من قال بأن العمل الثقافي مرتهن بدعم السلطة، ومتوقف على تشجيع مؤسساتها، ولا يتم إلا بإيعاز منها، ولا يستمر إلا بإشرافها؟
ذلك سؤال يمكن أن نُجيب عليه بأكثر من إجابة، فمنذ سوق عكاظ الذي بدأ واستمر دون وجود دولة، ودون إشراف مؤسسة بالمفهوم الحديث للدولة والسلطة، مروراً بكل المجالس الأدبية والصالونات الثقافية، إلى يومنا هذا.. فإن أنجح المناشط الثقافية على الإطلاق هي تلك التي اتسمت بالعفوية والتلقائية، والتي لم يكن لها حضن يضمها، أو ركيزة تستند عليها، أو رافد يمدها سوى أؤلاءك المثقفين والأدباء الذين لا يشترطون شيئاً سوى مكان يجمعهم، حتى لو كان هذا المكان هو مجرد عريشة كعريشة النابغة الذبياني!.
ذلك لأن الكلمة يمكنها أن تولد في أي بيئة، وتحت أي سقف، أو حتى بدون سقف، وفي ظل أي ظروف، وبدون أي اشتراطات، بل الكلمة الوليدة في بيئة اصطناعية، وفي ظروف يُراد لها أن تكون مثالية، ووفق اشتراطات محددة وصارمة هي كلمة مصطنعة مفتعلة هجينة هشة رقيقة كفقاعة تحمل في جيناتها سرعة انفقاعها كما تحمل سرعة انتفاخها.
تلك القناعة ترسخت لدي وأنا أراقب تلك الأمسية الأدبية الثقافية التي بدأها مجموعة من المثقفين في مدينة سبها منذ ما يربو عن العقد من الزمن، ولازالت إلى يومنا هذا كأطول مشروع ثقافي عمراً، وأبعدها عن صراعات السلطة، وضوضاء الإعلام.
بدأت بثلاثة، ولسان حالهم يقول: نحن الثلاثة أكثر من كافٍ، ثم توافد عليها المثقفون والأدباء والشعراء من كل حدب وصوب، ورغم أنني لم أكن من المؤسسين إلا أنني تشرفتُ بحضور ما يزيد عن أربعين أمسية.
هذه الأمسية تُقام كل يوم إربعاء في مكتبة اليونيسكو في مدينة سبها، ومكتبة اليونيسكو هي مكتبة أنشأتها منظمة اليونيسكو في خمسينيات القرن الماضي، وقد كان من روادها العديد من المثقفين والأدباء والكتاب لعل أشهرهم الروائي إبراهيم الكوني والعقيد معمر القذافي، ولا تزال المكتبة قائمة إلى هذا اليوم.
الأستاذ الكاتب والمخرج المسرحي (حمادي المدربي) كان دائماً أول من يحضر، يجلس على كرسيه في فناء المكتبة الصغير، يستقبل الشباب بابتسامته النقية، وبترحيبه المعهود، ثم يُعلن عن بدء الأمسية فينتقل الجميع إلى تلك الطاولة المستديرة ويبدأ العزف على أوتار الحرف.
القاص (إبراهيم بشير زايد) كان قد تكفل بتوثيق كل الأمسيات، وهي مهمة صعبة رغم ما تبدو عليه من بساطة، وكنا دائماً نرجع إليه للبحث عن نص أو صورة أو تاريخ، ولولا هذا الأرشيف الضخم الذي بحوزته لكانت الكتابة عن هذا المشوار الطويل نوعاً من الادعاء الذي لا برهان عليه.
لم يكن نشاط منتدى الأربعاء يقتصر على الأمسيات فقط، بل أقام العديد من الأصبوحات الشعرية، والاحتفاليات والمناشط الأدبية والفنية الأخرى، كما تشرفتْ باستقبال العديد من الضيوف، وقام أعضاء المنتدى برحلات للكثير من المناشط والمهرجانات في مدن أخرى، كما شهدت المكتبة والمنتدى صدور العديد من المجموعات الشعرية والقصصية لأعضاء المنتدى.
إن أي إنجاز يُمكن حساب تأثيره ونتائجه الإيجابية، إلا العمل الثقافي فإن نتائجه غير المنظورة أعظم مما نراه، وأكبر مما يمكن قياسه، وأكثر مما يُمكن حسابه، خاصة إذا كان هذا العمل ممتداً على مدى سنوات طويلة، ولا يؤثر فيه بعده عن الأضواء، ولا يُنقص من قيمته إهمال وسائل الإعلام له، ولا يحط من قدره تعامي مؤسسات الدولة عنه.
كنت أتمنى أن يتم استنساخ هذه الفكرة في كل حي، فهي فكرة سهلة وبسيطة، لأنها لا تقوم على الدعم من أي جهة، ولا تتوقف على الإذن من أي سلطة.
فمثل هذه المناشط تجمع الكتاب والأدباء، وتحتضن وتشجع المواهب، وتفرز أفكاراً ومشاريع قد يكون لها أبرز الأثر في تغيير الخارطة الثقافية، وتحسين مشهدها، والرقي بنتاجها ونتائجها، ولا أنسى هنا أن فكرة مهرجان أيام سبها الثقافية الذي حضره أدباء ومثقفون وفنانون من جميع أنحاء ليبيا قد انبثقت من منتدى الأربعاء، وأديرت بالكامل من قبل أعضائه.
وختاماً.. فإن العمل الثقافي لا يحتاج إلى أدوات ومعدات، بل إن الإنسان – مجرد الإنسان – هو أداته ومادته وهو أيضاً نتاجه، وإن الأمم التي أهملت الجانب الثقافي منيت بالفشل ولم تحض بالنجاح في أي جانب آخر، وإن ما يمكن أن يقدمه قلة من المثقفين مجتمعين يفوق بأضعاف ما يمكن أن يقدمه الكثرة منهم متفرقين!.