آمال عوّاد رضوان
احتفاء بأديبنا الفلسطينيّ عادل سالم (رئيس موقع ديوان العرب في أميركا)، أقام المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا ومنتدى حيفا الثقافيّ أمسيةً ثقافيّة، بتاريخ 20-9-2015، في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية شارع الفرس 3، وسط حضور من نخبة المثقفين والأدباء، وقد تولّت عرافة الأمسية الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، وعن الأصناف الأدبيّة للمحتفى به عادل سالم قدّم كلٌّ من:
*المحامي فؤاد نقارة(رئيس منتدى حيفا الثقافي) كلمة ترحيبيّة، ونبذة عن نشاطات منتدى حيفا الثقافيّ. *وتحدّث د.محمد عدنان بركات عن شموليّة المجموعة القصصيّة (يحكون في بلادنا) للأديب عادل سالم. *وقدّم الأديب د. صالح عبود قراءةً واقعيّةً في “الرّصاصةِ الأخيرةِ” للقاصِّ والأديبِ عادل سالم، وقدّمت الكاتبة هيام أبو الزلف قراءةً في رواية “عناق الأصابع” للأديب عادل سالم، وتحدّث الأديب فهيم أبو ركن عن الشمولية في شعر عادل سالم، وتحدث المحامي حسن عبادي عن شموليّة الأديب عادل سالم بأصناف الأدب من شعر وقصة ورواية ومقالة. وفي نهاية الأمسية ألقى الشاعر عادل سالم قصيدتين، وشكر المنظمين والمتحدثين والحضور، وبصفته مؤسس ورئيس تحرير موقع ديوان العرب في امريكا، قدّم درعَ ديوان العرب لفارسة ديوان العرب آمال عوّاد رضوان للعام 2011، تكريمًا لها وتقديرًا لمقالاتها وتقاريرها الثّقافيّة، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
في كلمة العريفة الكاكتبة عدلة شداد خشيبون: لا كثرة المدح والأضواء تشغلني/ ولا المُدام بكأس الليل تغويني/ أنا الغريب وطعم القدس في شفتي/ لا خمر روما ولا عيناك ترويني/ عشقتها في دمي تسري محبتها/ من عهد كنعان وجالوت وحطين/ تركت قلبي على أسوار قبلتها/ واخترت في غفلة منفاك يأويني/ أنا الملوم وبعدي عنك أتعبني/ لا تقبلي عذري فأعذاري تلاويني/ لكنني عاشق يأتيك في طمع/ أن تسمحي لي بقبر فيك يحويني/ فالموت في حضنك الوردي أمنيتي/ مدي ذراعيك يا قدسي وضمّيني.
بكلمات هذه القصيدة القدسيّة للشاعر عادل سالم أفتتح اللقاءَ وأقول: مساؤكم قدسيّ بنكهة الأدب العريق الفلسطينيّ الأصيل أحبّتي، سأقتطع من ساعات اللّيل ساعتين، وأضيفهما إلى تاريخ عريق به نعلو ونسمو، من خلال تكريم لشاعر أصرّ على أن يعود بنا إلى عهد عراقة الأدب والشّعر، فقديمًا قالوا: الشّعر ديوان العرب. وها هو شاعرنا يُعيد لنا الدّيوان من خلال موقعه الجميل “ديوان العرب”، حيث عمل على تأسيسه، واليوم هو رئيس تحريره، فهنيئًا لنا وللأدب.
مساؤكم خيّر ومسائي معكم يتزاحم به شكري أوّلًا للأستاذ المحامي الأخ الصّديق فؤاد نقّارة، حيث كرّس وقته وجهوده، ليتابع مسيرة أدبائنا من خلال هذا المنتدى الرّائع، فلك منّي ألف تحية وألف باقة ورد لا تذبل يا أخَ العطاء، فبفضل رعايتك للأدب وغيرتك على الكلمة الطّيبة نحن هنا معًا، نستضيف الأديب عادل سالم، وكم لاسمه من معاني السّلام والحياة صدى في كتاباته؛ أشعارًا كانت أو قصص قصيرة، فلك أديبنا الكبير منّا تحيّات بباقات ورد لا تعرف الذّبول، وينابيع شكر لا يعرف للجفاف أصول. أهلا بك أديبنا وشاعرنا في بلدك في أرضك التي تشتاق لأمثالك. أهلا بك يا زارع الكلمة الطّيبة من خلال القوافي الرّاقية والقصص الجميلة الهادفة. اللّيلة أحبّائي الحضور، سنحلّق عاليًا، ونتخذ من قصص أديبنا محطّات ومن أشعاره استراحات. أهلا بكم، ومعًا سنحط التّرحال على شواطئ الكلمات الطّيّبات!
فؤاد نقارة، يُدافع عن الحقّ ويرفع قضاياه عاليًا لأجل الحقّ، كيف لا وهو المحامي الذي لا يكلّ ولا يتعبُ، في ترتيب وتنسيق أمسيات أدبيّة تُثرينا فكرًا وروحًا، أدعوهُ ليقولَ كلمتَهُ في هذه الأمسية الرّائعة، وليُداعبَ الرّوحَ ويُطربَ الفؤاد، وأشكر من خلاله المجلس الملّي الأرثوذكسيّ على هذه الأمسيات الرّاقيات.
جاء في كلمة المحامي فؤاد نقارة رئيس منتدى حيفا الثقافيّ: الأخوات والأخوة مساء الخير، نرحب بكم في المجلس الملي الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا وفي نادي حيفا الثقافيّ. أهلًا وسهلًا بكم في قاعة كنيسة مار يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا. يشرّفنا أن نستضيف هذه الأمسية الأديب المقدسيّ عادل سالم، ونعلن تضامننا مع المدارس الأهليّة، في صراعها مع التقليص في حصّتها من ميزانيّة التعليم والتمييز الوقع عليها، لأهمّيّة هذه المدارس، ولِما لها من فضل على أجيال وأجيال من شعبنا. كذلك نعلن تضامننا مع أسرى الحرّيّة وإضراب الأمعاء الخاوية الذي يخوضونه في السجون الصهيونيّة، وندين أيضًا الاعتداء على المسجد الأقصى، ونهيبُ بالعرب والمسلمين الشرفاء والمخلصين القيام بواجبهم، للدفاع عن حرمة الأقصى وجميع أماكن العبادة لكافة الديانات أينما وُجدت.
نادي حيفا الثقافي يعمل على نشر الثقافة في مجتمعنا، وتشجيعه للمشاركة بالقراءة والندوات، وتعريفه على مثقفينا ومبدعينا الذين هُم واجهة وعنوان مجتمعنا الحضاريّ، فهؤلاء المثقفون والمبدعون نفتخر ونحتفي بهم ونُكرّمُهم. لقد أُقيم نادي حيفا الثقافي كامتداد للنادي الأرثوذكسيّ في سنوات الأربعين من القرن المنصرم. وقد بدأ نادي حيفا الثقافيّ نشاطاته قبل أربع سنوات، فأقام أكثر من مئة فعاليّة ثقافيّة عامّة، وقام أعضاء النادي بقراءة ومناقشة أكثر من 50 رواية، من الأدب العالمي والمَحلّيَ وبمشاركة الكاتب/ الكاتبة. فنادي حيفا الثقافي في خدمة المجتمع والثقافة والمثقفين والكُتّاب والأدباء، ونشاطاته تستمرُّ من داخل هذه المؤسّسة العريقة المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا.
أتناولُ رواية عادل سالم المؤثرة “عناق الأصابع”، والتي تتحدّث بالأساس عن ظروف “سجناء الحرّيّة” أبطال شعبنا المغيّبين، على خلفيّة الأوضاع العامّة التي مرّت بها قضيّة فلسطين من سيّئ إلى أسوأ، “والحمد لله”. في الرواية أيضًا قصّتا حبّ مستحيلتان تنتهيان نهاية مأساوية. كذلك يُعرّفنا الراوي على التآكل الذي حصل في مواقف “المناضلين” وانزياحهم مع الأسف الشديد، من اليسار الثوريّ الأمميّ إلى اليمين الإسلاميّ، ركضًا وراء منافع مادّيّة، أسّست لها ورعتها اتفاقيّات أوسلو وما تبعها من نتائجَ، كانت وما زالت، وبالًا على شعبنا. ص28، ص98، ص304. ويُحدّثنا عن الغربة في الوطن نتيجة الوضع الجديد، وهو شعوري الشخصيّ أيضًا وشعور كل من أصادفهم من أبناء جيلي عن القدس ورام الله، فيقول الشاعر المتوكل طه في روايته التي صدرت مؤخّرا “نساء أويا” ص214. واقتباس أخير لوضعنا العربي من كتاب الأديب الكبير واسيني الأعرج ص57 وشكرا لكم.
