خديجة زعبية
في القراءة الأولى لم أستغرب قدرة كاتب مثل عبدالله الغزال في أن يكثف جماليات الكتابة بهذا الشكل. هذا ما عودنا عليه الكاتب في أعماله السابقة، لايرضى لقارئه إلا بالأشياء الجميلة. القوقعة بجمالياتها و صفاتها الخاصة نقلتنا عبر بيئات متنوعة رصدت أعماق النفس البشرية و مسحت الغبار عن زوايا منسية بدواخلنا. اللغة فيها سهلة وأسلوب الكاتب واضح جدا و مسترسل للأحداث، يبدأ المشهد بميكال في قريته النائية لينتهي به بعد رحلات متفرقة بين شرق البلاد وغربها و الأحداث و المشاهد في كل حدث تتشابك مع بعضها. “القوقعة” تحمل رمزية وطن تقوقع أهله داخله يحيط به سور ممتد فرض عليه من الخارج و تفاقمت داخله الأزمات و مظاهر الفساد فكان الضحية المواطن البسيط و ظهر الثراء الواضح على المستفيدين من فقر الأغلبية و حاجاتهم، ماكان في نظر المحتاج ضرورة كان عند غيره أحد مكملات حياة الرفاهية، وعندها بدأ المواطن البسيط في البحث عن سبل تمنحه أملا في شفاء سريع مضمون أو توفير أبسط الاحتياجات لأسرته. “القوقعة” هي كائن بداخل كل شخص يتسحب من خلال تفكيره و يزرع به الأفكار ويدفعه للدفاع عنها أيّا كان شكلها ومحتواها.
“القوقعة” هي القدر الذي يسير به الإنسان متجها إلى النهايات المحتومة. “القوقعة” هي المدينة الحاضنة لشرائح مختلف و ظروف حياة متباينة سردها الغزال في نصه وتمثلت في بؤس المهاجرين للشمال صورها في مشاهد حديقة ميدان النصر و نقيضها في القصور المتاخمة و المنسية الذكر على حدود المدينة و ما حوته من أسرار الأغنياء و نزواتهم. فالقوقعة هنا تحمل أكثر من معنى و تشير إلى أكثر من رمز. البيئة المنوعة في الرواية لا أستغربها من الكاتب، فالتنقل بالقارئ بكل يسر و سهولة زاد من متعة العمل و البيئة هنا تنوعت بين صحراء قاسية إلى الشاطئ بعذوبة أنسامه و برودة أجوائه.
اشتغل الكاتب على الحواس، يرى القارئ من خلال الوصف امتداد المزارع و انعكاسات شعار الهلال الأحمر على زجاج السيارات و يتابع بكل تركيز حركة القواقع البطيئة و المسارات التي ترسمها ويتابع تنفس أم ناسكة في سيارة الإسعاف و يتمعن جيدا في الوشم الغائر على ذقنها. تعبق سطور القوقعة بمختلف الروائح، فتمتزج روائح شجر البرتقال مع عبق الصوف و رائحة الريحان تحت المطر دافعة بتفكير القارئ للحياة البسيطة لسكان البلاد خلال فترة بداية التسعينات. يتسم الواقع في أعمال الكاتب بالهدوء و الحركة البطيئة من دقات ساعة ميدان النصر إلى خروج الفراشة من شرنقتها على صخرة الوادي. أما شخصيات القوقعة فهي مؤثرة جدا و كانت في مكانها المناسب و أبرزها ميكال أدى دوراً مهماً في العمل و تناسق وجوده مع مكونات بيئاته المختلفة.. ناسكة هو رمز للمرأة التي تسعى للتغيير في بيئة ترفض محاولات الإصلاح الذاتية.
يأخذنا الكاتب في سرده بانسياب رائع، كنت كلما أنهيتها مرة أعيد قراءتها بمتعة أكثر، مشهد النهاية يبعث بأمل رغم قساوة الحدث الأخير، خروج ميكال الجديد يرسل إشارات بنور قادم بعد عاصفة قاتمة.