ثمة طريقة في التفكير شكلت عقول سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ البداية، ربما لأنها مهد الحضارة الإنسانية، فالكتابة اكتشفت في العراق أولا على شكل الحروف المسمارية، قبل خمسمئة سنة من ظهور الأبجدية الهيروغليفية في مصر، وتصدت هاتان الحضارتان لأكثر الأسئلة إلحاحا التي واجهها الإنسان في تلك الحقبة، وهو سؤال المصير، عندما اكتشف الإنسان أنه كائن فان فأرقه هذا السؤال، وحاول الإجابة عنه عن طريق الأسطورة، وهكذا ظهرت ملحمة جلجامش في بلاد الرافدين، وأسطورة إيزيس وأوزوريس في مصر.
الأسطورة هي قصة إله أو مجموعة من الآلهة ولا وجود للإنسان فيها إلا بشكل هامشي، ومهمتها الإجابة عن الأسئلة الكبرى مثل الخلق والتكوين وتفسير الظواهر الطبيعية والموت والبعث والآخرة، وتتفق كل هذه الأساطير على أن الإنسان خلق من طين، وأنه طرد من الجنة لارتكابه الخطيئة الكبرى، وفي الأسطورة نعثر على المكان ولكننا لا نعثر على الزمن، ربما لأن هذه الأساطير تشكلت في مكان لم يعد صالحا للحياة ولدى أقوام لا يعنيهم الزمن، وقد يفسر هذا سبب ظهور الأهرامات في الصحراء الليبية قبل ظهورها في وادي النيل.
ولا يزال يوجد قرب جرمة في جنوب غرب ليبيا عشرون هرما صغيرا، كما اكتشفت هناك أقدم مومياء في التاريخ، مما يعني أن التغير المناخي الكبير الذي حول الصحراء الكبرى من غابة مطيرة إلى مكان غير صالح للحياة، أجبر سكان الغابة على النزوح إلى وادي النيل بمعتقداتهم وأساطيرهم، ولهذا نجد تشابها كبيرا بين أسطورة إيزيس المصرية وأسطورة الخلق عند الطوارق، بالإضافة إلى محافظة الطوارق على المجتمع الأمومي حتى الآن، فسلطة الزعيم لا تنتقل إلى ابنه، وإنما إلى حفيده من ابنته أو إلى ابن أخته.
الحضارات الأولى صرفت كل وقتها للإعداد لليوم الآخر. الأهرامات في الجيزة ومقابر وادي الملوك في الأقصر والزقورات في العراق، وهي شكل من الأهرامات المدرجة، تؤكد ذلك. استمرت الحضارة المصرية القديمة أربعة آلاف سنة دون انقطاع استعدادا لليوم الآخر، وتركت لنا مقابر على شكل أهرامات وجثثا محنطة، تحيط بها ثروات هائلة من الذهب والأحجار الكريمة، ولم ينسوا حتى الطعام والشراب والأسلحة، وهو ما يعني أن هذه الحضارة لم تفكر في مشاكل زمنها، إلا بما يخدم حياة ما بعد الموت، فقد تمكن قدماء المصريين من إجراء عمليات جراحية دقيقة لمعرفتهم بفسيولوجيا الجسد البشري بسبب مهاراتهم في التحنيط، ولكنهم لم يجدوا حلا للتشوهات التي وجدت على مومياء الملك توت عنخ أمون التي عجلت بوفاته وهو في مقتبل العمر.
البابليون بنوا حدائق بابل المعلقة من أجل الإله مردوخ، بعد أن حل محل الإله إنكي معبود السومريين، فالانقلابات كانت تحدث في السماء قبل أن تنتقل إلى الأرض في هذه المنطقة من العالم. بالضبط مثلما حدث في عصر أخناتون في مصر، عندما فرض الإله أتون رع بدلا من أمون رع، وفكرة التوحيد التي فرضها أخناتون لتوحيد البلاد، استدعت أن يكون الانقلاب أولا في السماء قبل فرضه على الأرض.