قدّمت العريفة عدلة شدّاد خشيبون د. محمّد عدنان بركات بقولها: هو باحث وناقد في اللغة العربيّة؛ عشق العربيّة فعانقها من خلال كتاباته النثريّة النقدية والبحثيّة. أسّس جمعيّة أنصار الضّاد التي تُعنى بقضايا اللغة العربيّة، وما يرتبط بها من عقد ندوات وأمسيات شعريّة وأدبيّة ونقديّة؛ إضافة إلى إصدار بعض الكتب في حديقة العربيّة. يعمل مدرّسًا للعربيّة في ثانويّة دار الحكمة- أمّ الفحم، ومُرشدًا للمدارس الثانويّة في لواء حيفا. هو عضو فعّال في مَجمع القاسميّ للّغة العربيّة في باقة الغربيّة.
جاء في كلمة محمد عدنان بركات: الحضورَ الكريمَ؛ مع حفظِ المناصبِ والألقابِ.السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، سلامٌ على كلِّ مَن حملَ الأمانةَ وأمانةُ اللغةِ العربيّةِ ليستْ هيّنةً، تتراكمُ مسؤوليَّاتُها مع مرورِ الأيامِ. أهلًا وسهلًا بكم في هذا اللقاءِ الذي ينطقُ بأسمائِكم؛ يتحدّثُ بالبهجةِ والسرورِ؛ أهلًا وسهلًا بكم في انتمائِنا الخلاّقِ للغتِنا العربيَّةِ التي جمعتْنا في مكانٍ واحدٍ؛ تحتَ بريقِ أملٍ واعدٍ في العيونِ، بريقٍ يسمو بشخصياتٍ أصيلةٍ؛ على أكتافِها يقومُ المجتمعُ، وعلى خطاها تتشكّلُ أجيالٌ مفكّرةٌ، ومبدعةٌ ومنتجةٌ. أحيّيكُم بحجمِ ما يحملُ قلبي مِن عشقٍ للعربيّةِ، وأرحّبُ بكُم بعباراتٍ عطرةٍ تُعانِقُ أصالةَ الضّادِ، وترتقي بكُلِّ حروفِ الهجاءِ، بكلِّ الأبجديَّةِ، وبكلِّ البحورِ والقوافي الراقيّةِ، يُشرِّفُنا أن نلتقيَ اليومَ في ندوةٍ أدبيّةٍ على شرفِ تكريمِ الأديبِ الفلسطينيِّ “عادل سالم”، ويسعدُني ويُشرّفُني أنْ أرحّبَ بكوكبةٍ مِنَ النجومِ اللامعةِ في سماءِ اللغةِ العربيّةِ؛ مِن الشعراءِ والأدباءِ وعشّاقِ الضّادِ، وكُلِّ مَن شرَّفَنا في هذهِ المناسبةِ الكريمةِ، وأشكر القائمِينَ على هذه الندوةِ: الأديبةَ الرائعةَ آمال عوّاد رضوان، والمسؤولِينَ في المجلسِ المِلّي الأرثوذكسيِّ الوطنيِّ في حيفا، وإدارةَ منتدى حيفا الثقافيّ، وشكرًا لكم جميعًا.
الأديب عادل سالم؛ مِن أحرفِ نورٍ كُتِبَ اسمُهُ؛ اخترقَنا بإشراقاتِ إبداعاتٍ؛ لها أن تعلِّمَنا؛ فتضيءَ في أذهانِنا وميضَ أدبٍ متجدِّدٍ! “عادل سالم” أديبٌ فلسطينيٌّ مناضلٌ نبضَ قلبُهُ بحُبِّ القدسِ؛ كيف لا! وقد عاشَ طفولتَهُ في البلدةِ القديمةِ من القدس، متنقلًا بين أزقَّتِها وشوارعِها الضيِّقَةِ، وبينَ مدارسِها العمريَّةِ الابتدائيِّةِ ومدرسةِ دارِ الأيتامِ الإسلاميّةِ الإعداديّةِ والكليّةِ الإبراهيميّةِ الثانويّةِ. اعتقلتْهُ قوّاتُ الاحتلالِ الإسرائيليّةِ مرتين بتهم سياسيّةٍ، تنقّلَ خلالها بين سجون عديدة، وساهم مع كتّابٍ آخرينَ في تطويرِ الحركةِ الثقافيّةِ في السجنِ؛ إذ شاركَ في تحريرِ بعضِ المجلّاتِ الاعتقاليّةِ المنسوخةِ باليدِ بالتعاونِ، فخلّدَ قدسَهُ وحاراتِها وزِقاقَها في قصصِهِ ورواياتِهِ ودراساتِهِ وأشعارِهِ؛ إضافةً إلى قضيةِ الأسرى وما يرتبطُ بها من: قُبلةُ الوداعِ الأخيرِ، وعاشقٌ على أسوارِ القدسِ، ويَحكونَ في بلادِنا، وعِناقُ الأصابعِ، وأسرانا خلفَ القضبانِ (وهو دراسةٌ توثيقيَّةٌ عن الأسرى العربِ في سجونِ الاحتلالِ الصهيونيِّ البغيضِ)، وعاشقُ الأرضِ (ديوان شعر)- نداءٌ من وراءِ القضبانِ (ديوان شعر). هذه براعةُ التجسيدِ للواقعِ الفلسطينيِّ في العنوان والمضمون!
نماذج مختارة: “يحكونَ في بلادِنا”: مجموعةٌ قصصيَّةٌ تضمُّ سبعًا وعشرينَ قِصةً قصيرةً، كُتبت ما بين عامي 2005 – 2010م (ألفينِ وخمسةٍ وألفينِ وعشرةٍ). قصصٌ منْ قلبِ الأحداثِ، من واقعِ الأَسْرِ، فبعضُ الشخصيَّاتِ الرئيسيَّةِ فيها مِنَ الأسرى الذين أفْنَوْا أعمارَهُم خَلْفَ القضبانِ، أو استُشْهِدوا في مسيرةِ النضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ. مِن قصصِ المجموعةِ: الطريقُ إلى القدسِ/ البطاقةُ الزرقاءُ/ الجندول/ جراحٌ لن تندملَ/ باب خان الزيت/ مطلوبٌ للتجنيدِ في إسرائيلَ/ الرسالةُ السِّريةُ/ حدث في العيزريّة /الأمن الوقائي/ من القدس إلى بيروت/ لماذا يا رفيق؟/ المُطارَد/ الخائن/ أبو الدوح/ شهيدًا عند ربّه/ انتحار منال/ ثلاث وردات/ نادلٌ فلسطينيٌّ في مطعمٍ إسرائيليٍّ/ مترجم إلى السماء.
تبرزُ قصصُ المجموعةِ كلُّها مِنَ الداخلِ الفلسطينيِّ؛ تُجسِّدُ معاناةَ الشعبِ الفلسطينيِّ ونضالِهِ ضدَّ الاحتلالِ؛ فتناولتْ الأَسْرَ خلفَ القضبانِ، ومواجهةَ الاستيطانِ، ومقاومةَ الاحتلالِ- مقاومةَ تهجيرِ المقدسيِّينَ مِنْ مدينَتِهم المُقدَّسَةِ، *ففي قصةِ «الطريق إلى القدس» تجلّى أسلوبُ الاستفهامِ بطاقاتٍ روحيّةٍ لا يعيها إلاّ منْ عاشَ لحظتَها: “ما سرُّ هذا العشقِ لهذهِ المدينةِ المقدَّسَةِ؟ هل سورُها العظيمُ الذي بناهُ السلطانُ سليمانُ القانونيُّ؟ هل هوَ المسجدُ الأقصى الذي يتوسَّطُ مدينةَ القدسِ، أم كنيسةُ القيامةِ القريبةُ منْهُ؟ هل هي شوارِعُها القديمةُ التي غنّت لها فيروزُ؟ أم جبلُ الطورِ الذي منه ترى كلَّ القدسِ كقطعةٍ فنيّةٍ رائعةٍ امتزجتْ فيها كلُّ الألوانِ بريشةِ مبدعِها؟ الحقيقةُ لا يعرفُها أحدٌ؛ ولا حتّى هو، كلُّ ما يعرفُهُ أنَّ القدسَ بالنسبةِ إليهِ روحُهُ، وإلهامُهُ، وسرُّ وجودِهِ. إنّها مصدرُ طاقتِهِ، وإصرارُهُ على الحياةِ”.
لقد استطاعَ الكاتبُ عادل سالم أن يُلقيَ إشراقاتٍ مركَّزَةً حولَ أبرزِ معالمِ المسجدِ الأقصى ومدينةِ القدسِ، بطريقةٍ ذكيَّةٍ من خلالِ استفهاماتٍ تتماهى مع عشقِ الوطنِ؛ ومنها تنطلقُ لوحاتٌ فنيّةٌ تعكسُ خريطةَ الوطنِ! وهكذا الأمرُ بالنسبةِ لقصّةِ “باب خان الزيت”، على لسان الطالبة التي اعتقلها الجيشُ، وأنقذها من بين أيديهم شابٌ مقدسيٌّ أطلقوا عليه الرصاص: “كنت أتمنّى أن يكونَ هذا الشابُ فارسَ أحلامي؟/ أيّ رجلٍ سأحبُّ بعد الآن؛ إن لم يكن مثله شهامة وبطولة؟/ تركه الجنود ملقى على الأرض، وتركوا الطالبة تصرخ بجانبه: – قتلتموه يا كلاب؟!/ وانسحبوا من المنطقة./ هناك قريبًا من بيته الذي لم يبعد سوى مائةِ مترٍ سال دمُه فاستحقَّ أن يكونَ ذلك الشارعُ شارعَهُ بلا منازع مهما تغيَّرتِ الأزمانُ”.
