من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة
النقد

التناص.. رؤية نظرية

أ.د.علي المرهج – العراق

من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة
من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة

“التناص” مصطلح يستخدمه البعض بمعنى إيجابي حينما يُحاولون الكشف عن علاقات بين نصوص أدبية أو ثقافية وفق مبدأ الاعتراف بوجود ترابط بين القديم والجديد من جهة التشابه في المحتوى ومضمون الرؤية، الأمر الذي يعني أن أصالة العمل الأدبي أو الثقافي إنما تكمن في هضم اللاحق لأفكار السابقين له في مجال اشتغاله وفق قول (فاليري) “إنما الذئب مجموعة خراف مهضومة”، والأصالة عند الجديد إنما تكمن في إعادة انتاج القديم من الأفكار والرؤى بما يُناسب التحولات الثقافية في كل عصر، لأن كل عمل ثقافي إنما يتم انتاجها من ترميم أو تقطيع أوصال نصوص قديمة (فلسفية، أو فنية، أو ثقافية، بل وحتى علمية) للكشف عن مُعطيات جديدة كامنة فيها لم يكتشفها من قبل سوى الذين اشتغلوا عليها قراءة نقداً وفحصاً.

“التناص” بحسب فهم (رولان بارت) في مقولته “موت المؤلف” هو إعادة نسج لخيوط وألوان كانت موجودة من قبل، ولكل قارئ أو متلق للنص رؤيته ومُتبنايته وخلفيته الثقافية التي تمنح النص معناً آخر.
النص ليس حقيقة مُطلقة، لأنه نسيج سابق من اقتباسات من صنوف معرفية شتى، وشرح النص إنما هي مهمة المتلقي الذي يمتلك مُعجمية مفاهيمية أخرى ـ لربما ـ وعلى الأغلب، هي ليست مُعجمية مؤلف النص ذاتها، لذا يُعلن (بارت) (موت المؤلف) أو (موت الكاتب)..
تابع باختين رؤية علماء اجتماع المعرفة بتأكيده على أن فهم النص تفرضه سياقات مُجتمعية مُحددة، لأن “اللغة “تدفق لا يتوقف عن الصيرورة”، وبما أن لكل لغة بُعدها الاجتماعي، فلا يُمكن أن يُفهم أي نص إبداعي بلغة موضوعية مُحايدة، الأمر الذي يجعل فهم نص فيلسوف أو شاعر ما، أو فنان ما، مرهون بسياقات المُتلقي (القارئ) الذي سيكون نصه ـ حتماً ـ أنه أقيم على وفق بناء نص سبق، ولكنه لا يتطابق معه بحكم سياقات ومورثات (الشارح) أو (القارئ) الاجتماعية والثقتافية، فنص أرسطو “ما بعد الطبيعة” معروف، ولكن شرح ابن رشد “تفسير ما بعد الطبيعة” هو تناص على النص، وإن حاول ابن رشد أن يُظهر مصداقيته في “تنقية أرسطو مما علق به من شوائب الشُرَاح” كما يقول، ولكن كل قارئ عارف بأرسطو، وله دراية بفلسفة ابن رشد سيجد أن نص ابن رشد “تفسير ما بعد الطبيعة” لأرسطو، إنما هو تناص على نص أرسطو ولا تنقية فيه لشوائب الشُرَاح، إنما هو محاولة رُشدية بامتياز ارسطو، وهنا لا يستطيع مُنصف أن يقول أن هذا ليس تفسيراً لفلسفة أرسطو في الميتافيزيقا، ولكنه في الآن ذاته هو “تناص” على نص أرسطو تحكم به ابن رشد بحكم موروثه الثقافي والديني، الأمر الذي جعل تفسير ابن رشد في كثير من المواضع يُظهر نص أرسطو وكأنه مُنتج في سياقات اجتماعية وفكرية إسلامية. إن مثل هكذا نص بعبارة (جيرار جينيت) يُمكن لنا أن نُسميه “النص الموازي”، لأن صاحبه لم يبق في مساحة الشرح أو ما أسماه محمد عابد الجابري بالقراءة الاستنساخية” إنما هو (أي ابن رشد) قد قدم لنا شرحاً “تفاعلياً” تماهى فيه ابن رشد بوصفه فقيهاً وقاضياً مُسلماً مع نص أرسطو الفيلسوف اليوناني، إذ جعل ابن رشد من نص ارسطو نصاً توجيهياً، يحمل في طياته نزعة اللاتعارض مع (الدين) الإسلام، وهو في الوقت ذاته نص مُحكم (لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه) لأنه جاء على لسان رجل “كمل عنده الحق” كما يُصف ابن رشد أستاذه ومعلمه أرسطو.

