حكايات وذكريات – سيرة قلم 44
وأخيرا وبعد عام آخر من الانتظار.. تلقيت رسالة من الناشر يطلب فيها مني تحديد موعد مناسب للسفر إلى روما.. لمدة عشرة أيام لمراجعة الطبعة الأولى من الكتاب.. فرحت بهذا الخبر السار الذي انتظرناه طويلا.. لأنه يعني بالنسبة لنا وصول الكتاب إلى مراحله النهائية.. وقرب نزوله إلى الأسواق.. اتصلت بالأستاذ صادق هاتفيا.. ونقلت له هذا الخبر السار.. فطلب مني أخذ تأشيرة أخرى كي أتمكن بعد مراجعة الكتاب من زيارته بجنيف.. وأكد لي على ضرورة أخذ التأشيرة من ليبيا.. لتعذر منحها من إيطاليا في ذلك الوقت.
لكنني وللأسف لم أكلف نفسي عناء الذهاب إلى طرابلس لطلب التأشيرة السويسرية.. ولقد ندمت على ذلك بحق.. فلربما كان يريد أن يكلفني بعمل آخر.. أو يطلب مني إلغاء العقد مع الناشر وتحويل طباعته إلى جنيف.. كما تعهد بذلك خلال الاجتماع الذي أشرت إليه في الجزء السابق.. والذي عقد مع الناشر بطرابلس.
راجعت مسودة الكتاب.. وقدمتها لمطابع الدار بروما.. وعدت إلى ليبيا في انتظار صدوره في أقرب وقت.. لكن ذلك لم يحدث.. فقد طالت مدة الانتظار.. في الواقع لم أكن أعلم أنه يتوجب علينا الانتظار لسنوات وسنوات بلا طائل يذكر.. فلم يخرج كتابنا الأول للوجود.. ولم يسعد النيهوم برؤيته وتقليبه بين يديه بعد كل ذاك الانتظار.. فقد توفي بعد أكثر من عشر سنوات من الموافقة على نشره.. وبعد ثمان سنوات تقريبا من مراجعته بروما.. توفي يرحمه الله تعالى في: 24/11/1994.. وظل الكتاب بروما حبيس أدراج مطابع دار أفريقيا المشبوهة.
وأخيراً طبع الكتاب
طبع لصالح الجمعية الليبية لأصدقاء مرضى السرطان وبعد وفاة النيهوم.. بعدما أحجمت عن فكرة تقديمه لدار نشر أخرى.. فقد اعتبرته أمانة عندي.. ولم أعط لنفسي الحق في التصرف فيه.. أو طباعته واخذ المقابل المادي الذي سمح لي به بموجب العقد الذي وقعناه بالخصوص.. إلى أن اهتديت مؤخرا إلى فكرة إهدائه إلى إحدى الجمعيات الخيرية.. وهذا ما حصل بالفعل فقد قمت بإهدائه إلى (الجمعية الليبية لأصدقاء مرضى السرطان).. وأهديت أجره إلى روح كاتبنا الكبير.. وكتبت في صفحة الإهداء العبارة التالية: (إلى روح فقيدنا الكبير الأستاذ/ صادق النيهوم.. إنسانا وأديبا ومفكرا كبيرا.. آملا أن ينتفع به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون).
فكرة موجزة عن الكتاب
بتوفيق من الله تعالى خرج الكتاب: (بين حين وآخر ومقالات أخرى).. في طبعته الأولى الجميلة والأنيقة سنة 2014.. بواسطة دار الفورتي للطباعة والنشر والإعلان.. في: 170 صفحة من القطع المتوسط.
واشتمل على واحد وعشرين مقالة.. بالإضافة إلى كلمة شكر وتقدير بقلم الأستاذة/ ابتسام صالح الأوجلي.. رئيسة الجمعية الليبية لأصدقاء مرضى السرطان.. ومقدمة بقلم الأستاذ/ أحمد العبدلي.. ومقدمة أخرى بعنوان: قصة هذا الكتاب بقلم/ سعيد العريبي.
