المقالة

شهيد سوء الفهم

في أتون الوميض.. لحظة اشتعال العناصر… المكان عرضٌ طارئ.. والزمان وهمٌ… أو محض ارتياب… الكلمة ظلّ الإرادة.. صوت الفعل المنجز في الآن… “كن”.. فيكون.

هنا لا احتمالية شكٍّ تبقى؛ ليتسلّل عبرها صرصار” كافكا”، ويسكن أركان الروح المظلمة..

في قُدُس الروح المضاءة بالحب الإلهيّ ارتواءٌ مطلقٌ… أو انتفاءٌ مطلق..

هذه هي فلسفة المؤمن.. وهذا إيمان العاشق.

بجنوح إلى المبالغة سأقول أن الصوفي هو الوحيد الذي أدرك أن لغة الله هي اللغة، وما عداها نُسَخ مزوّرة، واقتباسات مشوّهة..

إن الاشتغالات الذهنية، وحتى الروحية المعاصِرة التي تتّخذ من اللغة- التي هي فلذة من كينونة الإنسان- أداة مباشرة وحاسمة لإماطة اللثام عن الوجع المتراكم حول الجراح النازفة بالأسئلة المفتوحة الظامئة؛ لتبدو حتى في تجلّياتها الأكثر توهّجاً بعيدة كل البعد عن بهاءٍ أقلّ ما حققته نصوص المتصوفة من إنجاز في اتّجاه إثبات نسب (اللغة- الإنسان)إلى الأصل الأعلى(السماء-الله).

قد يثير قول كهذا ابتسامة ساخرة على بعض الوجوه الكالحة.. لكنها الحقيقة التي دفع الصوفيون ثمنها غالياّ.. دماء وشهداء عبر تاريخ البشرية.. رهط كبير من هؤلاء كانوا ضحايا لسوء الفهم المتفاقم الذي أوجدته محاولتهم استعادة القدرة على التكلم باللغة الحقّة (لغة السماء).. ومدّ الجسور مجدّداً بين أرواح البشر التائهة، وبين القبس الأعظم الذي صدرت عنه تلك الأرواح..

للصوفية كذلك خصوصيتها في تفسير النص وانتاج الخطاب تميزها عن غيرها؛ في الفقه وعلم الكلام والفلسفة وسواها، وقد أغنى الفكر الصوفي الثقافة الإسلامية والإنسانية بألوان بديعة من الفهم والتأويل وابتكار المعاني والمفاهيم المتجددة كان بعضها موجوداً من قبل، وبعضها الآخر من وضع أعلام التصوف وشيوخه..وهم على تفرغهم للتأمل والتدبر والزهد والانقطاع للعبادة ، كان منهم مجاهدون من أجل الحق مناهضون للظلم والبغي محاربون للغي والانحراف..

ربما كانت الصوفية -عبر التاريخ – فكرا وسلوكا وموقفا هي الرد الشامل على محاولة تفريغ الكائن البشري من إرثه السماوي وتحويله إلى سلعة قابلة للتثمين والتصنيف والتقييم قياسا لمعايير السوق والمادة ..مصداقا لذلك تعالت صرخة الحلاج عبر العصور :- “معبودكم تحت قدمي” ليتهمه القوم بالكفر والزندقة ومن ثم ليقتلوه ويصلبوه ويحرقوه وينثروا رماده على أبواب بغداد ،  قبل أن يتضح  أنه كان يقصد المال، الذي يحبه الناس لدرجة العبادة، بحسب ما ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه “مشكاة الأنوار”.

ولد شهيد سوء الفهم وطغيان السلطة ، الحلاج   الحسن بن المنصور بن محمي البيضاوي  في عام 857 ميلادية في قرية تدعى الطور على أطراف العراق ، ويقال أنه من أصول يمنية هاجرت بحثاً عن الرزق واشتغلت في صناعة الحلج ومنها جاء لقبه وشهرته ..نشأ على مذهب الإمام أحمد بن حنبل قرأ القرآن في طفولته وما إن بلغ الصبا حتى صار من حفظته..

عن واقعة قتله يذكر كتاب الكامل في التاريخ لإبن الأثير :-

أنه قد بلغ الوزير حامد بن العباس  أن نصرا الحاجب قد مال إليه وغيره ، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلم إليه الحلاج وأصحابه ،فدفع عنه نصر الحاجب فألح الوزير ، فأمر المقتدر بتسليمه إليه فأخذه ، وأخذ معه إنسانا يعرف بالشمري وغيره قيل : إنهم يعتقدون أنه إله ، فقررهم فاعترفوا أنهم قد صح عندهم ، أنه إله ، وانه يحيي الموتى، وقابلوا الحلاج على ذلك ، فأنكره وقال : أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة ، وإنما أنا رجل أعبد الله عز وجل ، فأحضر حامد القاضي أبا عمرو، والقاضي أبا جعفر بن البهلول ، وجماعة من وجوه الفقهاء، والشهود، فاستفتاهم فقالوا: لا يفي في أمره بشيء إلا أن يصح عندنا ما يوجب قتله ولا يجوز قبول قول من يدعي عليه . ما ادعاه إلا ببينة أو قرار ..

وكان حامد يخرج الحلاج إلى مجلسه ويستنطقه ، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة . وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجد في أمره ، وجرى له معه قصص يطول شرحها ، وفي آخرها ، أن الوزير رأى له كتابا روى فيه فتوى نقلها عن الإمام الحسن البصري ، قال القاضي أبو عمرو للحلاج : من أين لك هذا ؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصري ، قال له القاضي : كذبت يا حلال الدم ، قد سمعناه بمكة ، وليس فيه هذا . فلما قال: يا حلال الدم ، وسمعها الوزير قال له : اكتب بهذا فدافعه أبو عمرو ، فالزمه حامد ، فكتب بإباحة دمه ، وكتب بعده من حضر المجلس ولما سمع الحلاج ذلك قال : ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ، ولي فيها كتب موجودة فالله الله في دمي وتفرق الناس . وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله ، وأرسل الفتاوى إليه فأذن في قتله ، فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوه ، ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رحله ثم قتل وأحرق بالنار . فلما صار رمادا ألقي في دجلة ونصب الرأس ببغداد ..

رحم الله الحلاج وكل شهداء الأمة الذين سقطوا ضحايا لطغيان الجهل وسوء الفهم المتعمد ، وسالت دماءهم  قرابين على مذبح الحرية والضياء.

_____________________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

كيف تؤسس لمكتبة منزليّة

مصطفى بديوي

ما الذي يحفزني على الكتابة؟

عبدالقادر الفيتوري

بين المدنية والتدين 1/3

علي الخليفي

اترك تعليق