عاد فرحاً كعادته في ذلك اليوم الحافل حيث استمتع بمشاهدة أولاد حارته المنشغلين بلعب الصور والتي لا يجيدها ولا يحبذ لعبها.
عاد مبتهجاً إلي سطح بيته حيث أشرقت الشمس من جديد وتجمعت نسائه تحت خيوطها الذهبية اللافحة.
كنّ يتحاورنَ، يتجادلنّ، ويقومنّ بتجهيز متطلبات وجبة الكسكسىً..كنّ يضعنَ الدقيق في قصعة العود ويبللنه بالماء الدافئ ثم يمررن راحات أياديهنّ علي الدقيق الناعم فيتكور ليقومنّ بعزل الجزء المتكور في طبق آخر وهكذا.
وبعد أن يتجمع الكسكسى الخام يتركانه تحت أشعة الشمس الدافئة لتتولي أمره.
أحياناً أخرى كنّ يصنعن الخبز بأنواعه المختلفة في الطبق المعد لهذا الغرض كان الطبق مصنوع بطريقة هندسية متناسقة ورائعة من سعف النخيل، الذي كان يجلبه والده من منطقة (اللثامة) المجاورة.
أغرته جلستهن الغريبة، وكأنه لم يرهن قد جلسن هكذا منذ فترة طويلة.
وتطلع إليهنّ بعيون حذرة مستكشفة أين سيجلس هذه المرة ؟ أين ؟ أين ؟ ثم أين؟
لم يهتدي للإجابة !
همّ بالجلوس قرب أمه فوجدها منشغلة بإعداد الكسكسي تارة وتارة أخرى في تجهيز فطائر الخبز.
أمسكت بدقيق الفرينه بللته أيضاً بالماء الدافئ ، وبعد أن تفرّد العجين وأصبح ككتل وفطائر ، سارعت بوضع الخطوط الأربعة على فطائر العجين فأصبح خبزاً مختلفاً كان يسمى بخبز الحلوزي.
ولكنه لم ينضج بعد ! فهو لا زال يحتاج إلي وهج النار في تلك الكوشة.
عندما رأته حائراً باحثاً عن مكان للجلوس، اعتقدت أمه أن ولدها يتساءل عن قنانهالمفضل.
جهزته سريعاً حتى لا يصبح المكان مليئاً بالصياح والفوضى والعويل !
رشت بعض الكمامين علي الفطائر ، وهمت بإرساله إلي الكوشة لنقل طواجين فطائر الخبز.
لم يقرر الاقتراب من أمه لأنها كما حدثتكٌم منشغلة بالتجهيز والإعداد لأصناف الطعام كعادتها.فإن اقترب منها ستنهره بصوتها العالي ليبتعد وذلك لأنه متسخ الثياب، أطراف أصابعه قذرة، وجهه الذي كان من المفترض جميلاً ونظيفاً… صار أغبراً، يداه ملوثة بالتراب بدلاً من أن تكون حامله لقطع الحلوى والشيكولاتة التي تكون مناسبة لسنه حين ذاك،أظافره مليئة بالطين بدلاً من أن تكون مُقلمة..كان يراقب أولاد حارته الشرقية، وهم يضعون صور مشاهير الأفلام وصور الأبطال في شتى الألعاب.
الأولاد كانوا يحبذون لعب الصور ويحصلون عليها من علب الحلوى المستوردة فقط لأولاد ذلك الحي الراقي !.
كانوا يغرسونها في الرمل ،و الصور كانت لأسماء رنانة لامعة فلا يسقطون أبداً في أفلامهم ولا ينهزمون أبداً في أدوارهم ! دائما أبطال ( رينجو ، جوقرم ، كلاي… الخ ).
كان يرسم لهم القلبة وهو خط يرسمه بأحد الأعواد الخشبية علي بعد مسافة مناسبة من وجود الصور المغروسة في الرمل.
