يبدو مؤسفا الا يجد المواطن الليبي، مرحلة في ماضي تاريخه البعيد والقريب، يمكن ان تستقطب مشاعر الحنين والنوستالجيا، ويستطيع ان يطلق عليها الزمن الجميل، كما تعود الناس في بلدان اخرى ان يفعلوا، وهم يعودون بالنظر الى احدى الحلقات الذهبية في تاريخهم، فلا وجود فيما اعرف من هذا التاريح زمنا جميلا، عرفته ليبيا، ولا تاريخا تدخل في عناصره معادن نفيسة مثل الفضة او الذهب، واتحدث عن تاريخ يكون قد حصل بعد وجودها كيانا، له تخوم، وله شخصية خاصة به، وليس عن تاريخها عندما كانت جزءا من الهيولي الكبير الذي صنع الدولة العربية الاسلامية، او كيانات تسبح في سديم الماضي منذ عصور الفراعنة والوندال والفينينقيين والرومان وغيرها.
وهذا الكيان ربما يمكن الاشارة الى محطة من محطات وجوده عندما استنجد الليبيون، بالاسطول التركي لانقاذهم من جرائم واهوال فرسان مالطا، المعروفون باسم فرسان القديس يوحنا، وقد اكتسبوا سمعة انهم اكثر فرق الحروب الصليبية عصبية وعنصرية وتزمتا، واستعانوا على احتلال ليبيا باسبانيا في اكثر عهودها اجراما وتزمتا، واذاقوا الشعب الليبي اهوالا كبرى، فتحرك الاسطول يحاصر مركز القوة لهذه الجماعة في مالطا، ومات في هذا الحصار الشهير قائد الاسطول خير الدين بارباروسا، واستطاع خلفه في قيادة الاسطول، تحقيق الانتقام له، بهزيمة هؤلاء الفرسان في ليبيا، وانهاء احتلالهم لها، وبسط نفوذ بلاده عليها، باجزائها الثلاثة كما نعرفها الان طرابلس وبرقة وفزان، واطلق عليها ولاية طرابلس، كيانا منفصلا عن الكيانات السياسية الاخرى التي تنضوي تحت المظلة الواسعة لدولة الخلافة في اسطنبول.
وطبعا لم يكن في هذا العهد الذي استمر خمسة قرون، ما يمكن اعتباره زمنا جميلا يمكن النظر اليه بحب وحنين، وتخلله حكم انشأه ضابط تركي صاهر الليبيين، اسمه احمد القرهمانلي، واستمر حكم هذه الاسرة الليبية-التركية مائة وثلاثين عاما، يتمتع بنوع من الاستقلالية عن السلطان التركي، الا ان هذا السلطان غضب من هذه الصيغة التي لا تضمن تحصيل الضرائب وايرادها كاملة اليه، فامر بزحف اسطوله على طرابلس، للاطاحة بحكم هذه الاسرة واستئناف الحكم المتخلف الذي لا يرى في ليبيا غير مكان لدفع المكوس والجبايات والخراج، حتى جاء الغزو الايطالي، عام 1911، يضع حدا لهذا الحكم البدائي المتخلف، واستبداله بفصل اخر من فصول العسف والقهر، لانه لم يكن يسعى الى حكم الليبيين، وانما ابادتهم، واستبدالهم بالمستوطنين الايطاليين، وقد استمر ثلاثة عقود، الى ان ازاحته الدول المناوئة له في الحرب.
وبعد فترة وجيزة من الحماية البريطانية، بدأت مرحلة بناء الدولة الليبية المستقلة، تحت حكم كان مرتهنا ارتهانا كاملا، له اسبابه ومبرراته، للدول الغربية التي انشأته ورعت وجوده، وبرضا اهل البلاد، باعتباره تمهيدا لدولة كاملة الاستقلال والتحرر، كانوا يسعون جاهدين الى تحقيقها، الا ان حلقات التآمر اشتدت مع مجيء النفظ، وازدادات مع تصديره وتضاعف عائداته، استحكاما، حتى اطاحت بالحكم الملكي، وجلبت حكما بلغ الاوج في قسوته واستبداده واجرامه، عانى خلاله الشعب الليبي، اربعة عقود من حكم الفرد المتسلط المشكوك في قواه العقلية، فرضته الاجندات المتوحشة لغرف المخابرات السرية السوداء، لاستخدام هذا المعتوه في ابتزاز ثروات ليبيا والعبث بمقدراتها.
فهل يمكن لهذا العهد الاستثنائي في استبداده وقهره وكبته لطموحات الناس وتطلعاتهم، ان يكون بعد الاطاحة به، مركز استقطاب لحنين الناس، والنظر اليه بحب وامل، واعتباره مرحلة ضاعت يرجون عودتها، يبدو ذلك مستحيلا في نظر كل من عرف حجم المعاناة والمكابدات والمآسي، التي عاشها الليبيون في ذلك العهد الانقلابي الذي سيطرت فيه طغمة فاسدة يقودها رئيس معتوه.
ولكن هذا المستحيل، للاسف الشديد، صارم ممكنا في ظل الظروف المؤلمة والفاجعة التي تمر بها البلاد، فكثيرون يرون الان في الحكم الذي ثار عليه شرفاء البلاد، وقدم الشهداء من ابناء ليبيا دمهم وارواحهم عطاءا سمحا سخيا على مذبح الحرية والانعتاق، بنوع من الحنين، لانه كان يضمن لهم الامن والامان، حتى وان اهدر اموالهم وكتم انفاسهم، وسطى على حريتهم، لانه كان على الاقل يمشى فيه الناس امنين الى مكاتبهم ومزارعهم، ويمشى فيه الاطفال امنين الى مدارسهم، وهو ما صار مفقودا الان، فقد توقفت عجلة الحياة، واستنزف الاقتصاد، وسرقت الاموال الموجودة في خزينة الدولة، وفقد الشارع ادنى درجات الامن والسلامة، وتحولت ليبيا الى ارض تستقطب الدواعش، واهل التوحش والاجرام، يأتون اليها من كل صوب وحدب، ويجدون فيها المكان الامن الذي يعيثون فيه فسادا كما يريدون، دون رادع يردعهم، او دولة تمنع وجودهم، او مؤسسات عسكرية وامنية تستطيع مطاردتهم، وعقابهم على ما يرتكبونه من جرائم.
ولكن هل ذلك العهد الانقلابي الاستبدادي، الذي اطاح به الليبيون، حقا يستحق شهادات البراءة التي يريد بعض الناس تقديمها له، او جدير بان ينظر اي مواطن ليبي، الى عودته واستئناف ارهابه واجرامه واستبداده؟؟؟
انني اقول ردا على هذه الاسئلة، ما قاله السياسي الليبي الدكتور محمود جبريل، خلال الاسبوع الماضي، في لقائه مع القنوات الليبية، وهو ان ما تشهده ليبيا اليوم من اجرام، وفساد، وانتهاكات لحقوق الانسان، ليس الا جزءا من الحصاد المر الذي تركه النظام الانقلابي، وارث اربعين عاما من حكمه، وهو شهادة ضده وليس شهادة له، لان اغلب من يمارسون هذا العبث والفجور، ومن تجلى فيهم العبث بمقدرات الوطن، ليسوا الا اجنة مشوهة خرجت من رحم ذلك النظام، وتغذت الغذاء المسموم الذي قدمه لها، ولابد ان تلحق به، الى مزابل التاريخ حيث المآل الذي آل اليه.
* سبق ان نشرت هذا المقال في صحيفة المقال.