عمر الكدي
[1]
بعد أن رسب في امتحانات الشهادة الإعدادية قرر صالح الشايبي الانضمام إلى القوات المسلحة.
رأى أبناء قريته، والقرى المجاورة يعودون إلى قراهم بملابس جديدة. جيوبهم مليئة النقود. تحيط معاصمهم الساعات، ورأهم يخرجون السجائر من علب كاملة، ويولعونها بولاعات مذهبة، وهكذا اقتفى أثرهم، وبيده طلب “أرجو قبولي”.
أقام بعد مرحلة الأساس في معسكر تاجوراء، وبعد عامين تمكن من شراء سيارة مستعملة من نوع داتسون 120 خضراء اللون، أخذ يجوب بها شوارع طرابلس، معاكساً الفتيات والنساء.
في أحد أيام عام 1972 تعقب سيدة في حي الأندلس ترتدي “فراشية” بيضاء تغطي كل جسدها، وحذاء بكعب عال أسود.
لم ير منها إلا أسفل ساقيها، وعين واحدة كبيرة مكحلة بأهداب طويلة، وحاجب أسود مرسوم بعناية.
أخرج رأسه من السيارة، وهو يقود بسرعة بطيئة: “غير عدّل علينا.. أنت يا سمح”.
لم تلتفت نحوه، ولم تعره أي انتباه. زاد في إلحاحه. كان يسرع كلما رأى أحداً في الطريق، ثم يعود ليواصل غزله دون أن يدري أنه كان يمر من أمام منزل الرائد الخويلدي الحميدي، عضو مجلس قيادة الثورة، ووزير الداخلية والحكم المحلي، وقائد مليشيات المقاومة الشعبية.
بعد أن مر للمرة الرابعة، أوقفه أربعة من حرس الوزير. اعتقد أنهم من أقارب السيدة، وقرر أن يريهم ” العين الحمراء”. أخرج هراوة من جانب الكرسي، واندفع نحوهم.
كانت السيدة قد وصلت. رآها تكشف عن وجهها الصبوح الغاضب، وتهز ذراعيها العبلاوين. رأى عنقها المرمري، وهي تهز رأسها :
” يعاكس فيا من نصف ساعة ما يستحيش”. رأى القرط يقع من أذنها اليمنى. عندما ألقوه أرضاً التقط القرط بيده اليسرى قبل أن يضعوا الأصفاد في يديه خلف ظهره.
خرج الوزير عندما سمع الجلبة. وقف عند أعلى السلم أمام مدخل الفيلا. كان يرتدي بدلة عربية بيضاء، ويضع على رأسه معرقة بيضاء، وقدميه في شبشب جلدي أسود، وأمر بإرساله إلى السجن.
في سجن الحصان الأسود الذي بني في العصر الاستعماري، وكان يعرف باسم سجن بورتا بينيتو” استلم شرطي متأفف كل ما كان في جيوب جندي أول صالح الشايبي.
عد النقود، وكتب على مظروف كبير أصفر 8,36 جنيه. ثم وضع فيه النقود، والبطاقة الشخصية، والبطاقة العسكرية، ورخصة القيادة، والحزام، وخيوط الحذاء، وقبل أن يضع القرط تفحصه بين أصابعه، وسأل صالح بهزة خفيفة من رأسه، وهو يرفع حاجبيه، فقال صالح: “للوالدة.. كان في التصليح”.
زم الشرطي شفتيه وألقى بالقرط في المظروف، ثم أغلقه بعد أن لعق طرفه بلسانه، وكتب على المظروف اسم الموقوف، وتاريخ اليوم والتوقيت.
في قسم الموقوفين انضم إلى أشخاص أوقفوا لأسباب مختلفة.
أربعة بسبب حوادث سيارات نتج عنها قتلى وجرحى لا يزالوا في غرف العناية الفائقة بالمستشفى المركزي.
رجل أسود قبض عليه في حالة سكر ظاهر، وسيفرج عنه في اليوم التالي بعد أن يجلد أربعين جلدة على ظهره في ميدان عام. كان يردد بين الفينة والأخرى “عادي.. عادي.. مش أول مرة”.
جاران تسببا في مشاجرة بين عائلتيهما شاركت فيها الزوجتان وكل الأولاد والبنات. كانا قد تصالحا بعد تدخل من بقية الموقوفين، وكانا يعبران عن ندمهما عندما وصل صالح.
قال أحدهما:” والله جيران مثل الإخوة من عشرين عام.. لكن الشيطان الله يبعده”. وعقب الثاني: “هذا اللي يسمع كلام النساوين.. يلقى نفسه في السجن”. قال السكير: “مش الشيطان .. العقارب دخلوا بينكم.. العقارب”.
رجل بوجه قاس ضرب آخر بعمود حديدي على رأسه. كان لا يزال يغلي: “والله نقتله”.
وتونسي تسلل عبر الحدود. كان منزوياً في إحدى الزوايا.
سألوا صالح عن سبب توقيفه. استحى أن يقول معاكسة، فقال “مشاجرة” وصمت.
في اليوم الثاني أُدخِلَ على مدير السجن. كان رجلاً ضخماً بكرش كبير، وذقن متهدل، وشارب خفيف. سأله عن سبب توقيفه، فحكى له القصة كاملة. لم يخف شيئا. قال له المقدم مدير السجن:” تأديبة.. عشرة أيام وتروح”.
مرت عشرة أيام ثم عشرة أيام، ثم شهران.
