طيوب عربية

أجراسُ الرحيلِ

من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري
من أعمال التشكيلية العراقية لينا الناصري

أزحت عني الغطاء لأصطدم ببرودة الغرفة، شعرت أني نْمت ألف عام أو يزيد، مشيت بخطوات متثاقلة نحو الصالة أسترق الَّسمع لصوت الطرقات المتتالية على زجاج النافذة. ابتسمت، وبدأ قلبي يرقص طربا لصوته، إنها المرة الأولى في هذا العام.

تقدمت وفتحت النافذة لاستقبال رائحة المطر وهي تسري في دمي، كأَّنها قارورة عطر انسكَبت عن عمد؛ ليفوَح شذاها في الكون كله، ِورغم تلك النشوة التي أثارْتني للحظات معدودة، مازلت أغرق في اللونين: الأبيض والأسود، وما زالت المأساة تؤلمني وتعاودني الذكرى.

استيقظت في الثانية بعد منتصف الليل على صوت رنين متتال لهاتف المنزل، التقطت السماعة وأنا أعلم َمن يهاتفني على الطرف الآخر، بضع كلمات تضع النهاية في وسط الشاشة وتسدل الستار، أرتدي ملابسي وأخرج مسرعة لا َأجد المصعد ولا أستطيع الانتظار، أنزل بخطوات منتظمة على الَّدرج، ولكني لا أستطيع أن ألتقط أنفاسي ومع مرور الطوابق تختفي الألوان من على الجدران، وقفت في الشارع أمام العمارة أنتظر ” تاكسي” يقلني إلى المستشفى، وكلما مررت بشارع وجدت واجهات المحَّلات قد تحوَلت للأبيض والأسود، كل الكون صار بنفس الَّلونين.

دلفت من باب المستشفى، والصمت المطبق يسود العالم، وأنا أمضي نحو ممرات بلا نهاية أشعر أن أحدهم يرافقني، أتلَّفت حولي ولا َأجد أحداً، الظلام يحوطني برغم الإضاءة الساطعة في الممرات، وصلت إلى باب غرفتها، وقفت ووضعت يدي على مقبض الباب دون أن أديره وأغمضت عينَّي، اتسعت حدقتا عيني وأنا أراها تقف بالقرب من النافذة، تتمايل وتبتسم وتقول: المطر يسعد قلبي.

نظرت إليها وأبديت إعجابي بفستانها القصير وحذائها ذي الكعب العالي، تبدو لي كأول يوم التقيت بها بهية متألقة منعزلة عن صخب الحياة وضجيجها مثل روح هائمة.

أدرت المقبض لأجد إضاءة الغرفة خافتة لا أكاد أراها، تقدمت منها، تلمست يدها التي تغلب عليها الزرقة وكذلك وجهها، بحثت عن الحياة فيها، قبلت جبينها، نظر ْت لي وأغمضت عينيها، شعرت به يشاركني لحظات وداعي الأخيرة، الموت المتربص في الأركان.

الغرفة تلَّونت بلون الأكفان حتى ذهَبت عنها زْرقتها، واكَتَسى وجهها ببسمة حب ورضا، انهمرت دموعي، وعجزت عن الكلام، خطوت خطوات مضطربة نحو الشرفة، وأرهفت السمع إلى صوته في حين رحل صوتها بسلام

مقالات ذات علاقة

رساله إلى غفا

المشرف العام

غادة السمان ولعنة اللحم الأسمر

إنتصار بوراوي

صباحكم أجمل/ على قمة جبل جرزيم

زياد جيوسي (فلسطين)

اترك تعليق