كل رؤية إبداعية إنما تحمل في مضانها أو “المسكوت عنه” استجابات لفهم آخر وتجدد في الفهم يخرج ـ في كثير من الأحيان ـ عن مقاصد كاتبه أو مؤلفه. على قاعدة “النص حمَال أوجه” بعبارة الإمام علي (ع)، فكل قارئ (شاطر) يستطيع توجيه النص بحسب أهوائه ونزوعه العقائدي والأيديولجي، بل وحتى الثقافي (المعرفي).
تحدثنا عن “التناص” بشكله الإيجابي، وهو نتاج علائقي تُحتمه طبيعة “التثاقف” بين الأفراد والمُجتمعات، بل وحتى الحضارات، ولكن هناك وجهاً سلبياً للتناص يتعكز عليه المُنتحلون من الذين يدعَون علماً أو ثقافة، ولكنهم في حقيتهم سُرَاقاً لجهود غيرهم، وما أكثرهم اليوم في عوالم البحث والكتابة على صفحات وسائل التواصل الجتماعي.
البعض يذكر أنها توارد خوطر، وهذا امر نادر إن لم يكن ضرباً من المُستحيل، فأن نتشابه في مضمون الفكرة أو العلاقات المُتبادلة بين نصي وص مؤلف آخر كما تُصرَح بذلك طجوليا كريستيف” فذلك أمر وارد الحصول، ولكن أن تصل النصوص حد الاتباع “حذو النعل بالنعل” كما يُقال، فتلك السرقة بعينها، وهذا من شرائر الفساد وأفضحه ألا وهو (الفساد الثقافي) الذي من مظاهره سطو شاعر على قصيدة شاعر آخر، يأخذها بمضمونها ويُنشأ عليها نصاً لا جديد فيه خارج النص السابق، فتلك هي مصيبة كُبرى، وهذا الأمر حاصل في بحوثنا العلمية والأكاديمية، وفي الفن: في (السيناريو، والتمثيل، والاضاءة، والتصوير، والتشكيل بشتى صنوفه)!!.
لا يعني “التناص” التطابق شكلاً ومضموناً، إنما يوجد “التناص” ـ أحياناً ـ في المُغايرة، وهي وإن لم تكن حالها حال التطابق، إلَا أنها سطو غير مُسلح على نتاج آخر، إن لم يُشر مُنتج النص على أن نصه هذه من وحي رؤية تغاير فيها مع مُنتج أو مؤلف آخر.
أرى أن فعل “التناص” عند المُنكر له من جهة المطابقة التامة، أو من جهة المُغايرة التامة عند اللاحق شبيهة بعلاقة السيد بالعبد، فمُنتج النص هو السيد ووالعبد هو من لا يستطيع سوى السير على خطى السيد أو مُغايرته لمجرد أنه الأغنى فكراً أو مالاً!.
الأحرار لا يخشون اعلان تأثرهم واعجابهم بكتابة نص على غرار نص آخر، أو في مُغايرتهم للنص الابداعي حينما يكون محفزاً لانتاج نصاً آخر.
من مظاهر “العبودية الثقافية” “التقليد” والكتابة على غرار نص ابداعي مُبهر، فلا يُنتج “المقلدون” نصاً يُدرج ضمن لائحة النصوص الابداعية، لأنه نص مطابقة، ومن مظاهر “العبودية الثقافية” انتاج نص نص مُغير لنص آخر لمجرد المُغايرة، وتلك عُقدة نفسية أشدَ وأمرَ من عُقدة المُطابقة.

أعود لأقول أن انتاج النص الابداعي تحكمه شروط الثقة بالذات للقارئ الكاتب خارج نمطية “المطابقة المرضية” أو “المغايرة المرضية”، لأن النص نتاج الابداعي نتاج حالة شعورية شبيهة بالمخاض الذي لا تنشغل به المرأة (الحامل) لحظة المخاض بحوامل أخريات، إنما هو شعورها هي، وهي فقط بألم المخاض وألم الولادة، ومتعة انتاج الوليد الجديد الذي هو عندها من مصادر الابتهاج الحقيقي لأنه مخاضها هي وليس مخاض غيرها، وإن كانت تجربة الحمل والولادة قد مرَت بها كل النساء الحوامل.
الوليد الجديد هو ابن المجتمع لا كبير مُغايرة في شكله وحركته وبكائه وضحكه، ولكنه ابنها لأنها هي من شعرت بلحظات ولادته.
هكذا هو النص الجديد فيه “تناص” من جهة أنه يوجد في سياقات ثقافية واجتماعية مُعينة، ولكنه لا تطابق (كما الوليد الجديد) فيه لنص آخر، ولا (مُغايرة فيه) لمألوف الشكل ومُضمر المضمون للمألوف السائد كي يجد له مُستقراً ومقبولية في الوجود الحياتي إن كان وليداً، وفي الوجود الثقافي إن كانن نصاً ثقافياً ابداعياً.
الوليد الجديد لم يأت من دون تفاعل وحرك حيوي جسدي بين “االأنا” و “الآخر”، والنص لا يأتي من دون حراك ثقافي وتفعل فكري بين “الأنا” و “الآخر”.

سأختم بالقول للسُرَاق الذين يسطون على نتاج غيرهم ولا يستحون، وحينما يحتج عليهم البعض يقولون بتبجح إنه “تناص”: أقول لهم تناصّوا ما شاء لكم وتبجحوا فلن تكونوا بأفضل الأحوال سوى هامش على متن، ولن يذكركم التاريخ إلَا بأرذل الأوصاف، وإن كتبتم عشرات الكتب وألفتم مئات المؤلفات ستبقون صغاراً..
لا يُزيد الكاتب فخراً أن له عشرات الكتب التي كتبها وهو يعتاش على موائد كبار الفلاسفة والكُتاب والمؤلفين والفنانين.

______________________________________________
ملاحظة: فيما يتعلق بمفهوم التناص فهماً مني مُستوحى من قراءتي لكتاب التناص، تأليف جراهام ألين، ترجمة محمود الجندي، منشورات المركز القومي للترجمة بمصر، ط1، 2016. ومقالات أخرى. أما التوظيف والتفصيل والتوضيح فهو من عندياتي.

مقالات ذات علاقة

رواية “عايدون”.. غربة وطن ونُخبة مُهَجَّرة

رأفت بالخير

سردية جدارية البردي في رواية “الرسام الإنجليزي”

إنتصار بوراوي

رواية نبش في ذاكرة الماضي- إعلاء القيم من أجل الحاضر

عائشة إبراهيم

اترك تعليق