ذهب موقوفون، وجاء آخرون.
انتهى الربيع، وحل الصيف.
كتب مدير السجن عدة رسائل بشأنه إلى الوزارة، ولم يتلق ردا.
اتصل عدة مرات بمكتب الوزير. في آخر اتصال قال له مدير مكتب الوزير: “شنو أنت رافعه على ظهرك؟”.
لاحظ مدير السجن أن حالته النفسية قد ساءت، فهو لا حر، ولا سجين.
يأتي الموقوفون، ويغادرون وهو ينتظر.
أشفق عليه، وعرض عليه أن يغادر قسم الموقوفين، وينضم إلى السجناء. وافق على الفور.
في ساحة السجن التقى بشاب من قرية مجاورة لقريته، كان زميله في نفس الفصل في المرحلة الابتدائية، وكان قد اختفى منذ انضمامه لحزب التحرير الإسلامي. بعد أن سمع منه قصته عرض عليه أن يقيم معه في العنبر الخاص بالحزب.
لم يعترض أمير الجماعة، حتى وهو يرى صالح مجرد جاسوس صغير سينقل أخبارهم إلى الحكومة.
بعد أن انصرف صالح حك أمير الجماعة ذقنه، وقال لمن حوله من الأفضل أن يعرفوا أخبارنا، والأخطر هو أن لا يعرفوا.
كان العنبر نظيفاً مرتبا، وكان أعضاء الحزب في منتهى البساطة والأناقة، وهم يرتدون ملابس شديدة البياض، ويضعون فوق رؤوسهم شالات بيضاء، وكانت لحاهم قصيرة مشذبة بعناية، وكانوا يتسوكون باستمرار، وتضوع من أبدانهم وثيابهم رائحة المسك، وكانوا يتحدثون بصوت خافت، وبكلمات مهذبة.
انبهر صالح ببيئته الجديدة، ملاحظاً الفرق بين عنبره الجديد، وعنبره القديم العابق بروائح الجنود الحامضة.
عندما عرف أمير الجماعة كل قصته بالتفاصيل. قال له ستنال الشهادة الإعدادية هذا العام معنا، ومنذ ذلك اليوم صار صالح يتلقى الدروس من أعضاء الحزب، وعندما حل شهر رمضان التزم بكل واجبات بقية الأعضاء، وفي ليلة القدر، وبعد أن ختموا القرآن في صلاة القيام، وانتهوا من التسابيح والدعاء. جلس صالح أمام الأمير، وقد تحلق حوله بقية الأعضاء، وعمدوه عضواً جديداً في حزب التحرير الإسلامي المحظور.
[2]
قبيل عيد الفطر تمكنت عائلته من معرفة مكانه، وفي ثالث يوم العيد أحضر أحد أقرباءه أباه وأمه من القرية في سيارته. تركهما أمام بيت الوزير وانصرف.
قابلهما الوزير في المربوعة، وعندما شرحا له المشكلة، ضرب الوزير جبهته بباطن كفه، وتذكر الشاب الذي أمر بسجنه منذ عدة أشهر. وعدهما بإطلاق سراحه، فانصرفا وهما يدعوان له بالصحة وطول العمر.
بعد العيد طلب الوزير ملف صالح الشايبي، وعندما وجده قد انضم لحزب التحرير الإسلامي رمى بالملف فوق مكتبه وقال:” اجعلنه ما طلع”.
نال صالح الشهادة الإعدادية. في تلك الأثناء علم مدير السجن سبب عدم الإفراج عن صالح، فاستدعاه إلى مكتبه، وأخبره بالأمر. عاد إلى العنبر. جمع أغراضه، وانتقل إلى عنبر الأمازيغ. كان يعرف عدداً منهم لأن قريته قريبة من قرى الأمازيغ، وهكذا وجد نفسه في سرير يقع بين سرير السيفاو، وسرير عريبي.
السيفاو يميل إلى القصر، بجسم لحيم، ورأس كبير، ويحتل ربع وجهه شارب كث، ويظلل عينيه الواسعتين حاجبان كثان، ومن كل أنحاء جسمه يخرج شعر غزير، حتى أن ساعته اختفت تحت شعر معصمه، وكان عليه أن ينفخ على معصمه كلما أراد معرفة الوقت، أما عريبي فعلى النقيض من ذلك، نحيل وأمرد بالرغم من أنه في نفس عمر السيفاو.
مع الأمازيغ تحصل صالح على الشهادة الثانوية، وتعلم منهم اللغة الأمازيغية. كانوا يعلمونه لغتهم بصبر، وهم يخبرونه أنه أمازيغي مستعرب، وأنه يعود الآن مرة أخرى إلى جذوره.
كان يطيب له التندر على السيفاو وعريبي. يقول إنه لا يوجد عدل في الدنيا، والدليل هو السيفاو وعريبي، ويستهدف السيفاو بنكاته، فيقول إن السيفاو عندما ولد ظنوه قنفذا، وأن السيفاو إذا عطس تخرج سحابة من الشعر، وإذا أطلق الريح تخرج “باروكة”.
يضحك الجميع بما في ذلك السيفاو الذي يردد بالأمازيغية: “الله يسامحك يا خالي صالح”.
لم تكن هناك إمكانية لمواصلة دراسته الجامعية، وبعد أن تعرف على الشيوعيين، الذين كانوا بارعين في اللغات الأجنبية، ويعلمونها لبعضهم، طلب منهم تعليمه اللغة الإنجليزية.