أليس من حقّ تلك الطالبة أن تتذكره كلما مرت من هناك؟ أليس من حقها أن تذرف الدموع كلما مرت من باب خان الزيت؟ مَنْ يستطيع أن يمنعها من ذلك؟ أليس من حقّ سكان ذلك الشارع أن يتذكروا محمود الكرد كلما غنّى مارسيل خليفة قصيدة سميح القاسم: منتصب القامة أمشي/ مرفوع الهامة أمشي/ في كفّي قصفة زيتون / وعلى كتفي نعشي/ وأنا وأنا/ وأنا أمشي.
وفي “قبلة الوداع الأخير” ينتقل عادل سالم من هموم الإنسان في فلسطين إلى مدينة صيدا (لبنان) الجميلة، هي رواية العاشق الذي يُضحّي من أجل غيره دون مقابل. رواية العشّاق الذين تحوّلوا إلى أصدقاء رغم سخرية كلّ من حولهم. رواية مُعذّبين لم يستطيعوا التخلّص من تأثير جلاديهم حتّى وهم بعيدون عنهم.
أمّا رواية “عاشق على أسوار القدس” فتحكي قصّة طالب فلسطينيّ سافر إلى الولايات المتحدة للدراسة، وبعد عودته عام ٢٠٠٨ يفاجأ أنه صار سائحا ولم يعد مواطنا حسب قوانين إسرائيل العنصريّة الجديدة، إذ تلغي حقّ أبناء القدس العرب من الإقامة بها إذا سافروا منها لفترة، ولو كانت لمدينة قريبة كرام الله مثلا. فتبدأ معركة العودة إلى القدس، ويطارد في ذلك من مكان إلى مكان، ويتعرّض للملاحقة والسجن، ولكنّه يرفض الهجرة الطوعيّة، ويظلّ مُطارَدًا في وطنه مثل كثيرين غيره الذين يزدادون كل يوم. هي رواية المدينة المقدسة، ومعركة أهلها اليومية مع الاحتلال الذي يتفنن في طرد مواطنيها وحرمانهم من الإقامة فيها. رواية من الواقع الفلسطيني. عذرًا إن أطلت؛ هذا غيض من فيض؛ ولا بدّ أن أشدّد على أن نعطي هذا الأديب الرائع اهتمامًا ولو على مستوى الكتابة الأكاديميّة، حول مسيرته الأدبيّة وإصداراته الأصيلة، واقبلوا الاحترام أوفره.
قدمت العريفة عدلة شداد خشيبون الأديب والإعلامي فهيم أبو ركن بقولها: هو شاعر وكاتب وإعلاميّ قدير، له عدّة إصدارات؛ بحر النّور، وشلّال شوق، وفي القدس العارية، وقصّة العبوة النّازفة. أدعوه لينزفَ لنا بكلماته الرّاقيات حول الشّموليّة في شعر أديبنا وشاعرنا عادل سالم.
مداخلة الأديب فهيم أبو ركن الشمولية في شعر عادل سالم: بداية أشكر القائمين على هذه الندوة الهامة، الشاعرة المتألقة آمال عوّاد رضون، والمحامي الأستاذ فؤاد نقارة، وعريفة الأمسية الكاتبة عدلة على التقديم الجميل. أقدّمُ مداخلة في هذه الأمسية حول نتاج الكاتب الشاعر عادل سالم، تتطرّق إلى نواحٍ متنوّعة وشاملة لا يسمح الوقت في هذه الندوة الهامّة بتقديمها. ولهذا فقد اخترت أن ألقي الضوء على زوايا معيّنة، تعطينا فكرة موجزة عن شعر شاعرنا العزيز، فعندما قرأته، وجدتني أقرأ شعرًا منوّعًا شاملًا.
أوّلًا: يتناولُ مواضيع مختلفة من غزل ومشاعر إنسانيّة، وثورة ورفض الظلم، وتضامن مع الفقراء والأحرار. وثانيا: يوظف الشاعر أساليب منوّعة من حيث الشكل، إذ نجد القصيدة التقليديّة الموزونة المقفاة، ونجد قصيدة التفعيلة، والقصيدة الحرّة أو قصيدة النثر. وللقصيدة الناجحة ضلع ثالث عدا عن الشكل والموضوع، وهو اللغة، فاللغة لدى الشاعر عادل سالم سلسة متجانسة، لغة فصيحة تنساب برقّة وعذوبة، فتدخل القلب وتدغدغ المشاعر، وسأتحدث عن نماذج من القصائد التي اخترتها من ديوان “الحب والمطر”، عندما نبدأ نمخر عُباب الديوان نجد الشاعر يرتكز على عدة محاور، جاعلا المحور الرئيسي هو الشعور الإنسانيّ النبيل، فهو يتمرّد على الظلم ويتضامن مع الأحرار، فنسمعه يُمجّد ما قام به منتظر الزيدي فيقول: من يرفعْ في وجه الظلم حذاء / يبنِ الرب له قصرا في الجنة
إنّه يتضامن مع الأحرار وأحيانًا يُعاتبهم، فها هو يعاتب منتظر لأنه قبل بعد عدّة شهور أن يعتذر، ففي قصيدة تقليديّة موزونة مقفاة اعتمد فيها على بحر المتدارك، أو الذي يسمى عندما يصيبه الخبن الخبب يقول: لو كنت مكانك منتظرُ/ ما كنت لأقبل أعتذرُ/ فحذاؤك أصبح قنبلةً/ في وجه الظلم ستنفجرُ/ علَمٌ مرفوعٌ للأعلى/ في كل مكان ينتشرُ/ وستصبح في الدنيا مثلًا/ وشعوب الأرض ستعتبرُ.
إنّها نبوءة الشاعر، فحقا أصبح منتظر مثلًا وقدوة، حذا حذوها العديد ممّن أرادوا التعبير عن سخطهم وغضبهم واحتقارهم لمسؤول معيّن، كما إنّ الشاعر يتألم للوضع الذي وصل إليه الفلسطينيّون من تشرذم وانشقاق ويكتب في قائلًا: إلى الإخوة الأعداء في فتح وحماس/ السبت ١٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧: يتصارعون كأنهم أعداء/ ما عاد ينفع دعوة ونداء/ دم الأخوة يستباح بلحظة/ وعلى الحدود تكاثر الأعداء/ لكم استباحوا غزة في عِرضها/ فحماس عندهم وفتح سواءُ/ وشقيقها بالخزي غطى وجهه/ ما عاد يسري في العروق دماء/ صبرا على الآلام غزة هاشم/ فعقوق اخوتك الكبار بلاء
لقد عانى الشاعر من السجن وما زال يعاني من الغربة وفراق الأحباب وهي أقسى المشاعرِ الإنسانية التي تجعل العيون تدمع، وهذا يظهر في شعره في قصائد كاملة وفي أبيات من قصائد، وفي كلمات تتكرر؛ مثل البعد، الفراق، الذكرى، التساؤل عن الأحبة، والزمن الذي يمر ولا يعود، الهجران وغيرها من العبارات التي تنشر جوا من اللوعة ومسحة من الحزن والحنين إلى الوطن والتي يشعر بها القارئ دون عناء: إن الفراق عن الأحبة موجع/ ولذكر من أهوى عيوني تدمعُ/ الذكريات تثيرني وتهزني/ يا موطن الأحباب إنك أروعُ/ ما لي أرى الأيامَ بعدك مرة/ وبطيئة في مشيها تتمنعُ/ وأرى السنين قصيرة في حيكم/ والعام في حضن الحبايب يسرع/ عام كثانيةٍ يمُرُّ بخفة/ ما عاد يرويني ثوانٍ تهرعُ/ زمن مضى في غفلة من حبنا/ يا ليت للماضي زماني يرجعُ/ لكنه باب وحبِّك مقفلٌ/ مهما نحاول فتحه فسنُردعُ / تلك الحياة فلا أمان بظلها/ يوم يفَرّحُنا وآخر يفجعُ/ واعلم إذا حلت بروحك أنَّةُ/ بعد المصائب فرحة تتجمعُ (آذار ٢٠٠٦)
ميزة أخرى في شعر الأستاذ عادل سالم وهي النَّفَس المَلحميّ: ما عاد الحُبُّ خيارًا في وطني/ عام 2008: نُبئتُ صباح اليوم/ بأن أفاعي البرّ/ وأسماك القرش البحري/ حصدت بعض النسوة/ قد كنّ إذا جاء الليل/ يَبحَثن ببعض أزقّة غزة/ عن حبة قمح/ سقطت عفوًا/ من منقار الطير الهارب/ من صياد/ يُطعمْن بها/ أطفالًا من جوع البطن يئنّون/ يا ربّ الكون أعنّي/ فأنا مقهور/ ألهمني الصبر وسامحني/ فأنا نسرٌ بجناح مكسور/ لا أعرف إن كنت المهزوم/ أم أني المنصور/ لا أدري إن كنت الظالم أم أني المغدور/ فأنا وطن مسلوب/ بين الإخوة مشطور!