كانوا يقفون علي الخط ويرمون الحجارة بالتناوب تجاه الصور ، والساقطة تجمع مع أخواتها وتصبح غنيمة في يد صاحبها ليلعب بها مرة أخرى إن أراد ذلك.
كان مستمتعاً بالمشاهدة وفي تفكيره دائماً مشاوير طواجين الخبز من البيت إلي الكوشة وبلعكس ،وعندما يتجادل أولاد حارته مع بعض كان يتدخل هو ليعيد النظام من جديد !
لفت انتباهه ذات مرة أولاد الحارة الغربية عندما أتوا أخيراً للمشاركة في اللعب ولكنهم لم يستسيغوا طريقة لعبة إسقاط الصور.
ابتعدوا قليلاً وفكروا كثيراً واهتدوا إلي لعبة أخرى ، بعثوا بأحدهم ليجلب الحبال من تلك السفينة الغارقة عند الشاطئ وبدأوا يلعبوا لعبة جديدة أسموها لعبة الحبل وتفننوا فيها
كان المشهد يدعو للتأمل.
فأولاد الحارة الشرقية يلعبون لعبة إسقاط صور الأبطال !
وأولاد الحارة الغربية يلعبون لعبة الحبل وشده وكره وفره وربطات العنق المختلفة!
الحقيقة كان مندمجاً في المشاهدة وشارك في رسم خطوط الملعب فاتسخت ثيابه ويداه ، فلم يجرؤ علي الاقتراب من أمه عندما عاد إليها..
فستأمره بالذهاب ليستحم. وهو لا يحب الاستحمام بالماء المتقطع البارد ، فهو ينتظر الماء حتى يتجمع في الجر دل ومن ثم ينتظره ليسخن في البراد ثم يدلقه علي جسده فيتدفأ ويبرد من جديد وينتظر ويدلق ويتدفأ وهكذا !
توجه بنظره إلي الجهة الأخرى من السطح فوجد جاراته وقد انشغلنَ بالحديث. ظنه في البداية ممتعاً!
وعندما انتبه وجده.. ذلك الموضوع الأزلي الذي يتكرر كلما أهملت الأمور !
كان علي الزواج والحب والانتظار.
ولكنه لم يستطع فهمه لصغر سنه تلك الأيام.
إحدى جاراته انشغلت بالحديث مع تلك العجوز المسكينة التي تقبع وحيدة قاطنة لذلك الكوخ المنخلع بابه ، وتوصده في كل مرة بزينقو يطير مع أول رياح من رياحنا القبلية ولكنها كانت تقفله بتلك الصخرة البحرية الكبيرة كل مساء، ومن أين تأتي بالقوة علي عمل ذلك ؟ الحقيقة لا أحد يدري !
كانت تلك العجوز هي زارعة الأمل والبسمة بين بنات وفتيات الحارة التي يقطن بها،تقرأ فنجان قهوتهنّ ، أكفهنّ ، تلعب بالبيضة والحجر ، وتفهم أصول فن التاقزة..
كانت تمتلك مسبحة مصنوعة من تسعة وتسعون فقرة عمود فقري قطط وبينها ثلاث شواهد تفصل بين الفقرات بالتساوي مصنوعة من أسنان الكلب.
كانت الفتيات يرتعبنّ من تقدُم أعمارهنّ ويخفنّ من أن يصبحن عانسات، فيتسابقن لملاقاة تلك العجوز الخيّرة وسؤالها عن المستقبل المجهول…. عكس ما يحدث مع بنات اليوم اللاتي يسارعن إلي عجائز الشر وبوابين المقابر ! لعمل أعمال تفيد في التفرقة والطلاق لهن والعنوسة لغيرهن أيضاً.كن لا يرغبنَ الانتظار.
كان الموضوع والوشوشة غاية في التشويق لهن وليس له.لقد فضل عد البطشوالزغاديعلى الاستماع إلي تنبؤات تلك العجوز لهن.