وافقوا على الفور، وهكذا اندمج في عوالمهم، وانتهى به الأمر إلى الانتقال إلى عنبرهم.
كان مدير السجن الذي احتفظ معه بعلاقة دافئة يضحك بشدة كلما رآه مع الشيوعيين، ويقول له: “شنو يا صالح تبي تكفر بعد ما استسلمت؟”.
لم يتعلم الإنجليزية فحسب، بل تعلم أيضا الفرنسية و الإيطالية. وكان يتحدث يومياً معهم بهذه اللغات، بالإضافة إلى الأمازيغية مع أحد الشيوعيين الأمازيغ.
انبهر بعالمهم الغني. شعراء وقصاصون. نقاد، وكتاب، ومسرحيون. يقضون الليل في مناقشات طويلة. يحللون الأوضاع السياسية الداخلية، والعربية، والعالمية بطريقة أخاذة أجبرته على استخدام مناطق في عقله كانت عاطلة عن العمل، ولأول مرة تعلم كيف يفكر.
كانوا أيضا يستمعون باهتمام شديد للنصوص الجديدة، ثم يحللونها بطرق عقلانية لم يتعودها في حياته، وفجأة ينفجرون بالرقص والغناء.
كانوا يحفظون كل أغاني فيروز، أما أغنية “خبطة آدم “فكانت واسطة العقد. ينشدوها وهم متحلقون، بينما يخبطون الأرض بأقدامهم.
استهوته شخصية “سعدون” الذي كان نشطاً في المنظمات التروتسكية أثناء دراسته للهندسة المعمارية في إيطاليا، وله علاقات واسعة مع التروتسكيين في أمريكا اللاتينية، ومع جورج حبش. وكان قد عاد ليقدم التهاني بقيام “الثورة” في ليبيا، فاعتقل منذ ذلك الحين.. في السجن أصيب بالاكتئاب، وتطور المرض إلى فصام في الشخصية.. كانت نوبات الفصام تأتيه متقطعة. مرة كل شهرين أو ثلاثة، فيرتدي “روب” أحمر مخطط بالأسود، ويتكلم دون انقطاع، والزبد يخرج من ركني فمه، بينما يمسح صلعته الصغيرة المدورة بيده. يتذكر بالتفصيل صفحات من كتب قرأها قبل سنوات باللغة الايطالية، أو الاسبانية، أو العربية. يتذكر محادثات ومناقشات طويلة مع جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وطلاب جامعيين صاروا فيما بعد أعضاء في منظمة بادر ما ينهوف، والألوية الحمراء.
في مطلع الثمانينات نُقلوا إلى سجن بوسليم. في السجن الجديد الذي بنته “الثورة”، اختفى رجال الشرطة المحترفون، الذين كانوا يقدرون السجناء السياسيين، وحل محلهم جنود من الشرطة العسكرية، أغلبهم من قبائل بدوية متحالفة مع قبيلة “قائد الثورة”، كانوا يحملون حقداً شخصياً على كل السجناء، وكانوا يحقدون أكثر على الشيوعيين باعتبارهم “كفار”، كانوا يصفعونهم، ويضربونهم بالعصي، وبخراطيم بلاستيكية، ويشتمونهم صباحاً مساء، وكانوا يقسون بشكل خاص على شاعر من مدينة طرابلس القديمة، بسبب عدم انتمائه لأي قبيلة، كانوا يستغربون كيف يكون المرء دون قبيلة، لذلك كانوا يقولون له:” حتى الكلاب عندها قبائل.. يا كلب”.
اختفت الراديوهات والتلفزيونات، والجرائد والمجلات والكتب، وأصبحت جميعها أشياء محظورة، وكان ذلك أقسى شيء يتعرض له نزلاء عنبر الشيوعيين.
أما أقسى شيء تعرض له كل السجناء فهو منع الزيارات، ومنذ ذلك الوقت لم ير صالح الشايبي والديه حتى وصله نعيهما، بعد فترة طويلة من وفاتهما.
كانت النوافذ ضيقة وعالية في السجن الجديد، وكان الصيف يمر على السجناء ثقيلاً وقاسيا، وقد تحولت العنابر إلى جحيم، الأمر الذي جعل السجناء يقفون بالتناوب ليطالوا النوافذ العالية، في محاولة لاستنشاق نسيم يأنف الدخول إلى عنبرهم.
في إحدى الليالي الحارة علق صالح: “فاشيو ايطاليا الذين بنوا سجن الحصان الأسود أكثر رحمة من ثوار الفاتح من سبتمبر”. ضحك سعدون بشدة وهو يقول: “الولد أصبح مثقفا”. بالفعل ذلك ما حدث مع صالح، فبعد فترة من الضياع في أدغال الشيوعيين بدأ يتلمس طريقه.
كان الفضل لمرشده الذي كان يحتل السرير المجاور لسريره، والذي اعتقل وهو يدرس الفلسفة في كلية الآداب في جامعة بنغازي، والذي تفجرت موهبته المسرحية مبكرا، تلك الموهبة التي قادته مبكراً أيضاً إلى السجون لمدة تزيد على اثني عشر عاما. كان يقول لصالح هؤلاء ليسوا شيوعيين. أغلبهم أصبح شيوعياً لمجرد الموضة، وثمة من أصبح شيوعياً بعد أن اُعتقل نكايةً في من اعتقله، ولكن لأن النظام كان يبحث عن أعداء في بلد يندر فيه المثقفون، فقد تولى تصنيفهم وفقاً لاحتياجاته.