ليس بغريب هذا النفس الملحميّ، فشاعرنا روائيّ ناجح، وهذا يدلّ على أنّه مبدع حقيقيّ شامل، وككلّ شاعر لا بدّ للغزل والحبّ من أن يحتلّ مساحة من شعره، غير أنّ الشاعر عادل في شعره الغزليّ هو ذاك المحبُّ الولهان الذي تخرج كلماته منسابة رقراقة، ففي ديوان الحب والمطر الذي صدرَ قريبًا يقول عام 2007: أنسيت فاتنتي الجميلة؟/ أو تسأليني من أنا؟!/ وكأن قصة حبنا/ كانت سرابا/ أنسيت أول قبلة/ في غفلة؟/ ضحكت شفاهك خلسة/ وعيونك السمراء تقتلني عتابا/ أنسيت فاتنتي الجميلة؟/ في غرفة التدريس حين عيوننا/ رسمت على حيطانها/ قصصا نبيلةْ/ أنسيت أستاذ الأدبْ؟/ وشعاره الحب أغلى من ذهبْ/ ضحك الجميع حبيبتي/ إلا أنا/ قلبي من الفرح انطرب/ أنسيت أستاذ العلوم؟/ وكل شيء لا يدوم/ فكتبتِ لي/ إلا الهوى/ هبة السماء ونعمة الرب العظيم/ أنسيتِ ألف رسالةٍ/ في الحبْ؟/ عيناي قد بعثت بها/ والقلبْ/ والحاسدون بنارهم/ يجنون ما حسدوا/ ما أعدلكْ/ يا ربْ.
ومسك الختام أسجّل إعجابي بهذه المشاعر الإنسانيّة الجيّاشة التي عبر عنها أجمل تعبير، في قصيدة رائعة تنبذ التعصّب باسم الدين، وتدعو إلى المحبّة التي لا تعرف حدودًا طائفيّة، عرقيّة، دينيّة أو قوميّة، واقتبس: فالكل ينادي باسمك يا ربْ!/ باسمك يصدر كل الناس فتاواهم/ باسمك تشتعل الأحقاد/ باسمك نقرأ أشعار الحب!/ باسمك يعتصم الخائف/ باسمك يمطرنا الأعداء قذائف/ باسمك نعلن وحدتنا بالطائف!/ باسمك يا ربّي/ نتفرّق أحزابًا وجماعات وطوائف/ سنيّ، شيعيّ، وهّابيّ، إخوانيّ/ أميركيّ، سوريّ، إيرانيّ إسلاميّ، علمانيّ/ نصرانيّ، شرقيّ، غربيّ/ كرديّ، قبطيّ، عربيّ/ باسمك يقتتل الإخوة!/ باسمك نصبح أبطالًا ورجالًا/ وغدًا قد نصبح نسوة/ باسمك نغتال الأحلام!/ باسمك نأكل أموال الأيتام!/ باسمك نشرب كأس هزيمتنا/ باسمك ننحر رأس عروبتنا/ ما عدنا يا ربّ نميز/ بين عقارب ساعتنا/ وعقارب هذي الأرض!/ لا نعرف أين مدينتنا/ ما بين خطوط الطول/ وخطوط العرض!/ صَمَت الشعراء وما عادوا/ في الشّعر يجيدون القَرضَ/ سكتت في الحرب مدافعنا/ وحناجرنا/ لكن لم يتوقف/ قلب الناس عن النبض/ فليشرع كل الناس محبتهم/ في وجه الحقد ووجه البغض/ لا يملك سلطان فينا حق الأمر وحق النقض/ فلنخلع كل ملابسنا السوداء/ والحقل الجاثم فينا/ من يرفض هذا العرْض؟/ ما عاد الحبّ خيارًا في وطني/ بل صار الفرض. كنتُ أودّ لو سمح لي الوقت أن ألقي الضوء على زوايا أخرى، ولكنّي ألتزم بالوقت وأكتفي ببعض هذه الإضاءات السريعة، متمنيًا لشاعرنا التوفيق والسعادة، شاكرًا حُسن الإصغاء، والسلام وعليكم ورحمة الله.
قدمت العريفة عدلة شدّاد خشيبون الكاتبة هيام أبو الزلف بقولها: تعشق اللغة العربيّة، ولها باعٌ طويل في تدريسها، عرفتها من خلال موقع ورقستان الأدبيّ، عشقت كتابتها ولغتها وإنسانيّتها التي تشمّها في كلّ نبرة حرف، فللحرف عندها صورة أخرى، ولها مجموعة قصائد ترقد على سرير الانتظار لغلاف يحتويها لتثرينا، فأشدّ على يدها أن تخطو تلك الخطوة، بمحبّة وصداقة غنية بالمحبّة أدعو الكاتبة الشّاعرة الأديبة الكرمليّة هيام أبو الزّلف لتقول كلمتها في أديبنا عادل سالم.
قراءة هيام أبو الزلف في رواية “عناق الأصابع”: أعزائي الحضور مع حفظ الألقاب والمقامات، والمحتفى به الأستاذ عادل سالم. بداية أودّ أن أوجّه شكري للشاعرة آمال عوّاد رضوان، من أوكلت إليّ مهمّة القيام بمداخلة، وبالتّالي كانت لي فرصَة قراءة رواية هذا الأديب الْفذّ “عناق الأصابع”، وقد غششت يا آمال، وقرأت أيضًا المجموعة القصصيّة “الرّصاصة الأخيرة”. أكملت قراءة الرّواية بصيغتها الإلكترونيّة خلال يومين، وسارعت بعدها إلى إغلاق صفحاتها، حتى لا أقرأ ملحق المقالات حولها، فقد أردت أن أكتب مداخلتي دون التأثّر بسواي، وقبل الشّروع في القراءة، كان لا بدّ من الوقوف على عتبة الرّواية، ألا وهي العنوان الّذي أثار دهشتي وفضولي “عناق الأصابع”. ماذا يكون عناق الأصابع غيرَ لقاءٍ قصير مسروق من زمن، يضنّ حتّى على الأكفّ أن تهجع في حضنِ الأكف؟ ماذا يكون غير عناق يمنح بعض العزاء.. لكنه يزيد الحرمان وطأة؟
ها هو يؤكّد تخميني ص26 بقوله على لسان والدة المعتقل علي النجار: “قبّل إصبعي من شبَك القُضبان، وشدّ على أصابع والدِه، لم أستطعْ عناقَه. أصابعنا فقط هي الّتي تعانقت. قبّلها مراتٍ لا أعرفُ عددَها. وفي ص31: “ما أروع أن تتعانق الأصابع بعد غيابٍ طويل. خارج القضبان ليس لها معنًى. ولكن للّذين تفصل القضبانُ بينهم، فللأصابعِ إحساسٌ غريب. من خلالها يتصل الأسير بمن هم خلف القُضبان ومن خلالها يرتبط بالعالم الخارجيّ”.
وهنالك أمثلة أخرى رائعة الوصف حول عناق الأصابع، خاصّة ما باحت به خولة الصحفيّة الّتي وجدت قلبها مشغولا بعليّ، الّذي بادلها الحبَّ هو الآخر. بعد العنوان كان هنالك أمر آخر لافتٌ وهو الإهداء، فقد اختار الكاتب معلّميه ليهديهم روايتَه الأولى، وذكر أسماء الكثيرين منهم معتذرًا ممّن لم تسعفْه الذّاكرة في تذكّر أسمائهم. إنّه وفاء ندر مثله، يجعل من مصاعب التعليم والتربية أمرًا محمولًا وحتّى مقدورًا عليه. ثمّ قدّم المؤلف للرواية بتنويه قصير قائلا: “إنّها ملحمة تاريخيّة تصوّر حياة الأسرى الفلسطينيين والعرب، في سجون الاحتلال الصّهيوني الْبغيض. غالبيّة أحداثِها وشخصيّاتِها حقيقيّة، عانت من السجن وقيد السّجّان، لكن بعض الشخصيّات الأساسيّة في النصّ من خيال المؤلّف، اقتضتها ظروف العمل الفنيّ، فإن تطابقت مع أسماء موجودة على الأرض، فهي مجرّد صدفة. عناق الأصابع ترصدُ بطولاتِ الأسرى ولحظاتِ ضعفهم، وتكشف ما يجول بأفكارهم، وأحلامهم وقلوبهم، وقصصَ عشقهم بقالب أدبيّ بعيد عن الخطاب السّياسيّ”.
إنّ الرواية ترصد أحوال العائلات من آباء وأمّهات وإخوة وأخوات، وتصف معاناة الانتظار وإذلال منظومة الاحتلال المتعمّد لهم، كلّما همّوا بزيارة أعزائهم، فتصف التنسيق بين الأسرى والأهالي ليتم الحراك الجماهيريّ، وتتطرّق إلى دور المرأة الفلسطينيّة المقدّس كأمّ وأخت وحبيبة ومناضلة في سبيل الحياة، فالمرأة تصنع الحياة، وهي الأشرس في الدّفاع عنها، تنقل إلى القارئ عقليّة المجتمع المحافظ والصّراع بين هذه العقلية وبين الأفكار الجديدة الّتي لا بد منها للنهوض بالمجتمع، فلا يمكن مناهضة الاحتلال بعقليّة تقمع المرأة، ولا يمكن أن تتحرّر الأمّة دون تحرر الأمّ. ولا يمكن أن نفكّر بمعيار وننهج بآخر.
