عبدالمجيد دقنيش* (صحيفة العرب اللندنية)
هناك نظرة خاطئة لدى عموم الكتاب والمثقفين العرب تنظر إلى الشعر الشعبي أو المحكي وكلما لا تكون مادته اللغوية من الفصحى، نظرة دونية تعتبر كلما يكتب من أدب فيه أدبا من درجة ثانية. فيما الأدب المكتوب باللهجات المحلية يختزن موروثا كبيرا لا يقل عن الفصحى بل ويتجاوزها أحيانا كثيرة. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع الشاعر الليبي محمد الدنقلي الذي يمثل أحد رموز الشعر المحكي الليبي.
متأثرا ببيئته الأولى التي كان فيها الشعر خبزا يوميا لا غنى عنه، وتجربة أبيه الشعرية الذي كان يطلب منه تدوين قصائده التي يكتبها بالفطرة، والذي ردد معه صباه وطفولته على أنغام أوزان الشعر الشعبي وعلى ترتيل القرآن. ومستفيدا من تجربته الطويلة مع المسرح والتمثيل والإخراج والموسيقى ومحاولاته الكثيرة في القصيدة العمودية والنثر والقصيدة الشعبية، استطاع الشاعر الليبي محمد الدنقلي أن يؤسس لنفسه مسارا إبداعيا متميزا وفريدا.
يطل علينا الدنقلي من واحة قصيدة اللهجة المحكية التي استطاع من خلالها صحبة مجموعة قليلة من أبناء جيله، أن يفتحوا قارات فكر بكر ويجددوا في الشعر الشعبي والفصيح عبر تلوينات جمالية محفزة على التفكير والسؤال وصور مباغتة ولغة صافية لا تشبه إلا نفسها، ليدخلوا ويدشنوا بهذا النمط المستحدث من القول زمنا جديدا من الحداثة الشعرية المتأصلة في الجذور والهوية والمنفتحة على واقع العصر والقيم الإنسانية في آن.
– سلوك وجودي
حول خصائص ومميزات ديوانه الجديد “فيك شيء” يقول محمد الدنقلي “عندما فكرت في جمع ونشر هذا الديوان الذي تأخر كثيرا لأسباب عديدة ليس محل ذكرها هنا، لم يكن في ذهني ما يمكن أن أنظر إليه كمميزات أو خصائص. كل ما هناك هو أنني كنت أريد أن أوجه من خلاله رسالة بسيطة، تكمن في اعتقادي أن الكتابة في الحب وعن الحب هي الكتابة الشاملة لكل ما هو إنساني، من حيث الزمان، والمكان، والحاضر، والمستقبل وأيضا الأفكار، والرؤى، دون الخوض في مسائل التوجه والإرشاد المباشر في مناحي الحياة. فالحب هو وحده المفتاح لكل الأبواب”.
نسأل الشاعر عن قريته وبداياته ليجيبنا “لي في الطفولة وجهة نظر في ما يراه من يحكون عن طفولتهم وهم كبار. الطفولة مرحلة عمرية غامضة وجميلة. فقط تعاش بتفاصيلها لا غير. قد تحتفظ ذاكرتنا بشذرات منها لكن لا يمكن الحديث عنها مثلما كانت بالضبط. ورغم هذا أقول كنت في طفولتي أعيش عالمين متوازيين. الأول هو دراستي للقرآن الكريم، مما جعلني قريبا جدا من اللغة العربية بشكل مكثف وإجباري. وهو ما أفادني كثيرا من ناحية تعودي على التذكر والحفظ السريع ومن ناحية المخزون اللفظي والقاموس″.
ويتابع “أما عالمي الآخر وهو الأمتع في ذلك الوقت وحتى الآن، فهو أن منطقتي ‘زله‘، باعتبار موقعها الجغرافي في وسط ليبيا، تشبه مركز الدائرة، أي أنها متاخمة للشمال والجنوب والغرب والشرق. فقد كانت ولا تزال تتميز بكل أنوع الفنون الموجودة في المناطق الليبية؛ من المجرودة وغنَّاوة وضمّة القشة لطبلالة المعروفة في الشرق والموقف والصالحي والمالوف والنخية والعتبي في الغرب والطبل والمزمار في الجنوب والمحافل الأفريقية، إلى المهاجاة وأهازيج العمل والحضرة في كل البلاد. وقد كان الناس كلهم دون استثناء رجالا ونساء يشاركون في هذه الأعراس، لهذا كان الغناء والشعر خبزنا اليومي في زله”.
وبالنسبة للزخات الشعرية الأولى فقد بدأ الدنقلي في كتابة المجرودة وبعض القصائد الشعبية في وقت مبكر من العمر، ولكن أول ما يعتبره الزخات الأولى هو ما كتبه في الشعر العمودي الفصيح في مرحلة الدراسة المتوسطة، حيث كان النشاط المدرسي في فترة السبعينات يعطي مساحة كبيرة للنشاطات الطلابية في كل المجالات الفنية والأدبية وينظم لها المسابقات على مستوى البلاد .