تعود صالح أن يوقظ رفيقه كل ليلة، حتى يخرجه من كوابيسه التي لا تتوقف، كان نحيلاً ينام في وضع يشبه وضع الجنين، مما يؤدي إلى عرقلة دورته الدموية، ويحاول جاهداً تحريك أطرافه المتخشبة. في هذه اللحظة يستيقظ صالح، ويحرك يديه. يصحو ليشكر صالح بهمهمة غير واضحة، ويعود إلى النوم، ومن كثرة ما فعل صالح ذلك، فكر في كتابة مسرحية قصيرة. لم يخبر أحدا بذلك. بدأ كتابة المسرحية بشكل سري في مكان لا وجود فيه للأسرار. اعتمد على أسطورة شعبية تصور الكابوس على أنه كائن غير مرئي يجثم على أنفاس ضحيته، لذلك كانوا يطلقون على هذه الحالة اسم “الجثامة”، وإذا تمكنت الضحية من تحريك يديها بسرعة كافية، فقد تتمكن من خطف “طاقية الإخفاء” التي يرتديها الكائن الأسطوري، والتي حين ترتديها الضحية تختفي عن الأنظار، وتستطرد المسرحية التي كانت الشخصية الرئيسية فيها أحد السجناء، في تصوير كيف يتمكن السجين بعد الحصول على طاقية الإخفاء من الخروج من السجن، والعودة إليه محملاً بكل ما لذ وطاب، وبأخبار العالم الخارجي التي لم يعد بإمكان السجناء معرفتها إلا بعد زمن طويل.
… وذات ليلة بعد أن استمعوا إلى نصوص شعرية وقصصية جديدة، تقدم صالح وسط دهشة الجميع، وبدأ يقرأ مسرحيته غيباً دون الاستعانة بنص مكتوب.
في البداية قابله البعض بالسخرية، والتعليقات اللاذعة، ولكن سرعان ما خفت الهرج، وأنصت الجميع بانتباه شديد، وما أن توقف عند الكلمة الأخيرة، حتى ارتفع تصفيقهم الحاد، وسارعوا لاحتضانه، والاحتفاء بهذه المسرحية القصيرة، التي وجدوا فيها ذواتهم، والتي تمكنت من تصوير توقهم إلى الهروب من السجن، ولو بطاقية الإخفاء الأسطورية.
تلك الليلة نام صالح قرير العين سعيداً بأنه أخيراً أصبح من النخبة الطليعية في البلد، حتى أنه لم يستيقظ ليخرج جاره المسرحي من كابوسه الليلي، الذي أخذ يحاول تحريك أطرافه المتجمدة، حتى تمكن بعد وقت طويل من ذلك، دون أن ينجح في الفوز بطاقية الإخفاء.
[3]
قرر شاعر حداثوي يهوى الإخراج المسرحي إخراج مسرحية صالح.
اختار من بين نزلاء العنبر مجموعة من الممثلين. كان على أحدهم أن يقوم بدور امرأة، وأنفق الكثير من الوقت في تدريب مجموعته، والبحث عن الديكور والإكسسوارات، وتطوع البارعون في المسائل التقنية في الاستفادة من أي شيء في عالمهم الضيق الفقير، وهكذا تمكنوا من حل مشكلة الإضاءة، وبناء خشبة من الأسرة، وعرضوا المسرحية ذات ليلة من ليالي الشتاء، بينما كانت تمطر في الخارج، ومنذ ذلك الوقت عُمد “صالح” كاتباً مسرحياً بجدارة.
وقبل ذلك قرر رئيس تحرير صحيفة نوافير نشر المسرحية على صفحات صحيفته، التي كانت تكتب بخط اليد، على ورق ينزع من الغلاف الفضي الموجود في علب السجائر.
كان الجميع يترك علب السجائر الفارغة في مكان مخصص لذلك، حتى يتمكن رئيس التحرير البدين، الذي يرتدي نظارة طبية، من فصل الورق الأبيض الرهيف من الغلاف الفضي بكل صبر ودقة، ثم يلصق الورق على الورق المقوى الذي يجمعه من الصناديق الكرتونية التي تلقى خلف المطبخ، وكان يستعين بفريق من الصحفيين والكتاب والرسامين.
أحدهم كان موهوباً في الرسم الساخر، وآخر كان خطه جميلا، وكانت صحيفة نوافير التي يصدر منها عدد واحد، مقسم على عدد من الصفحات الكرتونية، توزع بالتناوب على نزلاء العنبر، وتحفظ بعد أن يقرأها الجميع تحت الأسرة، وكان على كل من يريد أن يراجع عدداً قديماً أن يحصي الأسرة مبتدءًا من أول سرير على اليسار من ناحية الباب، للعثور على العدد المطلوب.
بالرغم من أن المحاكم أصدرت حكمها بإعدام كل نزلاء عنبر الشيوعيين، إلا أن الحكم تم تخفيضه فيما بعد إلى السجن مدى الحياة، وكانوا مقسمين إلى عدة مجموعات، وفقاً للقضايا التي حكموا بسببها.