كتبت الرواية بترتيب زمنيّ متصاعد، لكن الرّاوي استخدم الحوار والفلاش باك الاسترجاع الفنيّ للعودة إلى الماضي، في سبيل توضيح الحاضر. فمثلا ص306 عن طريق تذكّر رحاب لولادة ابنها عليّ الّذي أسمته فخرًا بأخيها المناضل المعتقل، نعرف أنها قد تزوّجت وأنجبت من فلاديمير الرّوسي الدّاعم للقضيّة الفلسطينيّة المحبّ لرموز نضالها، فالراوي كان عليمًا، إذ وصف ما يعتمل في أذهان الشّخصيات في أحايين كثيرة، كما في ص38: (جلست خولة في الحافلة إلى جانب أم السّعيد -أي أم علي حبيب خولة المعتقل- وهي تتصوّر عليًّا أمامها باسمًا رافعًا قبضته، ملوّحا بإشارة النّصر. كانت تتمتم لنفسها: أسرى يرفعون شارة النّصر، وحكّام دول يوقّعون وثائق الاستسلام، كم نحن بحاجة إلى تلك الرّوح العالية! كم نحن بحاجة إلى هؤلاء. ويقول الرواي: “لعله من المناسب التطرّق إلى شخصيّة رحاب الّتي ساعدتها الغربة على اختصار الفجوة بين النظريّة والتطبيق، فرحاب هذه بأفكارِها النّسويّة يغيظها أن يكيل المجتمع بمكيالين، كأن يرضى بزواج الفلسطينيّ من أجنبيّات، ويضنّ على الفلسطينيّات الزواج من أجانب حتّى لو أشهروا إسلامهم. كما يغيظها أن يتبجّحوا بإسلامهم، لكنهم في الغربة يتنكّرون في نهجهم للإسلام، فيشربون الخمر ويفطرون في رمضان. هنا يمكن التطرق إلى شخصيّة خولة الصّحفيّة الّتي ناضلت على طريقتها، وأوصلت إلى الرأي العام العالميّ صوت الأسير الّذي يناضل من أجل حقوقه الرّئيسة، وساهمت هي ورحاب التي درست الصحافة هي الأخرى في فضح أساليب القمع من الآلة العسكريّة. يمكن القول إنّ النضال من أجل القضيّة لا يمكن أن يطير بجناح واحد، خاصّة حين تكون المرأة بثقافة ومهنيّة خولة ورحاب. ماذا كنت ستقول أديبَنا في أحداث القدس الآنيّة، وفيمن يتركون المسجد الأقصى على كاهل الفلسطينيين لوحدهم، وسكّان القدس بالذّات؟ ماذا كنت ستقول عن حكام المنظومات الّتي يقال لها دول عربيّة؟ بخيانتها لقضايا الشعوب وسقوط عورتها سياسيا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، حتى أنّها تجاهر بأن الطريق إلى أمريكا يمرّ عبر إسرائيل ورضاها؟ لماذا يجب أن نعتاد على (تمسحة) المنظومات العربيّة تجاه ما جرى في الماضي من ممارسات ضدّ أهالينا، من إحراق للمسجد الأقصى، وإعدام الفتى أبو خضير بطريقة تقشعرّ لها الأبدان ومن إحراق عائلة الدّوابشة، ومن العدوان على غزّة الّتي قدّمت آلاف الضّحايا منهم ما يزيد عن 500 طفل؟ لماذا لا يفعلون شيئا سوى الجعجعة دون طحن، حيال ما يجري في شعفاط والعيسويّة وعناتا وراس العامود، وأبو ديس وعقبة الخالدية؟ لماذا لم يفتحوا الحدود للمهجرين السوريين؟ إن ثروة الوليد بن طلال لوحده كفيله بوضع حدّ لمعاناتهم. روايتك اديبنا ما زالت-مع الأسف- أكتواليّة وما زال الواقع يضيف إلى فصولها الخمسين فصولا تشهد على المراوحة في المكان.. لا بل على التقهقر.
أمّا عن لغة الرّواية، فقد وظّف الأستاذ عادل سلام اللغة العاميّة أحيانا خاصّة في التحايا والدعاء (الله يصبحك بالخير خالتي أم السّعيد. الله يقوّيك يا رب على أعدائك. تمنّيت لو أنا ولا هو.) هذه اللغة العاميّة وكذلك اللغة الوسطى، تشي بذكاء الكاتب، فقد أراد لروايته أن تكون وثيقة أيضًا للمتعلقات الحضاريّة والاجتماعيّة لمجتمعنا الفلسطينيّ، وقد كان بإمكانه استخدام اللغة الفصحى هو الّذي أمتعنا بجزالة لغته ونسيجها اللغويّ المتين على امتداد الرّواية. وقد استخدم الأستاذ عادل الحوار في أكثر من موضع، وخدم ذلك القارئ بأكثر من طريقة، فالحوار يشي بهويّة قائله وثقافته، فعن طريق الحوار قدّم لنا الكاتب شخصيّة أم سعيد النّمطيّة، وأم الأسير النمطيّة، وعن طريق الحوار كانت لنا استنتاجاتُنا حول خولة الصّحفية التي ربطت مصيرها بمصير علي المحكوم عليه بالسجن المؤبد، والتي قضت سني شبابها في انتظار خروجه في صفقة تبادل الأسرى. خولة الّتي ناضلت على طريقتها، وأوصلت إلى الرأي العام العالمي صوت الأسير الّذي يناضل من أجل حقوقه الرّئيسة، وساهمت هي ورحاب التي درست الصحافة هي الأخرى في فضح أساليب القمع من الآلة العسكريّة. يمكن القول أن النضال من أجل القضيّة لا يمكن أن يطير بجناح واحد، خاصّة عندما تكون المرأة في ثقافة ومهنيّة خولة ورحاب. الحوار ساهم في سدّ فجوات في النّص وأكمل الصورة، فحين يتمّ بين والد عليّ ووالدته وأشقائه سعيد وفريد وشقيقته رحاب، فإنه يبرز التآلف والتخالف فيما بينهم. فقسم منهم ذو تفكير تقليديّ نمطيّ، والآخر ذو أفكار تغلب عليها الحداثة. قسم له مرجعيّته الدينية والاجتماعية، وقسم مرجعيّته في تحقيق الذّات وحقوق الفرد والمساواة بين الجنسين.
وبالعودة إلى مضمون الرّواية، فقد ذكرت أنها كتبت بترتيب زمني تصاعديّ، لتوثّق أحداثًا مفصليّة عايشها أهلنا في فلسطين وفي الغربة، هذه الأحداث كانت أحيانَا نتيجة لنضال الأسرىن وأحيانًا هي السبب أيضًا في تحويل المناضلين إلى أسرى في سجون الاحتلال، فالتأثيرات متبادلة، ففي سجون الاحتلال يتقن الأسرى الالتفاف على السّجانين ومسؤولي السّجن، بطرق تنظيميّة ذكيّة لا تترك للمسؤولين المجال لدق الأسافين بين الأسرى، وبشكل يتيح التنسيق بين الأقسام والغرف المختلفة في السجن. وصف المؤلف برنامج الأسرى اليوميّ في السجون المختلفة، فسجن الرملة يتحوّل إلى مركز نقاهة بالقياس إلى سجن النفحة في النقب، كما ووصف أساليب التعذيب الجسديّة والمعنويّة التي كان ثمنها أحيانًا استشهاد بعض الأسرى، وهذا يفنّد ما تدّعيه إسرائيل، بأنّها تعامل الأسير بأكفّ من حرير. ففي ص136 يقول فريد شقيق عليّ: ألا يكفيهم جوعهم وعذابهم حتى يضربونهم؟ أيّ بشر هؤلاء؟ لا أدري كيف يهاجمون النّازيّة وهم يمارسون ممارساتها نفسها؟
وأبدي إعجابي بوصف فترة الإضراب عن الطعام وصفا دقيقا، وكيفية إرغام الأسرى على تناول الطعام بشكل قسري، عن طريق إدخال أنبوبة إلى معدة المضرب بطريقة مهينة ومؤلمة لا تخلو من الأخطار. كما يصف بلادة السجانين والمسؤولين وسخريتهم ومماطلتهم في علاج من يحتاج إلى إسعاف، ممّا يؤدّي إلى وفاة ذوي الأجسام الضّعيفة، هذا الإضراب الّذي نجحوا بفضله في تحسين ظروف سجن النفحة الرّهيب.
قدمت العريفة عدلة شداد خشيبون د. صالح عبود بقولها: معلّم لغة عربيّة قدير، يتناول النّصّ الأدبي من كافة نواحيه ويعطيه حقّه. هو شاعر له حسّ مرهف وجميل، ونفس رائع في الإلقاء، نتوق لنسمع كلمته في هذه النّدوة الجميلة. ادعو الدّكتور صالح عبّود ليتناول الواقعيّة في القصّة القصيرة عند أديبنا عادل سالم.
