أوراق مبعثرة 104 – (قصة واقعية ومؤلمة)
قال محدثي.. (*) الذي أكد لي صحة ما يردده الناس عنه: كنت أعرفه منذ أن كنا صديقين خلال السنوات الأولى من دراستنا الجامعية.. فقدت أمي صغيرا.. وفضلت الالتحاق بالجامعة هربا من قسوة والدي ومقالب زوجته التي لا تحتمل.. كنت أقيم بالقسم الداخلي.. كبقية أبناء القرى والمدن القريبة من بنغازي.. وكان صاحبي كثيرا ما يدعوني الى بيتهم الجميل ذي الأسوار العالية والأثاث الفاخر ومظاهر الثراء المختلفة التي أدهشتني كثيرا.. أنا القروي الصغير القادم من الريف.
وكانت أمه الودودة الطيبة تستقبلنا في كل مرة بابتسامتها المشرقة.. وتقدم لنا أطايب الطعام الذي كانت تعده بنفسها.. وتجلس معنا لتحكي لنا أجمل ما عندها من حكايات وأطرف ما تتذكر من مواقف مضحكة وأحداث غريبة.
كنت أبادلها عطفا بعطف.. وحنانا بحنان.. فقد كانت لي كأمي التي فقدتها صغيرا.. وكنت لها كابنها الوحيد.. وكان صاحبي كثيرا ما يلح علي في الذهاب معه الى بيتهم قائـلا: لا تمانع.. فقط.. نفذ أوامر الوالدة.. وكنت في كل مرة.. أذهب معه بلا إبطاء أو تردد.
وتتابعت سنـوات الدراسة الجامعية سريعا.. كحبات مسبحة عتيقة في يد شيخ وقـور.. وكان لزاما علينا أن نفترق.. ذهبت لمواصلة دراستي العليا بفرنسا.. وذهب صاحبي لمواصلة دراسته في بلد آخر.
ومضـت سنوات العمر في تتابعهـا سريعاً.. انقطعـت خلالها أخبار صديقي وأسرتـه.. إلى أن عدت إلى البلاد.. بعد ما يقرب من عشرين عاما.
حطـت بي الطائرة في مطار بنغـازي.. وكان الشـوق يدفعني الى لقاء تلك الأسرة الطيبة.. كنت في الحقيقة أكثر شوقا للقاء صاحبي ووالدته.. من الذهاب للمرج للقاء أسرتي.. أعني أنني فضلت أن أبيت تلك الليلة في بنغازي لأتمكن من زيارتهم.. ومن ثم أحزم حقائبي في اليوم التالي وأسافر إلى أهلي.
توجهت راجلا من الفندق الذي أقمت فيه.. الى ذلك المنزل الكبير الذي لم يكن يبعد كثيرا.. وقفت أمام المنزل أتأمله.. لم تكن معالمه قد تغيرت كثيرا.. رغم مضي هذه السنوات الطوال على آخر زيارة قمت بها صحبة صديقي القديم.
طرقت الباب.. ووقفت للحظات استعرض خلالها شريط ذكرياتنا الجميلة.. أيام دراستنا الجامعية معا.. أفقت بعدها على صوت جهوري.. يتساءل عن الطارق.. فقلت بفرح غامر: افتح.. أنا.. (فلان).
وفتح الباب.. ظننته في بداية الأمر والد صاحبي.. لكنه لم يكن كذلك.. كان شخصا آخر لا أعرفه.
قلت له: هل هذا منزل الحاج (……..).
فأجابني بقوله: يرحمه الله …
قلت: يرحمه الله.. متى توفي…؟
قال: منذ سنوات.
قلت له: وأين (فلان).. ألا يزال يقيم هنا مع والدته.
فقال لي: لا لم يعد يقيم هنا.. اشترى لنفسه منزلا آخر يقيم فيه مع زوجته وأطفاله.
قلت متسائلا: وهل توفيت والدته…؟
قال: لا.. لا تزال هناك في (دار العجزة).
وقع الخبر المؤلم على رأسي كالصاعقة.. بكيت لسماعه وحزنت.. وقررت فيما بعد الذهاب إلى (دار العجزة) لزيارتها.. بدلا من الذهاب إلى صديقي القديم.. ومنذ ذلك الحين لم نعد أصدقاء.
ولـم تمض سوى سنوات قليلـة على زيارتي الأولى لها.. حتى سمعت بخبر وفاتها.. عندها فقـط.. قررت الذهاب لمواساته.. لكنني لم أمكث عنده طويلا.. مددت له يدي معزيا.. وانصرفت من حيث أتيت.. بعدما عرفت أن لا أحد من الناس كان يرغب في تقديم واجب العزاء له.
هامش:
(*) ــ محدثي هو ــ عديلي ــ الدكتور محمد عبد الكريم الوافي.. وقد نقلت ما حدثني به كما هو.. دونما زيادة أو نقصان.. ولم يكن لي من دور سوى الصياغة الأدبية.. وطريقة عرض ما حدثني به.. يرحمه الله برحمته الواسعة.