أقدمهم مجموعة تتكون من ستة أشخاص. ثلاثة أشقاء، ومعهم ثلاثة من أبناء أختهم. قرروا بينما كان أغلبهم في المرحلة الثانوية، وأصغرهم لا يزال في المرحلة الإعدادية تكوين حزب ماركسي. لعله كان الحزب الشيوعي الأول والأخير في تاريخ البلد. كانوا يجتمعون في كوخ مصنوع من الصفيح والخشب مقام في مزرعة صغيرة للعائلة، كان مخصصاً ذات يوم لبقرتين تم بيعهما قبل أن يخرج لهما ماركس و لينين من كتب المركز الثقافي التي كانوا يستعيرونها، ومن كتب أخرى كانوا يتبادلونها سرا، وانتهى بهم الأمر إلى تأسيس مكتب سياسي، كانوا جميعا أعضاء فيه، ولم ينجحوا إلا في سرقة آلة سحب من نوع “ستنسل”، سحبوا عليها منشورهم الأول الذي كان يعارض النظام الملكي في البلاد، ويتهمه بالرجعية، ولم تجد الشرطة صعوبة في القبض عليهم ومعهم الآلة المسروقة، وما تبقى من منشوراتهم في مدينتهم الصغيرة، التي تبعد 45 كيلو مترا غرب العاصمة طرابلس. أفرج عنهم في نفس اليوم بعد أن تعهدوا بعدم تكرار ما فعلوا، ولكن القضية ظلت محفوظة في سجلات الشرطة، حتى جاء الانقلابيون العسكريون فقرروا اعتقالهم بعد سنوات قليلة من حكمهم للبلد.
عندما تم اعتقالهم بعد عام من اعتقال صالح كانوا قد انقسموا إلى مجموعة من التنظيمات الماركسية على عددهم، حتى أن أحدهم لم يجد تياراً خاصاً به، بعد أن سبقه الآخرون على التيارات الأبرز، فأختار تيار أنور خوجة حاكم ألبانيا.
عندما وصلوا إلى السجن حافظوا على اختلافهم الأيديولوجي، ولكنهم ساندوا بعضهم في ما تبقى من قضايا.
في سنة 1976 وصل الطلبة ومن بينهم المسرحي صاحب الكوابيس الليلية. كانوا قد تظاهروا في جامعتي طرابلس وبنغازي، احتجاجاً على محاولات النظام حل اتحادهم المنتخب، وأيضاً مطالبين بعودة الدستور الذي ألغاه الانقلابيون، ووقعت مصادمات عنيفة بينهم وبين قوات شرطة مكافحة الشغب، وبعد أن اعتصموا في الحرم الجامعي، هاجمهم النظام مستخدماً جنوداً يرتدون ملابس مدنية متنكرين على هيئة طلبة، وأيضاً قبليون أحضرهم النظام من الصحراء على عجل، وانتهت المصادمات بتعليق قادة الطلبة على أعواد المشانق التي نصبت في ساحة كلية الهندسة بجامعة طرابلس، وأمام مبنى الاتحاد الاشتراكي العربي في مدينة بنغازي، والذي كان الطلبة قد أحرقوه خلال مظاهراتهم، بينما ألقي القبض على الآخرين باعتبارهم أعضاء في تنظيم شيوعي يستهدف قلب نظام الحكم.
في عام 1978 وصل المثقفون والكُتَّاب الذين كانوا ينشرون نتاجهم الأدبي في صحيفة الأسبوع الثقافي.
كان من السهل نعتهم بالشيوعيين، لأنهم كانوا يستخدمون منهج الواقعية الاشتراكية التي تأثروا بها أكثر من غيرها من مناهج.
داهمهم أعضاء حركة اللجان الثورية بينما كانوا يحتفلون بالذكرى الثانية عشر لوفاة شاعر حداثوي مجدد.
في المحكمة قال القاضي لزعيم الثوريين الذين اعتقلوهم، والذي كان بالمصادفة أبن عم “قائد الثورة”، والذي تولى العديد من المناصب الخطيرة بعد ذلك. هل وجدتم معهم أسلحة، أو مناشير تثبت أنهم تنظيم يهدف إلى قلب نظام الحكم؟، فرد عليه الثوري المُلتحي:
“لو وجدنا معهم هذه الأشياء لما بقوا أحياء ليقفوا أمامك”. ومع ذلك حكم عليهم نفس القاضي بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.
وصل معهم إلى السجن شرطي سري كان مكلفاً بمراقبتهم. شهد أمام المحكمة بأنهم ليسوا تنظيما، وإنما مثقفون لا يملكون إلا أقلامهم فحكمت عليه المحكمة بنفس الحكم. لم يكن يبدو عليه التأثر. ارتبط مع صالح بعلاقة وثيقة بسبب روحه المرحة والفوضوية، ومن بين كل التيارات الماركسية اختار الماوية، وراح يوجه سهام نقده لبقية التيارات، وذات نوبة من نوبات ظرفه عرض على صالح أن يزوجه أمه الأرملة، وأخرج من محفظته صورتها.
كانت سيدة في منتصف الأربعينات من عمرها، على قدر من الجمال، وكانت مبتسمة في الصورة. بدت أسنانها ناصعة البياض، وأبرزت الابتسامة غمازتين، أما عيناها فأوضحتا روح السخرية التي تفيض من ابنها، والتي رضعها من صدرها الطافح بالمرح، ومنذ ذلك اليوم أخذ يعامله صالح باعتباره ابنه بالتبني.
في السجن اكتشف صالح مواهب أخرى كامنة داخله لم يكن يعلم بوجودها، أخذ يطورها مستغلاً علاقته الوطيدة مع بقية المجموعات الموجودة في السجن.