قراءة د. صالح عبود: بعنوان واقعيّةٌ في “الرّصاصةِ الأخيرةِ” للقاصِّ والأديبِ عادل سالم: يعتبرُ أديبُنا عادل سالم صاحِبَ باعٍ وَذِراعٍ وَحصونٍ وَقِلاعٍ في الكتابةِ القصصيّةِ القصيرةِ، وإنْ كانَ مُبدعًا ثَرِيًّا في غيرِها، أيِ القصّةِ القصيرةِ، ولا سيّما في الكتابةِ الرّوائيّةِ، فَإنّهُ برزَ في مادَّتهِ النّثريّةِ الجماليّةِ أيَّمَا بروزٍ، وَتبوَّأَ بِنشاطهِ الإبداعيِّ في مجالِ فنِّ القصّةِ القصيرةِ مكانًا عَلِيًّا.
كانتْ مجموعةُ “لعيون الكرتِ الأخضَر” هي فاتحةُ مجموعاتهِ القصصيّةِ القصيرةِ، إذ صَدرَتْ عامَ 2006، والَّتي بَشَّرت بولادةِ مجموعتهِ الثّانيةِ “ليش ليش يا جارة؟” خلالَ العامِ الّذي يليهِ 2007. وكانَ حَريصًا على الكتابةِ في مجالِ القصّةِ القصيرةِ حِرْصَهُ علَى الحياةِ، فَكتبَ وكتبَ، ودَوَّنَ وَدَوَّنَ، حتَّى كانَ العامُ ألفينِ واثنيْ عَشرَ بعدَ الميلادِ، عامًا تُغاثُ بهِ خِزانةُ عادل سالم ومكتبَتُهُ وَإرثُهُ في كتابةِ القصّةِ القصيرةِ، فقد صدرَ لهُ فيهِ ثَلاثُ مجموعاتٍ قصصيّةٍ أُولاها بعنوان: “يحكونَ فِي بِلادِنا”، ومجموعةٌ أخرَى بعنوان: “يومٌ ماطرٌ في مينيَا بُوليس”، وكانتْ ثالثةُ الأثافِي عندهُ مجموعةٌ قصصيّةٌ تضمُّ خمسةً وَثلاثينَ قصّةً قصيرةً جاءَتْ في حلَّةٍ رَشيقةٍ ممشُوقةٍ أهداها مُبدعُها: “إلى حَاراتِ، وَشوارعِ، وَأزقَّةِ القدسِ القديمَةِ، إِلى أولَى القِبْلَتَيْنِ، وَدُرَّةِ المَشْرِقَيْنِ”، وهوَ الّذي ولدتهُ أمُّه القدسُ بينَ كنيسةِ القيامةِ والمسجدِ الأقصَى في الفاتحِ منْ تَمّوزَ/ يوليو عامَ 1957 (سَبعةٍ وَخمسينَ وتسعمائَةٍ وألفٍ للميلاد)، وتلكَ كانت مجموعتُهُ “الرّصاصةُ الأخيرةُ”.
تصبو هذه الإطلالةُ الخجولةُ في عالمِ القصّةِ القصيرةِ لدَى أديبنا الفذِّ المحتفى بهِ عادل سالم، تصبو إلى الوقوف عند بعض ملامحِ الواقعيّة في تجربتهِ مع كتابة القصّة القصيرة، وتعالجُ هذهِ الورقةُ المقتضبةُ- وسامحَ اللهُ من كانَ سببًا في قِصرِ عُمرِها وتعجيلِ أجلِها- تلك الملامحَ من خلال نصٍّ قصصيٍّ يتيمٍ فاتحٍ في مجموعتهِ الحافلةِ بالمضامينِ الاجتماعيّةِ المؤرّقةِ الحارقةِ، والمضامينِ السياسيّةِ الموجعةِ، والمضامينِ الثّقافيّةِ المقلقةِ، وكلُّها حبَّاتُ لؤلؤٍ تنعقدُ جميعًا في عِقدِ مجموعةِ الرّصاصةِ الأخيرةِ.
تتصَدَّرُ قصّةُ “ثلاثِ أمّهاتٍ وطفلٍ واحدٍ” مجموعةَ الرصاصةِ الأخيرةِ، وهيَ قصّةٌ قاسيةٌ مَا أشدَّ لِقاءَها معَ قسوةِ التّقاليدِ والأعرافِ الاجتماعيّةِ المَقيتةِ الّتي أجهضَتْ سرَّ الحنانِ الأوحدِ، وَآيةَ الوجدانِ الأجْوَدِ، أيِ الأمومةَ، فالقصّةُ في فكرتها المركزيّةِ تنتهي في مستشفًى يُجري فيهِ أحمد عبد السلام قَسطرةً لِفتحِ شريانٍ قريبٍ من القلبِ، وزوجهُ ختامُ تسهرُ على حالِهِ وتنتظرُ له الشّفاءَ، وَهيَ وَزوجُهَا طريحُ الفِراشِ، يدينانِ بالفضلِ لطبيبٍ جرّاحٍ ماهرٍ لم يتركْ سَجيَّةً طَيِّبةً وَلا نَقيبةً ميمونةً إِلَّا جَمعَها إليْهِ، كان الطبيبُ الشّابُّ الوسيمُ واسمهُ أيّوبُ صالح طبيبًا معروفًا بمهارتهِ وطيبتهِ ومعاملتهِ الفريدةِ مع المرضَى، وكان أحمد عبد السلامْ أحدَ مرضَاهُ الّذين تكفَّل بمتابعتهمْ شخصيًّا، غَيرَ أنَّ الطّبيبَ أيّوبَ شعرَ وهوَ يقرأُ ملفَّ أحمدَ عبدِ السّلامِ أنَّ شيئًا مَا يتحرَّكُ في وجدانهِ، وَأنَّ صَوتًا عمرهُ عشراتُ السّنواتِ يُبْعَثُ فيهِ مِنْ جديدٍ.. لَقَدْ أدرَكَ الطّبيبُ أنّهُ يعالجُ رجلًا قدْ تبنَّاهُ حينَ كانَ طفلًا بوسنيًّا وَصَل البلادَ مع ثُلّةٍ منَ الأيتامِ البُشناقِ إلى دارٍ للأيتامِ، وَلَمَّا يبلغْ حينَها إلَّا أشهُرًا ثلاثةً، فمكثَ فيها ثَلاثةً أخرَى، إلى أنْ تبنّاهُ أحمدُ وزوجُهُ ختامُ، وكانَا لا يُنجبانِ أبناءً، وعاشَ في حضانتِهِما سنواتٍ أربعَ وسَمّيَاهُ وليدًا.. لكنَّ كثرةَ القيلِ والقالْ والجَوابِ والسّؤالْ حولَ هذا الطّفل الأشقرِ ذِي البَشَرَةِ المضيئَةِ قدْ أحاطَ ختامَ الأمَّ المُتَبنِّيةَ بِعلاماتِ استفهامٍ، وحاصرتْهَا بِسَبَبهِ أوهامُ النِّساءِ من جاراتِها وَمعارِفها اللّواتي لمْ يُذِقنها طعمَ الهناءِ بطفلٍ جميلٍ وسيمٍ تسطعُ البراءَةُ من جسدهِ الناصعِ الصّغيرِ، كانتْ أُختُها تُذَكّرها أنَّ التّبنّي حرامٌ في شرعِ المسلمينَ.. هكذَا يرصدُ عادلُ سالمْ موقفًا تعيشهُ أمٌّ تبحثُ عنِ رذَاذِ أمومةٍ فَتحرمُها التّقاليدُ الاجتماعيّةُ والدّينيّةُ منهُ، وَتُحيلها بعدَ الحياةِ إلى الجمودِ.. فكيفَ تستفيقُ الحياةُ في زحمةِ الموتِ إنْ فَضَّتِ الأمُّ بَكارةَ الأمومةِ وأحرَقتْها! جاءَ علَى لسانِ الأمِّ في القصّة ما يلي: “كّانَ منظرُهُ وهوَ يشربُ الحليبَ يدغدغُ فِيَّ عَواطفَ الأمومةِ.. لعنَ اللهُ كلامَ الناسِ، قتلوني بكلامِهِم، لمْ يتركونِي بحالِيْ.. كانتْ كلُّ منْ ترانِي تَرْمُقنِي بنظراتٍ عجيبةٍ كأنَّهَا تَسألُنِي كيفَ يكونُ ابنيْ أشقرَ؟ هَلْ هذا مِن زوجٍ سابقٍ؟ أمْ أنَّني…؟ لَعَنهمُ اللهُ.. لمْ يتركُوا كلمةً نابيَةً إلَّا وَألصقُوها بِي، حَتَّى أُمِّي كانتْ تقولُ لِي: اسمعِي يا ختامْ، إذا جِئْتِ لزيارَتِنا فَلَا تُحضِري وَليدَ معَكِ، وَلكنَّه ابنيْ يَا أُمِّي، فتَزِمُّ شَفَتيْهَا وَترُدُّ عَلَيَّ: مِنْ أَيْنَ ابنَكِ؟ نَحْنْ عارفِينْ البيرْ وَغطاه، وَلكنَّهُ ابنِيْ رَسْمِيًّا، فَتَردُّ أخْتِي بِعَصَبيَّةٍ: “لا تَبنِّي في الإِسلامِ، أمَّا زميلاتِي فِي العملِ، فقدْ كُنَّ يقُلْنَ لِي: هَلْ تعرفينَ منْ تكونُ أمُّهُ الحقيقيةُ؟ ألا يمكنُ أنْ يكونَ ابنًا لقيطًا؟ لماذَا تُسَلِّمهُ أمُّهُ للملْجَأِ؟ وَلَكنَّه طفلٌ بريءٌ، مَا ذنبُهُ؟ قَاومْتُهُمْ، لَمْ أَرُدَّ عليهِم.. لكنَّني بعدَ سنواتٍ انهارتْ كلُّ مقاومَةٍ لِي، كمَا ينهارُ جدارٌ كبيرٌ في يومٍ عاصفٍ، أوْ كما يسقطُ جسرٌ لمْ يَعُدْ يتحمَّلِ السيّاراتِ الّتي تسيرُ فوقَهُ معَ أنَّهُ تحمَّلَ أكثرَ منْهَا فِي سنواتٍ مضتْ”.
