نظريات علم التاريخ
ذكرنا فيما سبق اهمية دراسة التاريخ وابعاده الثلاث ونظرياته وفق المعتقد الديني وسنتحدث اليوم التدوين التاريخي من منطلقات جغرافية قومية اقتصادية سياسية.
الجغرافية القومية:
ظهرت في الساحة سمة جديدة في كتابات مؤرخي العصور الوسطى بتشكيل الدول في نطاق جغرافي معين واجتماع قومية موحدة في هذا النطاق الجغرافي وارتباطها بهوية موحدة. فبدأت الشعوب تؤرخ أو تصنع لنفسها سيرة تاريخية متميزة عن غيرها. فكل قومية أضحت تؤرخ لأحداث وحوادث متنوعة تخصهم وأهملوا تاريخ القوميات الأخرى.
فالدويلات الإيطالية على سبيل المثال في العصور الوسطى أرخ مؤرخيها حول قوة الإمبراطورية الرومانية العمارة الرومانية الشخصيات البارزة الأباطرة ومعاركهم في الاستيلاء على مستعمرات جديدة ودونوا انتصاراتهم بشي من الفخر والتفاخر بل أحيانا حولوا مساوئ بعض الأحداث الى حسنات، وأهملوا تاريخ البلاد الأخرى وأهملوا شعوب مستعمراتهم في بعض الاحيان.
عرف القرن الثامن عشر في دراسة علم التاريخ بعصر الاستنارة التنوير وعصر صناعة التاريخ حيث شهد ظهور فلاسفة ومؤرخين تبحث في الاحداث بنظره أعمق وأبعد عن التعصب الديني أو القومي ،وعملوا علي دراسة الفكر ونقدوا منهج اللاهوت السابق .ويعتبر الفيلسوف فرانسوا ماري دي فولتير 1649-1778م رائد هذه المدرسة العقلانية .وفي هذا الصدد كتابة الحروب وسيرة الاباطرة قائلا :” إن بعض المؤرخين يهتم بالحروب والمعاهدات ،ولكني بعد قراءة ما بين ثلاثة آلف … وبضع من المعاهدات لم أجد نفسي أكثر حكمة مما كنت قبلها ، حيث لم أتعرف إلا علي مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة ،وأي حكمة تكتسب من العلم بسيادة طاغية علي شعب بربري لاهم له الا أن يغزو ويدمر “
فالمؤرخ فولتير أنتهج منهجا جديدا في تحليل الفكر الانساني ومآثره وتاركا لنا خلاصة افكاره في كتابين عن حياة الملك شارل الثاني عشر 1731م وكتابة عصر لويس الرابع عشر 1751م وقد أكد كلا من المؤرخ أحمد صبحي (في كتابة فلسفة التاريخ )، والمؤرخ فولغين (في كتابة فلسفة الأنوار –ت. عبودي ) تفرد هذا المؤرخ بريادة هذه المدرسة ،ولقب بمؤرخ فرنسا الرسمي كما اوسمه الملك لويس الرابع عشر ، وبأنه أول من اعترف بفضل الحضارات العربية الاسلامية علي الحضارة الاوروبية ،وأكد علي الباحث ان يدرس الاقتصاد والثقافة والعادات الي جانب دراسة أخبار الملوك والبابوات .
الاقتصادية:
ظهرت نظرية تهتم بسلوك الفرد واحواله المعيشية وصراعه من أجل البقاء معتمدين في كتابة التاريخ على إدراك أسباب الصراع الاقتصادي الذي انبثقت عنه أحداث ناتجة عن صراع القوى المادية في مجتمع ما. ودراسة تاريخ الاقتصاد هو دراسة لتطور مجتمع ما عبر ثلاث مراحل وفق اساسيات سبل المعيشة والمصنفة من قبل بعض المؤرخين منهم المؤرخ يونس البطريق في كتابة (الاحداث الرئيسية في التطور الاقتصادي) الذي صنفها ب
1-المرحلة المتوحشة (الصيد واكتشاف النار)
2-المرحلة البربرية (مرحلة الزراعة وتربية الحيوانات)
3-مرحلة بداية الحضارات منذ الاستقرار وتقسيم العمل.
تبنى مؤرخو هذه النظرية دراسة وكتابة التاريخ على أنه شيء حي ينمو ويتطور مع الزمن من الولادة إلى النشأ إلى القمة إلى الانهيار. وتتخذ هذه النظرية في دراسة الوقائع التاريخية لحياة الشعوب على أساس حتمية الحياة حتمية البقاء. ومن مؤرخين هذه النظرة المؤرخ تونبي الذي أدرج هذه النظرية في كتابه (دراسة التاريخ). وكذلك المؤرخ جان جاك روسو1712-1779م الذي أكد على أهمية أثر البيئة في تطور البشر اجتماعيا واقتصاديا حضاريا، فأشار الي العوائق الطبيعية التي عرضت الانسان في البدايات كالجذب وغيره فأضطر الي التعاون مع غيره لممارسة الصيد وتريبة الحيوانات والزراعة من اجل القوت اليومي وبتطور الزمن ظهرت النزاعات الانانية كالاستحواذ والتملك.