في هذه البيئة تشكل العقل المعتقل الذي لم يستطع تحرير نفسه حتى الآن. انقرضت تلك الحضارات وتركت آثارها، دون أن تورث الناس أي شيء من معارفها التي ظلت ألغازا وطلاسم، وفجأة اختفت كل تلك الآلهة بتخصصاتها المتعددة، كما احتجب الإله الأكبر، ولم يبق منها إلا التماثيل، وهنا بدأ الإنسان يظهر شيئا فشيئا على مسرح الأحداث. قبل ذلك كان الإنسان مستسلما بالكامل. يطيع ما يقوله الكهنة ليتقي غضب الآلهة أو غصب الملك باعتباره ابن الإله، ولهذا لا نلاحظ قيام ثورات ضد الحكام.
ثمة حروب بين تلك الأمم ومن ينتصر في الحرب يفرض إلهه على المهزوم، وبالتدريج بدأ الاتصال بين الإله المحتجب وبعض البشر المنتقين بعناية، ولكن هذه الظاهرة لم تحدث إلا في هذه المنطقة من العالم، ومنذ أن تحول إبراهيم إلى خليل الله وموسى إلى كليم الله وعيسى إلى ابن الله وفقا للعقيدة المسيحية، واحتاج الأمر إلى إرسال خمسة وعشرين نبيا إلى هذه المنطقة، بينما لم يُرسل نبي واحد إلى بقية العالم، وهنا يمكننا أن نتساءل لماذا فعل الله ذلك، هل لأنه فضل شعوب هذه المنطقة على العالمين؟ اليهود يقولون إنهم شعب الله المختار.
والقرآن يؤكد على أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، والمسيحيون يؤكدون أنهم الأفضل فالله لم يرسل لهم نبيا من البشر وإنما أرسل ابنه، وبعض الطوائف المسيحية تؤكد أن المسيح هو الله نفسه: كما يمكننا الافتراض أن هذه الشعوب أقل استعدادا للتطور من بقية شعوب العالم، مما يتطلب التدخل الإلهي وإرسال كل هؤلاء الأنبياء. الصينيون يقولون أن كنفشيوس رجل حكيم ولا علاقة له بالسماء، والبوذيون والهندوس وأتباع زرادشت لا يدعون الاتصال بالسماء.
جاء الإسلام ليحطم الأوثان بالرغم من أن العرب لم يكونوا يعبدوا الأوثان، «ليقربونا إلى الله زلفى»، ولكن العقل المعتقل ضرب عرض الحائط بكل شعارات الحرية والعدل والمساواة التي جاءت في القرآن بلسان مبين «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء»، و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، و«كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا»، و«جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ودعا القرآن الناس إلى تحرير عقولهم «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت»، ومع ذلك لم يتحرر العقل المعتقل، لأنه سلم القيادة للفقهاء الذين حلوا محل الكهنة.
قاد الانقلاب آل أبي سفيان الطلقاء وعلى رأسهم معاوية، ثم التحق به الكهنة الجدد الذين كان عليهم إنتاج أكبر عدد من الأحاديث، وإذا لم تعجبهم آية في القرآن يقولون إنها نسخت. حاول المتكلمة والفلاسفة والمتصوفة تحرير هذا العقل، لكن السلطان والفقهاء نكلوا بهم، ومع ذلك في مرحلة قصيرة تمكنت شعوب المنطقة من إنتاج فلاسفة عظام وعلماء تحتفي بهم البشرية حتى الآن، بينما لم تنتج المنطقة بعد خروج الاستعمار فيلسوفا واحدا، وأنتجت عالما واحدا وروائيا واحدا فازا بجائزة نوبل، والباقي يعيشون عالة على بقية شعوب العالم التي تنهزم وتنهض من تحت الرماد، بينما أصحاب العقل المعتقل يعودون إلى الحظيرة حتى ولو ثاروا مئات المرات.
بوابة الوسط | الإثنين 03 يوليو 2023