ساجدة أنعم
شعرتُ بخدر وتنمل في أطرافي، ورعشة باردة تسري في كامل جسدي، فتحتُ عيناي بصعوبة، وجدتُ نفسي مرميًا في مكانٌ أجهله، عارياً لا غطاء يستر جسدي أشعر بألم شديد في ظهري وأسفل رأسي، وغير قادر على تحريك رجلي.
ماذا حدث؟ أين أنا؟
وجدت صعوبة في التعرف المكان الذي فيه وماهية الوقت، أعتقد أني أسمعُ صوت بكاء ونواحُ بعيدة
شعرتُ بشيء مُثقل على ذراعي فنظرتُ لأجد رجلاً مرميُّ بجانبي وبعضُ الكدمات تملأ وجهه، لازلتُ لا أعرف كيف انتهى بي الحالُ هنا !
أبي .. أمي.. أين هم ؟
وهنا سرعانُ ما أدركتُ ماذا حدث، تذكرتُ اللحظات الأخيرة الجميلة التي عشتها قبل فقدان وعيي، ذاك اليوم عند استيقاظي صباحاً على فطائر أُمي المخبوزة، وعلى أصوات أخوتي وأخواتي الدافئة، تحت ظل منزلنا، عيشٌ رغيدُ بين العائلة والوطن،
عندما حملني أبي وهو يلعب على شعري قائلاً: ألم أقل لك أن تُدفئ نفسك؟ هُناك عاصفةٌ قادمة الليلة ولا نُريد لمدللنا الصغيرُ أن يشعر بالمَرض ويتوعك..
كانت هذه هي حياتي البسيطة، المليئةُ بالجمال والدفء، أن أكون لاعب كُرة قدم جيد، وأجعل والديَّ فخوران بي، ومَثلي الأعلى في هذا هو أخي الكبير وكلانا نلعبُ في نادي دارنس العريق، لم يكُن في الحسبان بأن هذا آخر اجتماع على مائدة إفطار نتذوق حنينها في بقايا المنزل .
ليلتها بعدما اشتدت العاصفة قد وصلت إلينا أنباء انهيار سد وادي بوضحاك، حينها أُغرق منزلنا بالكامل، وبدأ في الانهيار والتهاوي، ذهبنا مُسرعين إلى منزل عمي يقع بالقُرب من منزلنا وأيضاً هو أعلى بالأدوار منَّا، صعدنا على سَطح المبنى، اشتدت الأمطار والبرد القارس ولكن كنَّا لا نشعر شيئاً من هول المشهد، سمعنا أصوات منازل بجانبنا تهاوت أرضًا بداخلها سُكانها، كان كُلما يأتي برقٌ يُضيء المكان، نرى المياه أعلى من المنازل، والسيارات تطفو عند أسطح البنايات، كنَّا نسمع أصوات ولولةُ و نحيب، وتكبيراتٌ جماعية صوتها يُدمي القلوب!
كنت أتوسط حضن أمي، وأسمع صوتها المُرتجف وهي تردد لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين كنت وعلى رغم هول الوضع وقلقي ألا أني دافئ ومُطمئن وانا أشعر بأنفاسها الدافئة تلفحُ عنقي
أخواتي بجانب بنات عمي، خائفات يبكين بهلع، أسمعُ تبتلاتهنَّ وصلواتهن أن يحفظنا، أن يحمينا، أن يُنجينا..
رأيتُ أبي وعمي وأخوتي وأبناء عمي يتوضؤون بماء المطر المُنهمر، ويتجهون إلى القِبلة، ويكبِّرون قانتين أن لا إله إلا هُو.
وعلى حِين غِرة مع برقٌ أضاء أنحاء المَدينةُ وجدنا الماء وهو في منظرٌ تقشعر له الأبدان، واشتدَّ صعقُه
أندفع بقوة كبيرة ليجعل المبنى يهتزُّ بقوة وأنا أسمع صُراخ كل من معي، منهم من يولول والآخرُ يتشهد، وما هي إلا لحظات لنجد أن المبنى قد إنهار وأخذه الماء ولم نعدّ نرى بعضنا البعض وافترقنا
لأستيقظ وأجدُّ نفسي هنا، في ميناء درنة، بجانبي الكثيرُ من الجثث والمُغشي عليهم، ومن هم مثلي لأنهض وأُدرك أني أنا الناجٍ الوحيد من عائلتي التي لم أجدُ حتى جُثثهم، حيثُ استعبرت عيناي لفراقهم لأظل من بعدهم شريدًا لا وطن، ولا أحلام، ولا عائلة، عالق في ظل دلال ذكريَّاتهم التي أَدمتِ الجوارح والحنينُ والأشواق تقتلني، وأمامي هذا العُمر الطويل.