في البداية واجه مشكلة تحتاج إلى قدر كبير من الصبر، وهي العداء المتبادل والمستحكم بين الإسلاميين والشيوعيين، ولكنه في آخر الأمر تمكن من إقناع الإسلاميين بضرورة التعاون بين كل نزلاء السجن من أجل المطالبة بتحسين ظروفهم، وهكذا تحول مع الوقت إلى أفضل مفاوض في السجن يرضى بوساطته كل المجموعات. فهو عسكري بين السجناء العسكريين، وعضو سابق في حزب التحرير الإسلامي، وصديق مقرب للأمازيغ يجيد لغتهم، وهو محسوب على الشيوعيين، منذ أن أقام في عنبرهم، وكانت إدارة السجن تلجأ له عندما يستحكم الخلاف بينها وبين إحدى المجموعات، خوفاً من أن تخرج الأمور على السيطرة.
الشيء الوحيد الذي لم يكن يعلمه صالح، هو أن التقارير التي كانت تصل إلى قادة الأجهزة الأمنية قد صنفته كأخطر سجين على الإطلاق، فهو الوحيد الذي بإمكانه أن يجمع هذه المجموعات المتنافرة من أجل هدف واحد، لذلك تم استثناءه من قرار العفو الذي صدر في مارس عام 1988.
[4]
في البداية شمله قرار الإفراج، بل أنه جمع أغراضه القليلة في حقيبة متهالكة، كان قد تركها له سجين توفي في عنبر الشيوعيين، وترك بين الجميع ألماً وحسرة، لم تنجح السنوات في التخفيف منها.
اجتمع بهم مدير الاستخبارات الذي كان بالصدفة صهر “قائد الثورة”، وأخبرهم بأن “القائد” قرر الإفراج عنهم، وأنه سيأتي بنفسه “ليحررهم”.
فكروا في كل المشاهد الممكنة التي سيكون عليها “القائد” عندما يأتي ليفرج عليهم، إلا المشهد الحقيقي الذي فاجأهم بعد أيام، ففي اليوم الموعود وصل القائد على متن بلدوزر أصفر اللون، يتزاحم فوقه عدد كبير من الحراس، وأعضاء اللجان الثورية، وهاجم على الفور بوابة السجن الرئيسية محيلاً إياها إلى أنقاض، وكانوا قد جُمعوا أمام البوابة بحقائبهم، وصناديق الكرتوني، وبعضهم لم يجد إلا أكياس الخيش، وأكياس القمامة السوداء ليحشر فيها أغراضه وملابسه، وبعد أن انجلى الغبار شاهدوا “القائد” وبيده مكبر صوت يدوي، وهو يصرخ فيهم:
“لماذا أجبرتموني على سجنكم.. أنا محطم القيود.. أنا مدمر السجون.. أنا المحرر”، وكانت مكبرات الصوت التي ثبتت في كل مكان تنقل أغنية لمطرب سوداني تقول كلماتها:
“أصبح الصبح
فلا السجن
ولا السجان باق”،
بينما كان التلفزيون ينقل على الهواء مباشرة وقائع الحدث، حتى أن مدير السجن السابق الذي أحيل على التقاعد منذ سنوات، شاهد في بيته صالح وهو يحمل حقيبته المتهالكة، فضرب كفا بكف، ودخل إلى الحمام، وترك دموعه الحارة تنسكب في صمت على وجنتيه المتهدلتين.
أُمِرَ السجناء بالمرور من فوق الركام الذي صنعه البلدوزر، ومصافحة ” قائد الثورة”، بينما كانت عائلاتهم تنتظر في الخارج، وبين الحين والآخر ترتفع زغاريد النساء. في هذه اللحظات تقدم مدير الاستخبارات، وطلب من صالح العودة إلى العنبر.
تغيرت التقسيمات في السجن بعد خروج الشيوعيين والأمازيغ وبعض العسكريين، فنقل صالح من قسم الشيوعيين إلى قسم الموقوفين، الذي كان يضم سجناء لهم حالات تشبه حالته، أي أولئك الذين سجنوا دون أن يعرضوا على المحاكم، وفتحت عنابر جديدة مثل عنبر المنتهية أحكامهم، وآخر اسمه قسم البراءة، ويضم كل السجناء الذين عرضوا على المحاكم وحكمت ببراءتهم، وعنبر آخر للعسكريين، بينما بقيت العنابر السابقة بنفس التسميات السابقة، باستثناء قسم جديد أطلق عليه عنبر “الزنادقة” ويضم كل سجناء التيارات الإسلامية الجهادية التي بدأت في التكاثر خلال الثمانينات.
في العنبر الجديد انضم صالح إلى سجناء جدد أحدهم في أواخر الخمسينات من عمره، كان قد اصطدم بحمار قرب مدينة سرت – مدينة “قائد الثورة” – وبصعوبة شديدة وصل بسيارته التي تضررت إلى طرابلس. في ميدان أبو هريدة صدمته سيارة من الخلف. نزل من سيارته غاضبا، وخاطب السائق الآخر قائلا: “ما خلصنا من حمار سرت تطلعنا أنت”. اعتقل على الفور، واتهم بأنه كان يقصد “قائد الثورة” بعبارته “حمار سرت”.