تأمل ذلك المشهد المعتاد الدائر فوق خشبة سطح بيتهم المشمس ، وقررا أخيراً الجلوس قرب أو الارتماء في حضن أمه والتي أنهت للتو عملها المعتاد.
داعبته أمه بأناملها الرقيقة أحياناً والخشنة أحياناً أخرى كما تُداعب القطة المدللة ، مررت يدها فوق رأسه تتحسس وجود القمل والسيبان، لكنها لم تجد شيء ! أتدرون لماذا ؟ لا لا. لم يستحم بعد.. السبب آخر ومختلف تماماً.
لقد كان أقرع حينها.. أمسكت أمه يداه وأنشدت له:
دباخ.. دباخ.. يا حزارك.. يا مزارك.. البارح أبش تعشى حمارك.
فرد مسرعاً بما جال في خاطره حين ذاك (حلوى ، سكر ، عسل ، كسكسى ، ثم بشكليطة. وكل ما اشتهى حينها).
فترد بإكمال فقرات أغنيتها حسب ما اختار من كلمة.
حتى وصلت كلماته إلي ما يتمنوه أغنياء الحارة حينها.
فقال: تعشي يا أمي حماري البارحة (مرسيدس أخر موديل)
فغنت وهي لا تعرف ما معني مرسيدس حينها وظنتها إحدى أنواع الأكلات البحرية.
سردينه مثلاً.
مرسدوك أمرسدين… لبزوا عينك بالطين… يا حزاراك يا مزارك.
البارح أيش تعشى حمارك ؟
حاول أن يتجاهل معنى كلمات الأغنية ومدلولات العين والتلبيز والطين في حارتنا والتي تغنيها والدته دون أن تفهم معانيها التي تحرفت خارج البيت إلي مدلولات أخرى!
نظر إلي السماء متفادياً بيداه أشعة الشمس الحارة فتمنى السماء أن تمطر.
وأنشد:
يا مطر.. صبي صبي.. طيحي حوش القبي
والقبى ما عندا شيء.. أمفيت.. اقطيطيسه اتعوي.
واتبعها بأغنية أخرى:
يا بنية.. صبي جنبي.. نحكيلك على أف قلبي
في قلبي.. موال كبير.. نحكي واللي أيصير أيصير
التفتن إليه النسوة السبعة وصاحن جميعاً في وجهه:
“عيب يا ولد هذا كلام كبير”
سأل نفسه حينها هل لو كان عدد النسوة اللاتي من حوله أقل من سبعة هل سينهرنه مثلما فعلن الآن ؟
لم يتفق مع نفسه. لأن الرقم سبع رقم عجيب.
فلو كان في أي بيت سبعة أنفس لسبعة نسوة فعلى الرجل السلام.
تظاهر بالخجل والأسف من كلمات أغنيته.
وأنشد بعد الهمس داخل نفسه:
سبع صبايا في القصبايا جت الغولة قالت هَم
فأسكتته أمه بأحد الأحذية ، الذي لم يدري كيف وصل إلي دماغه؟
فتراجع منشداً:
يا مطر يا بشباشه.. طيحي حوش الباشا
والباشا ما عنده شيء.. أمفيت أبنية أتحن علي
لم تمطر السماء.. ولم تبشش حتى.
ولم تنتبه بنت الباشا أبداً ! ولا أدري لماذا ؟ !
وجاءته حذاء أخرى هذه المرة من إحدى جاراته.
فتفاداه وكاد أن يقع في طاجين الخبز.
ملّ الغناء. فالتفت إلي الجانب الأخر من سطح البيت فوجد العجوز ممسكة بمسبحتها المتدلية والفتيات يتحملقن في المسبحة !
ترك الغناء وراءه وزحف مستطلعاً ماذا يفعلنّ تلك النسوة والعجوز.
