إن المثقف مهما كان أسلوبه يتحدث دائما إلى جمهور لا وجود له (كورين روبن)
1-
المثقف مشغله الفكر واللغة، والمثقف العضوي يتصف بفاعليته كمعلم، وكل له ثوابت راسخة تسمه بل تسم في التقويم العام جيله، خاصة جيل ما بعد الحرب الكبرى الثانية حين بات العالم قرية بفضل التقنية التي أنتجتها الحرب. وهذا المثقف معياري النقد فهو يبني هدمه على أسس بناء عنده خارطته، وسبل تنفيذ الخارطة جديد حيث كل جديد هدام لهذا لا جمهور له، مثلا في بريطانيا ما بعد الحرب كان شعار مثقفيها العضويين النقاد: انظر خلفك بغضب، ويبدو لي أن أمثالهم من الليبيين شعارهم: انظر إلى الأمام،وفي هذا المخالفة ظاهرة.
ومن ذا تكون مسألة الماهوية ليست مُلحة وإن كانت على الطاولة،إنها من المسكوت عنه هنا والآن، فالهوية مرتكز من مرتكزات مصطفي بعيو العائد من المهجر، حيث كان آخراً في محيطه كما على المصراتي وعبد الله ويوسف القويري. ولعل ذا مرتكز شغفه بالتاريخ فأضحي المؤرخ المعلم المؤسس، هذا ثالوث هذا المثقف العضوي من سيكون التربوي في كل مجال خاض فيه، وانغمس في بحره المتلاطم الأمواج.
الحقيقة التي تبان في ما تقدم أن الهوية تنتمي وتوجد في المستقبل (انظر إلى الأمام)، حيث أن المرحلة كانت مرحلة تأسيس فيها المعلم/ القائد تربوي ينشيء ويكون ويبني على أسس، لذا لزم مصطفي بعيو أن يكون المؤرخ لا كباحث فيما مضى ولا من أجل سبر غور (معنى الكيان)، ولكن أن المبنى يقوم على أساس ما سيكون، وكأنه المهندس الذي يقوم بمسح الأرض وفي ذهنه -بل وله خطاطة- ما سيكون المبنى الذي يخرطه.
إذاً مسألة البحث التاريخية هذه إجرائية قوامها الدولة المنشودة، ومصطفي بعيو من المؤسسين المعنيين بالميلاد والإنشاء من يُقلقهم الغد، أما أمسهم فقد تجاوزوه بالمستقبل كما انشغلوا عن مستقبله: الحاضر محط أقدامهم لما يقدمون عليه. مصطفي بعيو مثقف مستقبلي حينها، ورُؤيوي يهندس المبنى ويمنحه المعنى عليه أصبح رجل دولة، فهو يبغي التنفيذ للأهداف المنشودة بعد مرحلة تجربة السجن القصيرة.
في حين زملاؤه في المغترب ينحون إلى المعارضة: على مصطفي المصراتي بحزب المؤتمر والصحافة ينشد البناء بالنقد فالمعارضة، أما القويريان عبد الله ويوسف فينُشئان صرح الخيال فن الأدب، ما هو الحلم الضرورة للإنشاء. ثمة مشترك ظاهر بين هذا الرباعي المنشأ، والهدف الإنشاء وإن تباينت الطريقة، هم من المهجر استقوا الوطن/ العودة، كما الطريق النظر إلى الأمام، ما السُبل إليه أظهرت التضاريس المختلفة، لكنهم أبناء للمشترك: أبناء للتحرير، أبناء لحرية (نكون أو لا نكون).
2-
اللحظة التاريخية الراهنة لمصطفي بعيو كما عبقرية المكان جدلهما عميق، اللحظة التاريخية هي خلاصة حرب تحرير وطنية ليبية بامتياز أيقونتها عمر المختار ما هو أيقونة مرحلة وعالم، والحرب الكبرى الثانية ما لا مثيل لها في تاريخ البشر. أما المكان ليبيا أرض حرب ضروس وطنية ثم دولية، فمصر السلام وإدارة الحرب في الشرق الأوسط، جملة التكوين الأول لمصطفي بعيو من مجمل ما زخر به هذان الزمان والمكان. ومن ذلكم فإن المسألة الليبية جامعة مانعة في خضمها دروس في المعنى والمبنى فأضحى مصطفي بعيو المعلم، من هو تلميذ نابه خلاق لتلكم الجامعة، هذا المعلم الهدف الرئيس والملخص لكينونته التعليم ما يكون إجرائيا أما الكتابة والتفكر فكانا عنده الرافد.