كما وصل شاب في الرابعة والعشرين من عمره، كان قد شرب زجاجة من الخمر المقطر في البيوت، مع صديق يقيم في منطقة الظهرة، وعند منتصف الليل خرج يتعتعه السكر ليعود إلى حيث يقيم قرب معرض طرابلس الدولي.. وبعد أن اجتاز الفندق الكبير شعر برغبة جارفة في التبول، كانت مثانته تكاد تنفجر. وصل إلى مكان خال من السيارات والمارة. لم ينتبه إلى الإضاءة الشديدة المركزة على المكان. توقف وبدأ يبول، وفجأة انقضت عليه سيارتان، واكتشف أنه كان يبول في الساحة الخضراء.
ومع الوقت أصبح السجن يمتلئ بوجوه جديدة، أغلبهم من الشباب. قبض عليهم في المساجد بينما كانوا يؤدون صلاة الفجر. وآخرون اعتقلوا عند الحواجز المنتشرة على الطرقات في كل أنحاء البلاد، لمجرد أنهم كانوا ملتحيين، ثم وصل شباب منخرطون في تنظيمات جهادية، كانوا متشددين بطريقة لم يسبق لصالح أن رأى مثيلا لها. قرروا تكفير النظام وأيضاً المجتمع، وجعلوا من أئمتهم الذين لجأوا إلى أفغانستان هم مثلهم الأعلى.
لم يستطع صالح بكل خبراته ومواهبه أن يبني معهم أي جسر، لذلك انكفأ على نفسه، مطالباً إدارة السجن أن يضعوه في زنزانة انفرادية، واندهش عندما استجابوا لطلبه دون إبطاء، دون أن يدري أنهم كانوا يعملون على تحييد موهبته في بناء الجسور مع الآخرين.
… ومنذ ذلك الوقت لم يشاهد صالح إلا في ساعات الفسحة، وهو يتمشى مطرقا، بينما أخذ شعر رأسه يغادره السواد متحولاً إلى اللون الأبيض كل يوم.
طوال سنوات سجنه لم ينس السيدة التي كانت السبب المباشر لقدره الأعمى، كان في البداية يراها غاضبة مثلما كانت عليه عندما تم اعتقاله، ولكن بعد سنوات بدأ غضبها يختفي شيئاً فشيئا، وانتهى بها الأمر إلى الابتسام في حياء، ثم إلى الابتسام الصريح، وهكذا وقع في حبها.
كانت مشكلته أنه لا يعرف اسم حبيبته، وبعد حسابات طويلة معقدة، شملت البحث في كل الأسماء النسائية المنتشرة في ليبيا حدد عشرة أسماء لابد أن يكون أحدهم اسمها، وذات ليلة رآها في المنام تخبره بأن اسمها زينب.
جاءت التسعينات ثقيلة الوطأة عليه كاد فيها أن يفقد عقله، ولكنه تماسك مستلهماً التشجيع من العقيد أحمد الزبير الذي تجاوز الستين منذ أعوام، والذي سجن منذ عام 1970، والذي تحول إلى أقدم سجين في العالم متجاوزاً نيلسون مانديلا بست سنوات، والذي كان يقابله في ساعات الفسحة فيحدثه عن سنوات شبابه في العراق وسورية، وأيضاً عن جده أحمد الشريف الذي قاد المقاومة الليبية ضد الغزو الإيطالي من عام 1911 وحتى عام 1917، قبل أن يتخلى عن القيادة لأبن عمه إدريس السنوسي الذي أصبح لاحقا ملك ليبيا الأول والأخير.
وصله خبر الإفراج عنه بينما كان يفكر في أسرع طريقة للانتحار، بعد شهر من وقوع أكبر مجزرة في تاريخ سجون البلد.
كان في زنزانته عندما سمع صوت الرصاص يلعلع دون انقطاع على بعد أمتار معدودة من زنزانته المغلقة.
في تلك الليلة من عام 1996 قُتل عدة مئات من السجناء الذين تمردوا بسبب سوء الأحوال التي يعيشون فيها، وتمكنوا من خطف مجموعة من الحراس مصحوبين بسلاحهم، وبعد ساعات كانت الكتائب الأمنية قد طوقت السجن من كل النواحي، وتمركز القناصة فوق أسوار السجن، كما وصلت قوات مكافحة الشغب، ووحدات خاصة من قوات الدعم المركزي، وتولى مدير الاستخبارات بنفسه المفاوضات مع قادة التمرد، الذين اشترطوا أن يتم نقل زملاءهم المرضى فورا إلى المستشفى، واستجاب مدير الاستخبارات لشروطهم طالباً منهم إخراج المرضى الذين ساءت صحتهم بسبب الإهمال، وبالفعل صعدوا إلى حافلة كانت بانتظارهم، ولكنهم لم يذهبوا أبدا إلى المستشفى، وإنما تم إنزالهم في ساحة بعيدة في آخر السجن، وأطلق عليهم الرصاص قبل أن يحصد أرواح بقية زملاءهم، الذين كانوا قد أفرجوا على الحراس الأسرى وسلاحهم.
… فيما بعد وضعت جثثهم في شاحنات مبردة تابعة للشركة الوطنية للصيد البحري، ولشركة المواشي واللحوم، ودفنوا في مكان مجهول.
[5]
اختفت نقوده من المظروف الأصفر الكبير، ولم يجد إلا بطاقته المدنية والعسكرية ورخصة القيادة، والقرط الذي تقشر طلاءه كاشفاً عن زيف معدنه.
غادر السجن على قدميه في مدينة تضخمت عدة مرات خلال سنوات سجنه، بدون نقود ولا عناوين.