كانت بدايات الدنقلي مسرحية موسيقية لكنه اتجه إلى الشعر، والشعر المحكي بصفة خاصة، ولا يرى ضيفنا ذلك تحولا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه ومن خلال المسرح اكتشف أهمية وجمالية الحوار، والمونولوج الذي يضم الموسيقى والنثر والشعر معا.
ومن خلال دراسته الموسيقى في دورات سريعة أيقن أنه يمكن كتابة نص شعري لهجوي مختلف في أوزانه، وشكله، ورؤيته بل ومعارضة عن القصيدة الشعبية المعروفة عندنا في ليبيا. مستفيدا من تجريدية الموسيقى، وزجالة الشعر، وتحرر المسرح، وتقنيات النص المفتوح. فكان النص المحكي الذي هو بين أيدينا الآن.
وفي رأيه ليس من فرق بين المحكي “اللهجوي/غير المُعْرَبْ”، و”الفصيح/المُعْرَبْ” سوى نوع الأداة اللغوية أما الرؤى والمضامين فواحدة وقد حقق النص المحكي نفس الحداثوية التي تمثلها النصوص الشعرية المكتوبة باللغة المعربة. والفصاحة متوفرة في النوعين، ومسألة نقاشها قد عفى عليها الزمن.
نسأل الدنقلي ماذا يعني له الشعر؟ وكيف يعرفه ويعيشه؟ ليجيبنا “كثيرون هم الذين حاولوا تعريف الشعر وتاهوا بين الشعر والشعرية. و”البيضة والدجاجة”. أما أنا فلا تعريف للشعر عندي سوى أنه سلوك وجودي بامتياز، فإن لم أتنفس بالضرورة لا أعيش. أيضا إن لم أقل الشّعر أنا لست على قيد الحياة. الشعر لدي ضرورة حياتية كنبض قلبي. أنا أستوعب ما حولي وأتأثر به لكن لا أستطيع إلا أن أخرجه من داخلي في شكل قصيدة، كي أعبَّ من جمال الدنيا ثانية. الشعر هو رقصتي الأبدية التي أدمتنها إلى درجة أنني أدوخ لو تخليت عنها”.
– المحكي والفصيح
نتطرق مع الدنقلي إلى الحديث عن علاقة النقد بالقصيدة المحكية، إذ يرى أن الشعر المحكي في ليبيا جديد نسبيا فعمر بروزه لا يتجاوز ربع قرن تقريبا، على يد مجموعة أسماء وهم الصيد الرقيعي، محمد علي الدنقلي، سالم العالم، وعبدالمنعم الفليليح. والتجارب الثقافية الإنسانية عادة ما تحتاج إلى وقت كاف كي تُعرف وتتحول إلى سلوك أو ممارسة اجتماعية وجزء من المشهد الأدبي. لذلك فلا لوم على النقاد الذين اعتادوا على ما هو مطروح نقديا قبل المحكي في الساحة الأدبية. ولكنه يشير إلى أن هناك عدة محاولات نقدية ليبية فردية تماسّت مع النص المحكي وتطرقت إليه ووضعته تحت المجهر النقدي وقد أجادت إلى حد ما.
ينظر دائما في العالم العربي إلى شعراء الشعر الشعبي والمحكي كشعراء درجة ثانية مقارنة بشعراء الشعر الفصيح، ويعلق الدنقلي قائلا “تستمد اللغة العربية حضورها من كون القرآن الكريم مقدسا لحمله رسالة الإسلام السماوية، وكذلك لكون اللغة المُعرَبة هي اللغة الرسمية في جميع الدول العربية. هذا إضافة إلى حملها التراث والتاريخ العربي المُوَّحد. كل هذه العوامل جعلت اللغة العربية التي يقولون عنها فصيحة في الواجهة من حيث التوقير والاحترام أو حتى التقديس. أما اللهجة الدارجة فهي منظومة كاملة شروط اللغة الحية في كونها لغة مستقلة. وطبعا ليست منفصلة ولا منسلخة عن اللغة المُعْرَبة التي هي أساس التفكير العربي بشكل عام”.
يتابع “أما النظرة الدونية، على ما أعتقد، فجاءت من أن هذه اللهجة يستخدمها عامة الناس بينما المعربة للصفوة والدوائر الرسمية وطقوس العبادة. لكن وللإنصاف وليس التحيز فإن ما يقدم باللهجة قد يسمو ويفوق ما يقدم بالفصيح خلال الفترة الزمنية الأخيرة والدلائل كثيرة”.
ونذكر أن محمد الدنقلي تعامل مع كبار الملحنين الليبيين والعرب وغنت له عدة أصوات مهمة مثل ذكرى محمد وأمال ماهر، وستغني له هذه الصائفة في مهرجان قرطاج أمينة فاخت مجموعة من الأعمال. أصدر الدنقلي عدة مجاميع شعرية نذكر منها “نثار الليل” و”وأبصر كيف” و”توحشتك” وديوانه الأخير الذي صدر منذ أسابيع وحمل عنوان “فيك شيء” والذي كان مناسبة لهذا اللقاء المنفتح على قضايا الشعر والثقافة والوطن والجمال والحب والواقع الليبي والعربي المعاصر.
___________________
* كاتب تونسي.