجموعة من الشعراء الشعبيين الليبيين عن مفهوم الوطن في عمل يستصعب على الكتّاب المحترفين إنجازه إجابة شافية للأستاذ منصور بوشناف، فالشاعر الشعبي التهامي الطايع يقول في الوطن :
– حب الوطن جا بالحبس جانا**** و احنـــا شي مانا عاملين
كنا في معــــــاشنا في هنانا **** ظهور الخيل ديمه ركابين
ركابين الابتـــــر بو عنانه **** رفيع الشوف قاصر كل قين
الشاعر في قصيدته الشعبية يصف معاناته بالسجن في المنفى بالجزر الإيطالية حقبة الاستعمار الإيطالي وتؤكد الأبيات على حقيقة أن مفهوم ” الوطن ” معروف قديماً بين الليبيين، وقد يلتبس على قارئ الأبيات البروز المفاجئ لحب الوطن عند الشاعر، ولكن من الواضح أن الشاعر يعبر عن أحاسيسه المرهفة تجاه الوطن والتي تظهر بشكل مضاعف عند الإقامة في المنفى وعند الأزمات. ومع ذلك فبيت شعر شعبي واحد لا يستطيع تحديد مفهوم ” الوطن ” لذلك سنستعين برؤية شاعر شعبي ليبي آخر عن الوطن؛ وتطرح هذه الرؤية فرضية أن الوطن يرتبط برباط مقدس بمبدأ التضحية بالغالي والنفيس كما ورد في هذه الأبيات الشعرية التي تحثُّ الأبناء على التضحية دفاعاً عن الوطن لـ ليبيا:
– وطنك يا مردوع الهله **** ما نهينوه لبو برطله
واضح حقيقة حث الشاعر لفلذة كبده لأجل التضحية دفاعاً عن الوطن، وكذلك الهدف من وراء النص أيضاً يبدو واضحاً، وهو المطالبة بالتضحية فداءً للوطن، هذا ليس كل شيء، فالوطن في الشعر الشعبي ليس مزيجاً من الحب والتضحية فقط؛ الشعر الشعبي قادر على رسم جغرافيا الوطن بدقة أكثر من أي متخصص في رسم الخرائط ، والشاعر الشعبي والفارس المعروف محمد سوف المحمودي يضع حدود الوطن ” ليبيا ” في بيت واحد فيقول:
– كسر جيش جانا من بعيد مسافر **** طلب برنا من مصر لا لزواره
يؤكد الشاعر في البيت السابق على جغرافية ليبيا من الحدود المصرية وحتى زوارة أقرب مدينة للحدود الليبية – التونسية، وهذه الرؤية لجغرافيا الوطن لا تخص أبناء المنطقة الغربية ولا شعراءها فقط، فقصيدة عبدالقادر حبيب ابن المنطقة الشرقية تؤكد على فهمه لهدف السياسة الاستعمارية الإيطالية وأبعاد تنفيذها لمقولة ” فرق تسد ” على الليبيين، وتقسيم الوطن قطعة قطعة كان ولازال سياسة أجنبية ينفذها الجهلاء و العملاء في ليبيا، و ها هو الشاعر عبدالقادر حبيب في قصيدة شعبية يؤكد مرة أخرى على حدود وجغرافيا الوطن ” ليبيا ” فيقول:
– و انريدوا الجملة في الخبر مشتمله **** و الراى واحد و العدو طليان
و تبقوا صفيحه على عدو في الميحه **** من ” حدادة السلوم لقصر بن قردان ”
و تصفوا شرابه وطننا او خـــــــرابه **** وتخلوا الطريق ترابها لامان
القصيدة الشعبية الليبية تحض على الانتماء إلى وطن واحد لا الانتماء إلى أوطان أخرى، وهذا ما مارسه الشيخ عمر المختار قولاً وفعلاً حين قال:
– فراسين راكبين الخيل **** علي وطنا ما انمايلو
عمر المختار لم يكن يقاتل لمجد شخصي، أو انتصاراً لقبيلته قبيلة المنفه، أو ساعياً لفيدرالية. وهذا واضح في رسالته إلى الليبيين جميعاً من راس إجدير إلى السلوم والمنشورة بجريدة المقطم المصرية. هذه الفسيفساء الشعرية لم تكن صدفة تاريخية ومفهوم الوطن ” ليبيا ” وجغرافيا حدوده خلال مراحل تطور تاريخي واضح المعالم مسلّمة ثابتة، وقد أكدها القائد العام أحمد الشريف السنوسي في كتابه ” بغية المساعد في أحكام المجاهد “، حيث يذكر: ” وبعد فإني أخاطب بهذه الرسالة الموسومة باسم ( بغية المساعد في أحكام المجاهد ) أهل النفوس الأبية المحافظين على الشرعية المرعية أهل وطننا ذوي الغيرة الإسلامية من السلوم إلى حد تونس المعلوم هدانا الله وإياهم إلى اتباع الطريقة المحمدية ” فهل بعد كلام القائد العام أحمد الشريف مطالبة جديدة بالفيدرالية والتقسيم ؟ القصيدة الشعبية- والتراث الشعبي بصفة عامة – ليس مجرد فسيفساء فنية بل هي ملحمة وطنية تكشف عن تاريخ التطور السياسي والاجتماعي في ليبيا وهذا ما يؤهلها في أن تكون واحدة من علاجات أزمة الهوية الليبية الحالية على المدى المنظور والمدى البعيد. ( يتبع )
_____________
نشر بمقع الأيام