لاحظته أمه فأنشدت:
اطو يري طار مع الكفار جناحه سود وفمه نار
يطلع قطة ولاّ فار
فهم أن معنى الكلمات تعنيه
فرد علي أمه سريعاً وبصوت جهوري غاضباً:
تطلع منشار.. لا لا طيار.. لا لا حمار
لأن الحمار المسكين لا يُترك مرتاحاً حتى في الأغاني والأناشيد !
فمثلاً عندما تنخلع أسنان الحليب عند أي طفل، نختار أي يوم مشمساً ونقول:
يا شمس يا شموسه.. يا عوينة العروسة.. خذي سن حمار.. وهاتي سن غزال.
وبالا حياتك التعسة أيه الحمار المسكين !
تمعن النظر من جديد في تلك المسبحة وكيف توهم بها تلك العجوز النساء اللاتي التفن من حولها، وكيف بالتالي أقنعتهن بأنها الوسيلة الناجعة لمعرفة مستقبلهن.
أظنها كانت محقة لأن هناك أشياء لا يراها إلا نوع من الناس الذين يتميزون بشيء من الشفافية العالية وحباهم الله بتركيبة عيون قادرة علي رؤية حتى العفاريت ، فلو صممنا عدسة مطابقة لتركيبة عيونهم أو عيون هذه العجوز لامتلكنا عدسة تصوير تستطيع التقاط صور الأشباح !
ولكنه تساءل في داخل نفسه لماذا تلك الأشياء ؟ وما العلاقة بين فقرات العمود الفقري للقطة والمسبحة والنبوة والزواج والانتظار والحب و النجاح.. الخ ؟!
نادته أمه بقسوة.
انهض. أذهب. أغتسل.ثم تعالى.
لتحمل أطباق خبزه الحلوزي إلي الكوشة
فذهب إلي الحمام لأخذ دش بالجر دل !
أكمل المهمة. وضع قبعته علي رأسه الأقرع وأتي.
وضعت له أمه الطواجين في اتجاهات معاكسة فوق بعضها البعض فوق قبعته وانطلق مسرعاً إلي الكوشة التي تقبع في نهاية الحارة.
مردداً أنشودة:
يا بنيه يا مغرورة يا حلوة يا عصفورة
تبقي عندي مسرورة من جنبي ماتريد أطير
يا بنيه صبي صبي نحكيلك علي أف قلبي
في قلبي موال كبير نحكي واللي أيصير أيصير
… فأوقفه مشهد لأولاد حارته الأكبر عمراً.
كانوا يلعبون لعبة الكراسي!
احدهم مرتدي ثياب ملك والأخر ثياب سلطان وكذلك أحدهم مرتدي ثياب رئيس وآخر أمير وهناك من ارتدى ثياب الباشا وأحدهم كان يرتدي ثياباً بدوية حاملاً لفافة تبغ.
والآخرون من حولهم يصفقون ويهتفون ويشجعون ، وعندما توقفوا عن التصفيق سارع اللاعبون الكبار إلي الكراسي وجلسوا ما عدا أحدهم الغير محظوظ هذه المرة !
. وحينما ارتاح الجميع علي كراسيهم.
أنشد الذي كان مرتدياً قبعة وثياباً بدوية وجالساً في مواجهة الأخر الذي كان مرتدياً ثياب الملك وبعد أن أشعل لفافة التبغ.. أنشد أغنية:
دوبك.. دوبينا.. دوبا..ابن الباداوى.. دوبا
يجرح ويداوى.. دوبا…عنقر طاقيته.. دوبا..قمعز علي الكرسي.. دوبا…يشرب في السبسي.. دوبا..عنقر طاقيته.. دوبا..سكر سانيتا..دوبا.. دوبا
.. فضحك عليهم جميعاً وهمّ بإكمال مشاوير الطواجين إلي الكوشة
فناداه من كان ينشد الأغنية وسأله:
لماذا تضحك يا ولد ؟
فرد الولد بأنشودة:
واجعني حال البنات اللي ضاعت منا يا زين
يراجنفينا مقهورات أنجوهن بالسنة والدين