اتجه على قدميه نحو مركز المدينة مستفسراً من المارة عن وجهته الصحيحة، حتى وصل إلى ميدان الشهداء، وهناك جلس قرب المتحف مواجهاً ما تبقى من البحر الذي ابتعد عن مكانه السابق عشرات الأمتار، تاركاً مكانه لطريق مزدوج عريض يمر بين المتحف والميناء الجديد.
وهناك تذكر أن أحد زملاءه يعمل في بنك الأمة الذي يطل على نفس الميدان. دخل إلى البنك وسأل عنه، وبعد لحظات أطل زميله الذي سارع نحوه، واقتلعه من الأرض حاملاً إياه بين ذراعيه.
بعد أيام قضاها في طرابلس متنقلاً بين بيوت أصدقائه، قرر أن يزور قريته ليرى عائلته.
لم يمكث بين عائلته إلا ليلتين. شعر بالغربة بينهم أكثر من كل سنوات سجنه. كان أخوته بعد وفاة والديه قد تقاسموا الميراث دون أن يتركوا له حصته. في الحقيقة لم يتحسبوا للحظة خروجه المفاجئة، كان بالنسبة لهم أشبه بميت يعود إلى الحياة بعد 24 سنة.
في اليوم الثالث، مر على المقبرة حيث قرأ الفاتحة على قبري أمه وأبيه، وتوجه إلى طرابلس وقد قرر أن لا يعود إلى قريته إلى الأبد.
في طرابلس وبمساعدة أصدقائه الشيوعيين والعسكريين والأمازيغ عمل مترجماً مع شركة أجنبية، حيث أقام في غرفة صغيرة في معسكر الشركة، وفي المساء عمل في مكتب للترجمة القانونية في وسط المدينة، وذات يوم، بينما كان في حافلة صغيرة من نوع “أفكيو” محشورة بالركاب، شاهدها جالسة بنفس فراشيتها البيضاء. كان وجهها مكشوفاً وقد انتشرت فيه التغضنات والتجاعيد الصغيرة، ولكنها لا تزال تحتفظ بشيء من جمالها القديم، الذي قاده دون أن يندم إلى السجن قرابة ربع قرن. في أول الأمر شعر أن قلبه يكاد يقفز من صدره، حتى أنه أحس أن بقية الركاب ضبطوا ما يفكر فيه، فأخذ ينظر إليها بطريقة مواربة، ولكنه تمكن من السيطرة على انفعالاته، كانت تبدو مهمومة، وبحدسه العجيب شعر أنها وحيدة.
في حي زاوية الدهماني ترجلت من الحافلة، فنزل خلفها، وأخذ يتبعها، حتى توقفت عند بيت أرضي بابه أخضر. فتحت الباب وأقفلته وراءها.
بعد أسبوع كانت زوجات أصدقاءه قد جمعن معلومات وافية عنها. أرملة تزوجت مرتين، ولم تنجب أطفالا. كان زوجها الأخير قد ترك لها البيت الذي تعيش فيه، ومحل خياطة خاصاً بالنساء، وأن اسمها زينب.
بعد شهرين تمكنوا من ترتيب لقاء بينهما كلف زوجات أصدقائه عدة زيارات إلى محلها بحجة تفصيل فساتين لهن، وقبل أن تجهز الفساتين تمكنَّ من كسب ثقتها.
لم يكن الأمر سهلاً في بداية الأمر، ولكنه كما عبرت زوجة أحد أصدقائه بأن قدراً غامضاً يربطهما منذ زمن بعيد.
… وهكذا قابلها ذات مساء في بيت أحد أصدقائه، كانت قد تعودت أن يتقدم الرجال لخطبة يدها، وكانت تتصرف معهم مثلما تتصرف مع كل شؤونها الأخرى.
… تركز على الربح والخسارة، ولكن هذه المرة كان كل شيء مختلفا.
أخرج من جيبه القرط الذي تقشر بينما كان يتنقل بين عنابر السجون، وقدمه لها. لم تتعرف عليه. فأخبرها بأنه سقط من أذنها اليمنى ذات يوم من أيام ربيع عام 1972، وبصعوبة تذكرت ذلك الشاب الذي كان لا يكف عن معاكستها، بالرغم من محاصرته بأربعة رجال أشداء، وعندما عرفت الثمن الذي دفعه بسبب حماقته، ضربت بكفها على صدرها المكتنز الصلب، وأجهشت بالبكاء، وعندما أخبرها كيف أخبرته بنفسها عن اسمها في المنام وافقت على الزواج منه دون تحفظ.
عاش معها في بيتها راضياً أن لا يكون له أطفال، ولكنه تمكن من إقناعها بتبني طفلة أحضرها من دار الرعاية ملئت عليهما البيت، وبدأ يترجم الآداب الأجنبية التي كان ينشرها أولاً في مجلات خليجية، قبل أن يطبعها في كتاب، مكنته من الحصول على دخل جيد بالعملة الصعبة، كان ينفقه في رحلات خارجية محاولاً تعويض ما فاته، ومن حين إلى آخر كان يكتب مسرحية تلقى الكثير من التقريض على صفحات الصحف المحلية، ولكن ما لم يكف عن فعله بشكل لا إرادي، هو البصق على عضو مجلس قيادة الثورة، وزير الداخلية السابق، كلما شاهد صورته على التلفزيون، أو على صفحات الصحف.
* نشر بموقع (كيكا) بتاريخ 25 ديسمبر 2007 م