وملحق واحد اشتمل على مقالتين: الأولى بعنوان: الظاهرة النيهومية.. بقلم/ الدكتور علي فهمي خشيم.. والثانية بعنوان: صادق النيهوم إنسانا وأديبا ومفكرا كبيرا.. بقلم/ سعيد العريبي.
صادق النيهوم وحرية الرأي
النيهوم كما عرفته شخصيا يؤمن بحرية الرأي.. وكان دائما يقول برأيه بصدق وصراحة وموضوعية.. وقد قلت في مقالتي: أدباؤنا إلى أين:
الصادق النيهوم أفضل من التقيت من أدبائنا علما وتواضعا وثقافة واسعة.. وأنا أحترمه وأقدره كثيرا وإلى يومنا هذا.. ولكن ذلك لم يحل مطلقا بيني وبين الاختلاف معه.. وليس ثمة أحد منزه عن الخطأ سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
النيهوم يحترم وجهات نظر الآخرين.. ويحرص كثيرا على أن تقول رأيك بحرية وصدق.. بلا مواربة وبلا خوف.. وقد كنت خلال جلساتنا في بنغازي وطرابلس.. أختلف معه كثيرا وأناقشه وأجادله لساعات طوال.. ثم يحرص على أن نلتقي مجددا.. وكأنني لم أختلف معه ولم أعارضه فيما يقول أو يفكر به.
نعم.. اختلفت مع الصادق وسجلت ذاك الاختلاف كما أشرت.. وكان مجرد اختلاف في وجهات النظر ليس إلا.. ولم يفسد ما بيننا من ود.. ولم يأت على ما كنت أكنه له ولا أزال من التقدير والاحترام حيا وميتا… قلت له ذات يوم.. عندما قال لي نلتقي غدا لنكمل الحديث: يا استاذ صادق.. نتحاور ونختلف ولا نتفق.. وتطلب مني أن أعود مرة أخرى.. فقال لي: أنت لست نسخة مني.. ولا يمكن أن تكون كذلك.. وأنا أنظر إليك على هذا الأساس.
هذا هو صادق النيهوم المفكر والإنسان.. الذي يطبق حرية الرأي قولا وعملا.. يطبق هذا المبدأ النبيل على نفسه أولا وقبل أن يطالب به الأخرون.. وأنا أعتقد أنه قد استمده من القرآن الكريم.. من قبل أن يعيشه واقعا في بلاد الغرب.. نعم.. هو يدرك أكثر من غيره أن الله تعالى الذي خلق الإنسان ووهبه العقل.. أعطى له كامل الحرية في أن يؤمن به أو لا يؤمن.. وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾.
تفسيره للشرع الجماعي
سألني ذات يوم – في إحدى جلساتنا بالفندق الكبير بطرابلس – عن موضوع رسالتي التي كان يشرف عليها الدكتور محمد بالحاج والدكتور علي فهمي خشيم.. فقلت له: (منهجية التوازن الإسلامي في القرآن الكريم).
فقال لي: ما رأيك في أن تسجل رسالتك في: (الشرع الجماعي).. ؟
فقلت له متسائلا: وما الشرع الجماعي..؟.
فقال: أن يلتقي المسلم والمسيحي واليهودي في الجامع لمناقشة أمور دنياهم.
فقلت له: أولا: أعتقد أن بلدنا التي تخلو من اليهود والمسيحيين.. ليست في حاجة إلى مثل هذا الشرع.. وثانيا: أعتقد أن ثمة علاقة ما بين الشرع الجماعي الذي تدعو إليه ووحدة الأديان التي تتبناها الدوائر الماسونية.
فنظر إلي باستغراب شديد.. ولم يغضب ولم يتبرم من كلامي.
فقط أكتفينا بتغيير دفة الحديث إلى موضوع آخر.. وأكثر من ذلك تقبلا وتواضعا وسماحة خلق.. أن طلب مني في نهاية جلستنا تلك.. أن أعود لنلتقي في اليوم الثاني وفي نفس الميعاد.. وكأننا لم نختلف مطلقا.. رحم الله الأستاذ صادق أدبيا وإنسانا ومفكرا كبيرا.