يعيشُ البطلُ الأيوبيُّ في قصّةِ “ثلاثِ أمّهاتٍ وطفلٍ واحدٍ” صراعًا مُرًّا عَلقَمًا، وَتبدو فيهِ دَماثتُهُ وأخلاقُهُ الرّفيعةُ وَحُبُّهُ للعطاءِ والإيثارِ دَواءً وَبَلسَمًا. تَذكَّر الطّبيبُ تلكَ اللّحظاتِ الخانقةِ الّتي عاشَها في طفولتِهِ، عندما كانَ اسمُهُ وليدْ، وهوَ اسمٌ يخترقُ ذاكرتَهُ المنسيَّةَ الهائِمةَ ويحترقُ بينَ دموعٍ وَرجاءٍ. كانتْ ذكرياتُهُ تضيقُ بهِ، تُزَاوِرُهُ عنِ السّكينةِ وَتغرسُ في ذاكرَتِهِ سِكّينَ الضّغينةِ، ها هوَ يستحضرُ لحظاتِهِ المبكيةَ الّي يصفها الرّاوي حين يقول: “شدَّ علَى قبضةِ يدهِ. ضربَ المكتبَ بقوّةٍ. الصورةُ بدأتْ تتّضحُ تدريجيًّا حتَّى أصبحَتْ واضحةَ المعالمِ، كمَا لوْ أنَّها حصلَتِ الآنَ.. كانَ يصرخُ باكيًا: لا تتركَانِي..لا أريدُ البقاءَ هنَا. خُذانِي معَكُمَا . أرجوكِ يا أمِّي، لَنْ أشاغِبَ بعدَ اليوم. لنْ أصرخَ. سأسْمَعُ كلامَكِ. بابا حبيبي.. أنَا أحبُّكَ يا بابا.. لا تتركْنِي. كانَ يشدُّ ببنطلونِ أبيهِ الّذي كانَ يبكِي لبُكَائِه، وَيمزِّقُ شعرَهُ، لكنَّهُ كانَ يختلِسُ النّظَرَاتِ لِزَوجَتِهِ ختامْ، كأنَّهُ يرجوهَا أنْ تعيدَ ابنَهُمَا إلى البيتِ، لكنَّها كانتْ حازمةً في مواقِفِهَا، ولمْ تذرِفْ دمعةً واحدةً علَى الرَغمِ منْ بُكائِهِ غَيْرِ المنقَطِعِ، وهيَ الّتي كانتْ تبكِي إنْ بكَى، وتسهرُ الليالِيَ الطَويلةَ على راحَتِهِ. لمْ يكنْ يعيْ لماذَا تغيَّرَتْ تُجَاهَهُ؟ أيعقلُ أنْ تتركَ الأمُّ ابنَهَا لأنَّهُ يضعُ يديهِ على كلِّ مَا يصادِفُهُ؟ كانَ مصدومًا غيرَ مصدِّقٍ أنَّ أمَّهُ بتلكَ القسوةِ، كأنَّ كلَّ كلماتِ الحبِّ الّتي سمِعَهَا منهَا كانتْ كذِبًا وَرياءً. كانتْ ماما خِتامْ تقولُ لهُ: سنعودُ إليكَ غدًا، لكنَّها لمْ تعدْ منذُ ذلكَ اليومِ”.
تكمنُ بطولةُ أيوبْ وتكتملُ ملامحُ أصالتهِ وطيبتهِ ورحمتهِ، معَ نهايةِ القصّةِ، إِذْ نراهُ يفتحُ ملفَّ أبيهِ أحمدَ ليوقّعَ فيهِ أمرَ تحريرهِ منَ المشفَى، فيوقِّعَ وهوَ مغلقٌ عينيهِ مُكَلِّمًا أبَاهُ بصوتٍ خافِتٍ: سَامحتُكَ.. سَامحْتُكِ.. اللهمَّ اغفرْ لي ما فعلاهُ معي.
ينتصرُ الحبُّ رغمَ شُقَّةِ الذّكرياتِ، وَألمِ الوَحدةِ، وظلمِ أقربِ النّاسِ لأقربِ النّاسِ إليهمْ.. الحبُّ هوَ الرّئيس: ولستُ أرَى السّعادةَ غَيرَ حبٍّ/ وإيثارُ النّفوسِ علَى النَفيسِ/ فلَا يُزريكَ لو عِشْتَ افْتِقَارًا/ إذَا مَا الحبُّ أسْــعَدَ للبَئيسِ/ أمَا واللهِ مَا في الدّينِ خيـرٌ/ إذَا خَلَتِ القُلوبُ منَ الرّئيسِ/ وَفَضْلُ الحبِّ فِي الأيّامِ يَزكُو/ كَغيثٍ جَـبَّ للعامِ النَّحيسِ/ فَإنَّ الحبَّ للسُّعداءِ هَدْيٌ/ كَما الشَّنَآنُ ذُرواتُ التَّعيسِ/ فَصاحِبْ إنْ أَلِفْتَ ولَا تَغُلَّ/ وَكُنْ إِلْفًا حَفيظًا للجَليسِ/ وَلَا يَنزْغَكَ شَنْءٌ أوْ عِتابٌ/ وَلَا تُبْدِلْ جَمـيلًا بالخَسيسِ/ لَعمرُكَ عَيشُكَ بالحبِّ مُنْدٍ/ عطاءً شَافِيًا لكَ كالقَليسِ
يتملّكُ القارئَ عندَ سياحَتهِ في مساراتِ القصِّ لدى أديبنَا العادلِ شعورٌ أنّه يسير ضمنَ تجربةٍ قصصيّةٍ، تقومُ أساسًا على رصد الواقعِ بِشَاكلةٍ، تستثمرُ المواقفَ الإنسانيّةَ الّتي يلتقيها القارئُ في وجدانهِ عميقًا، فيجدُ نفسَهُ متماهيًا معَ الآخرِ، أو مُنكِرًا ذاتَهُ وَشفيقًا، وما ذاكَ إلّا غيضٌ مِن فيوضاتِ وَحدةِ التّأثيرِ الّتي تنضويها الحَبكةُ المُحكمةُ في النّصِّ، إذْ يرافقُ ذلكَ شعورٌ قرائيٌّ يهيمنُ عليهِ، فيخضِعُهُ لقراءةٍ مغايرةٍ، تكاشفُهُ فيهَا لُغةٌ جديدةٌ وأساليبُ حديثةٌ وتِقنيّةٌ عاليةٌ في مناحِي السّردِ والانطواءِ في الواقعِ.
يمكنُ القولُ إنَّ الكاتبَ يعتمدُ التّعاملَ معَ اللّغةِ بطريقةٍ فريدةٍ تذهلُ القارئَ وتصفعُهُ مرّاتٍ بأكفِّ العِباراتِ والألفاظِ المَحشودةِ بإحكامٍ جميلٍ، فتوقِظُ فيهِ إحساسًا يُعيدُ للكلماتِ والسّياقِ أثرَهُما في نفسِ القارئِ وسلوكهِ، فتثيرُهُ رغمَ بساطتها، وَتثُورُ بِهِ رغمَ سُكونِها على واقعٍ ينبغي تغييرُهُ، كيْ تنطلقَ الرّصاصةُ الأخيرةُ، وتعلنَ موتَ الموتِ وبعثَ الحياةِ المنشودةِ في مجتمعٍ يَموتُ الحبُّ والسّلامُ وتُغتالُ الكرامةُ والمروءةُ فيهِ مع كلِّ صُبحٍ يتنفَّسْ. أشكركمْ جَزلًا وأدينُ لصبركمْ فَضْلًا.