وأول من تعرض لهذا الموضوع وهو دراسة الانسان من خلال علاقته بالمجتمع من المؤرخين العرب المؤرخ المغربي (ابن خلدون) في مقدمته. الذي تطلع إلى المجتمع من خلال الطفولة والشباب والهرم كما الدولة أيضا، من النمو إلى التطور إلى الازدهار إلى الاندحار. هذه النظرية لاقت قبول وأصبح لها مؤيدين وكذلك لاقت معارضة شديدة عند علماء التاريخ.
فينادي المؤرخون المؤيدون بدراسة تطور المجتمع اقتصاديا وأثره اجتماعيا وسياسيا من خلال دراسة التحولات في نظام المجتمع من مرحلة الي اخري او من نظام إلى نظام آخر على مر العصور. فالحضارات القديمة انتهت وأنهت معها نظام اقتصادي (نظام الرق) المعتمد على تطور الإنتاج الزراعي، وظهر نظام الأقطاع وانتشرت الإقطاعيات في الريف وتخصصت المدن في نشاطي التجارة والحرف. ومن النظام العيني إلى النظام الاقتصادي النقدي وظهور الرأسمالية.
وهذه الفترة ولد ما يعرف بالتاريخ الاقتصادي السياسي الذي نادى به بعض مفكرين أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر والذي كان نتاج تطور العلوم الأخرى التطبيقية والاكتشافات العلمية. فبرز البريطاني آدم سميث (1723-1790) (كتابة ثروة الأمم1776م) الذي أكد على أهمية العوامل الاقتصادية في سير التاريخ. وبحث في اسباب ثروة الأمم هادفا لإخضاع الوقائع الاقتصادية للمراقبة والتحليل بغية الوصول لحقيقه تأثر الامم بالتطور في نهضة العلوم. تأزمن ظهور التاريخ الاقتصادي السياسي في هذا مع تحقيق الوحدة الألمانية عام 1838 م،
ويعتبر المؤرخ إدوارد جيبون 1737-1794م حسب ما ورد في كتاب اسماعيل ياغي انه من أعظم مؤرخي العصر في علم التاريخ وتدريسه ويعد كتابة (تاريخ اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها 1776-1788م) من الكتب المتميزة والاكثر انتشارا وأعظم التواريخ حسب وصف المؤرخ والناقد هنري جونسون واعتقد ان هذه الصفة مبالغ فيها جدا من ناحية أعظم التواريخ لكن يعد جيبون من المهتمين بدراسة التطور الفكري ولم يكن من المتعصبين للمسيحية وهومن القلائل الذين كتبوا عن الاسلام بنطرة تحليلية بعيدة عن التعصب.
فالمؤرخ كارل ماركس اعتمد على المادية والمنطق، فهو يصدر نظريته بالبدء بدراسة تاريخية واضحة تكشف الطابع المادي للنظام الاجتماعي فالأفراد هم من يصنعون التاريخ في فكر ماركس بإنتاجيتهم. ويختلف معه (اميل دور كيم) باعتماده على المنطق والفلسفة والطريقة العلمية التحليلية في استقراء الحوادث. اما المفكر (هيجل) فيرى أن أي نظرية لا تعني شيئا إذا لم تدرس مراحلها مراحل التطور التاريخي لها. أما (هيرنشو) فيرى أن التاريخ يكسبنا تصورا صحيحا لما سيأتي بناء على ما مضى فيقول: “يمكن الانتفاع بالتاريخ في توسيع المدارك وتصويره ” والإنصاف في الحكم ووضع الأشخاص والحوادث في وضعها الصحيح وأن التاريخ حري بأن يكسبها تصور صحيحا لما هو عارض موقوف بالقياس إلى ما هو أبدي باق في حياة الإنسان.
ويتحتم علينا هنا أن نعرض أبرز المؤرخين الذين اهتموا وربطوا العوامل الاقتصادية وتطورها في سير التاريخ. منهم توماس روبرت مالتوس Maltous (1766-1836م) عالم الاقتصاد الإنجليزي الذي طالب الحكومة للتقليل من البطالة وايجاد حلول للركود الاقتصادي. وديفيد ديكارد 1772-1823م) باحث الاقتصاد الانجليزي الذي تكلم عن الاقتصاد وأثره على المجتمع من حيث تضخم العملة والأجور والضرائب، وجون ستيوارت ميل 1806-1873 الذي نشر كتابه الاول عام 1848 (مبادي الاقتصاد السياسي). وكارل ماركس Marx فيلسوف الشيوعية 1881-1883 م)، وكلا منهم له رأيه في النظام الاقتصادي وأثره على تاريخ المجتمعات فكارل ماركس اقترن اسمه بالتقليل الاقتصادي. حيث رأى أن التاريخ كله قصة كفاح بين طبقات السادة والعبيد ونادى بالاشتراكية التي سيعيش فيها المجتمع في رفاهية عامة.