ما كتب وما طرح من أفكار بمجملها تصب في مختبره كرجل دولة معني بالتنفيذ. وعلَ طرحه قبيل الاستقلال حول مسمى وطنه يبين ذلك، فهو ممن يرون أن اسم ليبيا جاء به الاستعمار فالبلاد كما تونس والجزائر هي إيالة طرابلس الغرب، وأنها بلاد قبائل الليبو والمشواش.
أرى أن هذه الأطروحة طُرحت في مواجهة مع الاستعمار كتصفية حساب، وأنه استبعدها في مرحلة الدخول في سياق الدولة الناشئة بالقبول بواقع الحال اسم ليبيا، لكن مسألة تصفية الحساب مع الاستعمار الغربي عموما والإيطالي خصوصا ستحكم المرحلة.
أصبح عنده الضلع الأساس في مثلث المشكل الذي يواجه الدولة الناشئة والمنطقة مواجهة الاستعمار، والضلع الثاني تصفية مخلفات هذا الاستعمار، ما جعل (التربوي مصطفي بعيو) الدولة تضع أس التعليم على قاعدة هذه المواجهة.
كانت النتيجة الاستعانة بــ (مناهج التعليم المصري) ويوضح الدكتور زاهي المغيربي في مبحث له بالخصوص، أن تلك المناهج جاءت عقب التغيير الذي أحدثه نظام يوليو المصري فكأن النظام الملكي الليبي بذلك لقم أبناءه مناهج مضادة لمنهجه. حينها ساهم مصطفي بعيو في التعليم فرئاسة الجامعة الليبية التي افتتحت عام 1955ما استعانت هي أيضا بالأساتذة المصريين، ساعة أن مصر تقود التغيير في المنطقة التي اجتاحها التيار القومي.
كان ضلع المثلث الثالث هو ذا التغيير ما يجتاح المنطقة حينها بقيادة ناصر مصر، لكن تم تعيير ذلكم كمواجهة للاستعمار ومخلفاته وليس كما هو في ذاته. ويجيء في إطار تلكم (المواجهة) مبحثه حول المشروع الاستيطاني الصهيوني في الجبل الأخضر، رغم صدوره ككتاب في مرحلة تالية، فترة السبعينيات بعد إسقاط النظام الملكي.
هذا البعد القومي العروبي لا يظهره مبحثه لكن في تقديري أنه المسكوت عنه، مصطفي بعيو منذ بدء الباحث في أول التكوين نهجه وضحه في المتن الأول (المجمل في تاريخ لوبيا من أقدم العصور إلى العصر الحاضر. وقد صدر بتقديم أستاذيه عبد الحميد العبادي ومحمد عبد الهادي شعيرة. (الإسكندرية: مطبعة رمسيس. 1947م). 148 ص)، ومجمل سردياته التاريخية هي حفريات في التأريخ الليبي:
(المختار في مراجع تاريخ ليبيا. (بنغازي: دار ليبيا للنشر و التوزيع. 1967م). ج1. 223 ص.
المختار في مراجع تاريخ ليبيا. (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر. 1392هـ 1972م). ج2. 303 ص.
المختار في مراجع تاريخ ليبيا. (طرابلس: الدار العربية للكتاب. 1395هـ 1975م). ج3. 273 ص.
بل أنه يستشرف مستقبل هذا التاريخ كما في كتابه (الأسس التاريخية لمستقبل ليبيا (دراسات في التاريخ الليبي). (الإسكندرية: مطابع عابدين. 1953م). 211 ص). وتبان رؤية هذا التربوي المؤرخ في مجمل نتاجه لكن تتعين في لحظتها الأولي في مؤلفه (تاريخ ليبيا للسنة السادسة الابتدائية. 1955م).
نستخلص من هذا العرض لعناوين كتبه التي تكشف المتن أن ليبيا الدولة الناشئة في رؤاه لها جذور تاريخية جيوسياسية، وأن مهمة المؤرخ المعلم مهمة تربوية بحثها التأريخي يستمد نهجه من الإنشاء.
لكن من سياق عمله لا نجد أي تناقض بمعنى الخلاف بين الرؤية التاريخية الليبية والنهج العروبي الذي توضح من خلال تتبع مسار شغله.
ثمة اتساق بين الباحث المؤرخ والمعلم التربوي في سياق شعار المثقفين الليبيين (انظر إلى الأمام) في هاتيك اللحظة الاستثنائية، ما جعل مصطفي بعيو يؤرخ للمستقبل وهو يبحث في الماضي، وأنه المثقف المعلم.
______________________________
• تمت المشاركة بهذه الورقة ضمن حفل تكريم للمرحوم المؤرخ مصطفي بعيو، أقامته جامعة مصراتة يوم الخميس 8 مارس 2018.