تبدأ قصة الكشف، وهي أولى قصص المجموعة القصصية المُعنونة ب “الصهيل” للقاص الليبي محمد الزنتاني بداية تقليدية هادئة لتنتهي إلى نهاية سوريالية لا معقولة، ويظل الحدث فيها يتصاعد ببطء ليصل ذروته مع نهاية القصة بانطفاء جذوة الحياة في جسد البطل، تحكي القصة عن رجل يخرج من بيته – كأي رجل آخر – إلى المقهى دون أن يمنحنا القاص أدنى فكرة عن ماضيه، وبعد وصوله بقليل تأخذ الأحداث المتسارعة مجرىً آخراً حين تهاجم الكوابيس والهواجس البطل وبلا مقدمات تقريباً، فيتصور لوهلة أنَ كوب الشاي الموضوع فوق طاولته التي يجلس إليها وحيداً مملوء بالدم الذي يأخذ في التمدد والأنسكاب اللانهائي حتى يغمر كل ما يصادفه بلونه القاني، وفي حين يعتقد البطل أنَ نهاية العالم قد حانت وأن الدم سيُغرق ما تبقى من حياة ويزحف على الأشياء، في حين يظن البطل ذلك يتصرّف زبائن المقهى والمارة الذين قابلهم في الخارج كما لو أنً لا شيء يحدث وأن لا كارثة تُحدِقُ بالعالم، وهذا ما يزيد من معاناة البطل الذي يتألم لوحده بمعزل عن الجميع ليخر مغشياً عليه ويلقى حتفه في نهاية الأمر.
عالم سوريالي فجائعي أجاد القاص صنعه وبنائه في هذه القصة التي تُبين غربة إنسان العصر الحالي ومقدار وِحدته مع أنهُ يعيش مُحاطاً بالبشر، ولئِن عبّرت هذه القصة التي يجب أن تُقرأ في سياقها الزمني، عبّرت عن إنسان القرن الماضي وفي سبعينياته تحديداً عندما كُتِبت، إلا أنها لا زالت تصلح لتشخيص مأزق إنسان اللحظة الراهنة، فشُعور الأغتراب والضياع لا يزال يُهيمن عليه والهوة بينه وبين المجتمع تزداد اتساعاً وعمقاً، عن الإنسان المثقف الذي تطحن ماكينة الحياة أحلامه عن الإنسان الذي يقيس المسافة بين أحلامه وتطلعاته وبين الواقع المُحبط ليسقط في بئر إحباطاته، عن هذا الإنسان المقهور المستلبة حقوقه وحرياته تحدّث القاص في قصته المذكورة وليس عن أي إنسان آخر.
في رجال بلا وجوه ثاني قصص المجموعة، أيضاً يبدأ القص من لحظة واقعية تماماً ليسير قُدُماً باتجاه لحظة سوريالية خيالية بامتياز، فها هو البطل الذي كان قبل قليل إنساناً عادياً كبقية البشر يمتلك عقلاً ووعياً، ينخرط في حشد يتجه نحو ميدان المدينة لسببٍ ما، ها هو يكتشف بعد أن توسّط الحشد ذو الحركة المتماوجة المتدافعة التي يرافقها الزعيق والصراخ والهُتاف الهستيري، يكتشف أن الرجال الذين يسير برفقتهم بلا وجوه وهو الكشف الذي زلزل كيان البطل وجعله يُطلق ساقيه للريح ويغيب في لُجة من الخوف والذُعر ليستفيق بنفسه ملقياً قرب البحر دون أن يجد تفسيراً منطقيا للذي حدثَ قبل قليل والذي لا يعلم تحديدا حتى لحظتهُ تلك هل هو حقيقة أم خيال، سوى أنَ البطل استعاد مع نهاية القصة أنفاسه المتقطعة وعاد إلى هدوئه المعتاد قبل أن يُشرع في قضم رغيفه الذي اشتراه ببداية القصة وبدأت خطواته المرتبكة تعتاد الرصيف تاركاً الحشد ورائه مبتعدا عن الكابوس الذي ما أن دخلهُ حتى غادرهُ مُسرعاً.