ونستدل مما ورد من تحليل وتعليل لآراء الباحثين والمؤرخين أهمية الاقتصاد في سيرورة التاريخ وكتابته. فلا يمكن دراسة أي حدث أو ظاهرة اجتماعية أو سياسية دون الرجوع إلى تطور الفكر الاقتصادي. فعلى الباحث أن يلم بالعلوم الاقتصادية وتحديد مستوى الرخاء والفقر الانظمة والتشريعات الاقتصادية والسياسات الداخلية والخارجية لأي دولة.
فالمحرك الاقتصادي هو في طليعة العوامل التي تدفع الشعوب والحكومات إلى الحروب والهيمنة والاحتلال. وهذا الطرح المبسط قصدنا به أن البعد التاريخي للاقتصاد هو الذي دفع المؤرخين إلى ربط الاقتصاد بالتاريخ الخاضع لمنهج الفكر والتحليل. وجعلوا من الاقتصاد مادة تاريخية تساعد المؤرخ على دراسة أي حدث متزامن مع هذا التغيير الاقتصادي او بالعكس.
النظرية السياسية:
القرن التاسع عشر اعتمد عدد كبير من المفكرين والكتاب المناهج السياسية التاريخية او بمعني ادق تاريخ السياسة لمجتمع ما. على سبيل المثال لا الحصر. ادموند بيرك واتفق معه في ذلك مونتسيكو اللذان درسا الظواهر السياسية معتمدين على الطريقة التاريخية أو المنهج التاريخي. وكذلك العالم البريطاني هنري ماين الذي تبنى المذهب التاريخي وكذلك هيجل الالماني الذي اعتمد التاريخ كأساس لفلسفة شاملة تعتمد على تفسير التطور والنمو في مجالات الحياة للوصول للكمال وعرفت فلسفته بالفلسفة الكمالية. واكد من الممكن معرفة جوهر النشاط الانساني من خلال سياقه التاريخي، اي عندما تضعه في اطاره التاريخي أما ماركس فيعتبر التاريخ هو المجتمع في حالة سابقة وأن المجتمع الحالي ما هو إلا صورة لتاريخ الغد. وفرضيته تقوم على التطور الغير مقيد بحدود
الرأي الآخر المعارض لفلسفة التاريخ وعلى رأسهم رائد المدرسة الألمانية ليوبد لد قوت رانكة (1795-1886) في القرن ال 19 الذي أكد على أن يكون عمل المؤرخ في تصوير الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان ويستبعد التفاعل الإنساني
النظرية العلمية النقدية:
ظهرت الحاجة لبذل الجهد في تحديد التاريخ وقد تولدت عدة اعتبارات عملية وعدة ظروف التي طالبت بتوسع رقعة علم التاريخ، ونادت أراء بعض المفكرين لنقد المستندات السابقة، وبمنتصف القرن التاسع عشر بدأ علم التاريخ يتخذ أسلوبا وطريقة علمية. أما مؤيدي النظرة العلمية فهم يرون أن التاريخ علما كأي علم دقيق آخر وتأخذ الوقائع بتمامها وتداخل الأحداث المختلفة الحضارية الطبيعية المادية المدنية. وهذه النظرية وضعها لنا المؤرخ لونان دي تيامون (1637-1698م) ومعه المؤرخ شارل دو كانج (1610-1688م) الذي أغني علم الآثار والتاريخ بكثير من المساهمات الفعالة. وثم ظهر ريتشار د سيمون الذي طبع التفسير على المبادئ الجديدة وغيرهم.
والنظرة العلمية للتاريخ هي أشمل هذه النظريات جميعا، وإن كانت قد تعرضت كغيرها للنقد اللاذع. واختلف المؤرخون فيها فهناك من يعتقد أن حركة التاريخ حركة دائرية لا هدف لها وإنما صراع يتفاوت ما بين النصر والهزيمة. ومنهم قد اعتقد أن التاريخ هو توق الإنسان إلى الحرية مثل نظرة المؤرخ بنديتوكروس (ROSE) صاحب كتاب (التاريخ قصة الحرية) الذي أرخه عام 1913 هو عالم إيطالي (1800-1952). أما توماس كاولايد فنظر إلى التاريخ هو تمجيد الأفعال والسلوك: شخصنة التاريخ وهذا ظهر في كتابه (الأبطال وعبادة الأبطال).
وهنا نصل ان علم التاريخ علم تتركز عليه كل العلوم الأخرى وتتشابك معه وتتداخل، وتطور العلم التاريخي بتطور مناهجه وتطور الفكر الانساني وفق العديد من المعطيات المتأصلة والساندة له. هذا الفكر الذي نتج عنه اختلاف في المنهج والمادة والرؤى والعرض وفي المخرجات دراسية مكتوبة سالفة الذكر، إذا لنفهم حدث أو ظاهرة لابد أن نقف على ما يتصل بها من أفكار.
ملاحظة الحقيبة التاريخية علم التاريخ -عبارة عن أحد مشاركاتي في مؤتمر دولي.