جاء في كلمة المحامي حسن عبادي: تسعدُني المشاركة في هذه الأمسية الثقافيّة المميّزة للأديب عادل سالم، من على منصّة نادي حيفا الثقافيّ الذي تأسّس قبل حوالي خمسة أعوام، برعاية المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وبتركيز زميلي وأخي المحامي فؤاد نقارة، وقد بدأت الفكرة لمنتدى ثقافيّ لقراءة كتاب بالشهر، بعرافة الأديب الأستاذ فتحي فوراني، فقمنا حتى اليوم بقراءة ما يقارب الخمسين كتابًا، وتطوّرت لعقد أمسيات ثقافيّة لإشهار كتاب أو تكريم أديب، وأقمنا ما يزيد على المائة أمسية ثقافيّة، ومن ثمّ قمنا بإحياء منبر فصليٍّ للشعر (سوق عكاظ الحيفاويّ)، ليكون منبرًا شعريًّا ومنصّة لشعرائنا، مَن أصدرَ منهم ديوانًا أو لم يصدر، واللقاء الثاني سيعقد يوم الخميس 29 تشرين الأوّل من هذا العام 2015.
نحن اليوم بصدد تكريم الأديب عادل سالم، وهو بيننا حيٌّ يُرزَق بأوج عطائه، ونتمنّى لك العمر المديد والعطاء المزيد، فتكريم الأحياء في حياتهم أبلغ منه بعد وفاتهم، لكن هذا هو العرف الذي جرى بيننا، حتى عبّر الشاعر الفخر الرازي عن ذلك بقوله: والمرء ما دام حيا يُستهان به/ ويعظم الرزء فيه حين يفتقد. يأتي هذا التكريم للأحياء في حدّه الأدنى بالثناء العاطر والتوثيق، فالتوثيق هو أدنى مَراتب التكريم، وإن كان عندي أعلاها، لأنّه هو الذي يبقى، فمؤسّساتنا الثقافيّة تُكرّم مبدعينا بعد أن يكرّمهم التراب!؟ هنا احتفاليّة بذكرى رحيل فنان، وهناك تكريم لراحل ملأ الأرض والسماء شعرًا وجمالًا وبياضًا، وهي بلا شكّ لفتات جميلة، لمَن أفنَوْا حياتهم في سبيل الفن والإبداع شعرًا ونثرًا، مسرحًا وموسيقا، ولكن المؤلم أن نحتفي بهم أمواتا بعد تهميشهم أحياء، وكما يقول المثل الجزائري: عندما كان حيًّا كان يشتاق إلى ثمرة، وعندما مات غرسوا نخلة جنب قبره .
عادل كتب ديوانين شعريين؛ عاشق الأرض، ونداء من وراء القضبان. وانتقل ليكتب الرواية؛ قبلة الوداع الأخير، وعناق الأصابع، وعاشق على أسوار القدس، ومن ثمّ القصّة القصيرة؛ يحكون في بلادنا، وليش ليش يا جارة، ويوم ماطر في منيابوليس، ولعيون الكرت الأخضر. كما كتب عادل الدّراسات؛ أسرانا خلف القضبان، والطبقة العاملة الفلسطينيّة والحركة النقابيّة في الضفّة والقطاع من عام 1967 إلى 1987. وكتب المقالة الحرّة؛ نظرة على واقع العمّال العرب في إسرائيل 1996، وظاهرة العملاء العرب 1997، التي كسرت التابوات، وأثارت الجدل على الساحة المَحلّيّة، وأسّس “ديوان العرب”؛ موقعًا أدبيًّا في الشبكة العنكبوتيّة، أحد أهمّ المواقع البارزة في ساحة الإبداع العربيّ، وهو من روّاد أدب المهجر الحديث.
تميّز أدب المهجر القديم بالحنين والشعر الوطنيّ والتأمّل الحائر: التأمّل في النفس وخباياها وحقائقها، وفي الطبيعة وما ورائها، والحياة وأسرارها، والوجود وألغازه، والفناء والخلود، والجديد في هذا الطابع عندهم هو غلبته عليهم، واستغراقه لعقولهم وأفكارهم وكثرته في أدبهم، وعرضه بشكل جديد وأسلوب وصياغة رائعين، وقد كان لاغترابهم وحنينهم واصطدام روحيّتهم الشرقيّة بمادة الغرب أثرًا كبيرًا، فيما تولّد في نفوسهم من قلق روحيّ وحيرة نفسيّة، حيث دفعهم ذلك إلى هذا التأمّل في الحياة والوجود، كما جعلهم يهربون إلى الطبيعة ويلوذون بأحضانها.
أمّا أدب المهجر الحديث فيتميّز بتصوير الواقع الجديد بتحدّياته الصعبة، ورؤية الغرب والمهجر بمنظار شرقيّ “نوستالجي”: ليش احنا مش هون/ هناك والمفارقة بين الحياتين والوضعين، والتخبّطات وضياع البوصلة، كما نرى في “يوم ماطر في منيابوليس”، أو “لعيون الكرت الأخضر”، فيقول: سامحني يا ولدي/ أولادي الأعزاء، أحبائي/ إذا رن جرس الهاتف يوما، وكان على الخط الآخر صديق ينعي لكم أباكم في الغربة، فلا تحزنوا، ولا تبتئسوا. لا تشغلوا أنفسكم كثيرا بقبري، وأين سأدفن فكل القبور بعد الممات أوطان متشابهة، ولا يهم أين ترقد جثتي، لأن روحي ستلحق بكم أينما كنتم، لتدفع عنكم شرور هذا العالم المتحضر المؤمن بالحروب الحضارية، بعدما فشلتُ حيا في تأمين الحياة الكريمة لكم كما كنت أحلمها، وأراكم من خلالها. سامحوني، فلم أكن أعلم أنه حتى الأحلام الصغيرة أحيانا لا يستطيع الإنسان أن يترجمها إلى حقيقة. لم أكن أعلم أن الرياح تجري بعكس رغبة القوارب الصغيرة التي إن ابتعدت كثيرا عن الشاطئ، وضاعت في عرض البحر. كنت أعتقد أن من يجيد السباحة لا يخاف الماء، لكن لم أحسب حساب الأمواج العاتية، ولم أعرف من قبل أن البحر يثور بغير ميعاد، فيفتك بضيوفه، ومحبيه بدون رحمة. فسمك القرش يهاجم الشواطئ الهادئة، فيفتك بالمستحمين الأبرياء ويجعل نهارهم ليلا حالك السواد.
ولدي الحبيب، نور عيني، ها هي آلة الأورغ جالسة وحدها فوق قاعدتها السوداء، لا تجد في البيت من يعزف عليها لأن أصابع يديك غابت عنها، لم أتوقع أن يأتي يوم لا أجد مكانا لآلة عودك في السيارة التي نقلتني من ولاية إلى أخرى، فأهبه لصديق يزين فيه بيته، بعدما كان ينتظرك لتعزف عليه لحن الوفاء لأبيك الذي بالغ في أحلامه في هذه الدنيا. ممنوع أن نحلم في هذا العالم الذي تسيطر عليه المصالح، والعلاقات التجارية، ممنوع أن نطلق العنان لخيالنا، لأن خيال الشعراء غير مرغوب فيه في عالم المال والحروب، لأن القائمين عليها حولوا كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى، حتى الشعر والموسيقى والأدب، والفن والحب، فماذا تركوا لنا؟ يريدون تحريم الحب والأحلام والأماني. لا أريدك أن تنسى، إذا أتاك من ينعاني فلا تحمل عليه، ولا تحمله إثم نقل الخبر. ولا تزعل علي لأنني لم أترك لك أو لأخيك أي ميراث يساعدك في هذه الحياة، المليئة بالأخطار والمفاجآت المرعبة حتى يشتد عودك. لا تغضب لأنني لم أترك لك بيتا جميلا تسكن فيه مع أمك وأخويك، أو سيارة تنقلك إلى المدرسة. فقد تركت بدلا من ذلك الكثير من الهموم والمشاكل، والديون. وتركت لك بعض الأشعار لعلك إن كبرت تقرأها، وتغنيها بصوتك الجميل كما كنت تغني لي بابا فين. هل يكفي ما طبعته على خديك من قبلات منذ ولادتك حتى يوم وداعك؟ إن جاءك الناعي ولم ترني، فلن أكون بعيدا عنك. ستلاحقك روحي أينما كنت، ستسهر على راحتك، ستغني لك في أحلامك عندما تنام، أتذكر عندما كنت تنام على صدر أبيك أو أمك؟ ستبعد روحي عنك الأشباح المزعجة، ستقيك روحي حر شمس تموز عندما تلعب مع اخوتك في شوارع القدس العتيقة، ستكون روحي ظلك الذي لا يفارقك، ستصلي لك وتأخذ بيديك لعلها تساعدك في تحقيق أحلامك الصغيرة. لا تلمني على ما سهوت عنه، ولا على ما أخطأته، لعل حبي لك الواسع سعة هذا الكون يغفر لي، ولعلي أحظى ببعض حبك، فلن أزاحم أمك على كل الحب. ولعلك تحتفظ بخيالك الطفولي، بصورة والدك وهو يكيل لك القبلات بغير حساب. لا تقلق بصورة أبيك أيام الشباب، فلم تكن موجودا آنذاك، كنت ترفض المجيء، وتركتني أنتظرك عشرين عاما على أحر من الجمر، وعندما شرفتنا استقبلناك بالدموع، والفرح أفلا تغفر تلك الدموع لأبيك بعض تقصيره بحقك؟