أيضاً في هذه القصة إسقاط أو إحالة إلى النمطية التي تطبع المجتمعات المتخلفة، مجتمعات القطيع الذي يتبع بعضهُ البعض دون خروج عما هو مرسوم ومُحدد سلفاً وما محاولة البطل الفرار من مصير انمحاء ملامحه كالآخرين الذين يُساقون كالخراف المطيعة، ما ذلك إلا تأكيد للفردية التي يؤمن بها الكاتب في داخله ولربما ظهرت هُنا بطريقة لا واعية وترجم كاتبها هذه الرغبة في هيئة قالب فني قصصي جميل، ولربما كان للوعي المبكر دوراً في تبني هذه الرؤية التنويرية، وكما أن البطل يبحث عن التميز ويسعى للخروج من ثقافة القطيع التي هي في أصلها مُجرد تهريج وصُراخ هستيري وزعيق لا يعني شيء، القاص يبحث عن هذا التميز والفرادة وهذه في حقيقة الأمر أزمة كل مثقف يمتلك رؤية وموقف، أيضاً يلزم التذكير بأن القصة كُتبت أواسط عقد السبعينيات من القرن الماضي وبالإضافة إلى أنه يمكن قراءتها في سياقها الزمني يمكن إيجاد مُعادلاً لها في زمننا الحالي.
وفي أحداث هاتين القصتين دليل على وعي القاص مبكراً بتقنية الواقعية السحرية أو الغرائبية التي أحياها بعض روائيي أمريكا اللاتينية ولا نقول اكتشفوها أو وضعوها كشيء لم يكن موجوداً من قبل ذلك أن هذه الرؤية في القص وجدت على الدوام في أداب الشعوب المدونة منها والشفوية وما الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة إلا برهان حي وماثل على أن ما يُسمى اليوم بالواقعية السحرية لم تُكتشف حديثاً كما يروج لهُ بعض النُقاد والمُعلقين على النصوص الأدبية لا سيما السردية منها وما فعله ماركيز ونظرائه لا يتعدى الإحياء لهذه السُنة الأدبية وتطويرها وليس اكتشافها واختراعها، ومن خلال تتبع وقائع القصتين تتضح ميول الكاتب وانشغاله الجديّ بوضع منجز سردي يضاهي الأعمال الأدبية الراسخة في هذا المجال ووعيه المُبكر كما أسلفنا ببعض تقنيات كتابة القصة القصيرة.
في هكذا قص يتم توظيف الحدث للفكرة وتتراجع الحبكة لصالح الرؤية حيثُ يتم التركيز على ما وراء القص الذي يُحيل إلى مقاصد وأبعاد مضمرة ومستترة تنتقد أوضاعاً مُعينة قد لا يستطيع القاص تناولها بشكل مباشر أتقاءً لسلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية معينة، وهنا المعنى لا ينحصر في ما هو ظاهر ويظل في طي الكتمان حتى يفض القارئ سرّيته وغموضه بوضع تأويله الخاص ومُطابقة المقروء بالواقع القريب، هنا الخيار مطروح أمام المتلقي، بعد أن يكون القاص قد أدى مهمته في عرض الرسالة المُشفرة، في أن يكتفي بالظاهر والمُفصح عنهُ من المعاني أو الغوص في ما وراء القول وقراءة ما بين السطور لاستجلاء معاني مضمرة قصدها القاص من وراء قصّهِ الرمزي.
وفي المجموعة القصصية الممهورة بتوقيع “الصهيل” للقاص الليبي محمد الزنتاني الذي أهداني أياها إهداءً شخصياً ذات أمسية قصصية احتضنها فضاء دار حسن الفقيه صيف العام 2008 في هذه المجموعة قصصاً أخرى تحتاج كل قصة منها إلى قراءة خاصة، ولربما عُدنا إليها في مناسبة أُخرى لتناولها قصة قصة.
__________
نشر بموقع ليبيا المستقبل