دراسات

النص بين النقد واللسانيات الحديثة – رمزية الوجه في رواية (اللحية) لسالم العوكلي

قراءة سوسيونصّية

رواية اللحية، للكاتب الليبي سالم العوكلي
رواية اللحية، للكاتب الليبي سالم العوكلي

ملخص الرواية:

ينبني المتخيّل السردي لرواية اللحية من حضور ثلاث شخصيات رئيسة هي: السارد وصديقه (ياسين) و(عزيزة)، وتدور الأحداث في درنة وطرابلس والإسكندرية وأفغانستان وتستدعي من خلال مشاهدة التلفاز نيويورك وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والسارد في هذا المتخيّل السردي داخلي ضمن بنية الحكي يتولّى من خلال السرد المباشر وغير المباشر تتبع مصير هذه الشخصيّات، كما أنه يستعين بالاسترجاع ليضيء ماضيه وماضي الشخصيّات الأخرى والعلاقة الوثيقة التي تربطهم، ومن ثم يرصد للقارئ نمو هذه الشخصيات التي تصبح مقحمة في صراعات إيديولوجية يُعدّ الوجه مظهرها الأبرز، فـ(ياسين) يغدو ضالعاً في إحدى الجماعات الإرهابية، و(عزيزة) تصير مومساً بوجه منقّب ضمن لعبة السلطة في تفخيخ الوجوه المنقّبة، والسارد يجد نفسه متهماً بسبب وجهه الملتحي رغم أن لحيته لا تغذّيها أي أفكار دينية.

مقدمة:

يمثّل الوجه رمز الشخصي وأبرز مظاهر الهوية المادية للإنسان، وهو بالإضافة إلى ذلك يكتسب من خلال هيئته أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية تجعل منه شِفرة محمّلة بالدلالات، بحيث يمكن في كثير من الأحيان تصنيف الناس سياسيّاً واجتماعيّاً عبر المظهر الذي يتخذه الوجه، من هنا تغيّت هاته القراءة استثمار المقولات السوسيولوجية في مقاربة رواية (اللحية)، متبعة منهجاً سوسيونصّياً يظل النص فيه نقطة البدء والعودة، وهي في هاته المقاربة تحاول أنْ نُعرّي الوجه، وتكشف عن دلالاته الرمزية، وتبرز دوره في تنامي السرد وانتظامه، فالشخصيّات الرئيسة الثلاث تعيش تحوّلاتها الكبرى التي تتجلّى في الوجه بوصفه المرآة التي يعاين فيها القارئ تلك التحوّلات بدءاً من اكتشاف الجندر في الزغب المنثور على أطراف الوجه ووصولاً إلى إقحام تلك الشخصيّات في القضايا الكبرى المتعلّقة بالإرهاب وأحداث الحادي عشر من سبتمبر حين تخترق اللحية أهمّ نظام أمني في العالم.

 تبحث هذه القراءة عن إجابات للأسئلة التالية: كيف يتمثّل الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في الوجه رمزياً؟ وما العلاقة بين البيولولوجي والاجتماعي؟ وما دورهما في تشكيل الهويتين الذاتية والاجتماعية؟، ومن أجل ذلك عاينت هاته القراءة ثلاثة أنواع من الوجوه هي: الوجه المحايد، والوجه الملتبس، والوجه المشوّه، مفيدة من مقولات السوسيولوجيا، وبالأخص مقولات دافيد لوبروتون في كتابه: سوسيولوجيا الجسد، وكرس شلنج في كتابه: الجسد والنظرية الاجتماعية.

1_ الوجه المحايد:

يُعدّ الوجه الدالّ الأهم في جسد الإنسان، فهو بالإضافة إلى كونه رمز الشخصي يمثّل العضو الذي يُقيَّم من خلاله الآخر، ذلك أنّ الإدراك من خلال النظر يجعل من وجه الآخر العنصر الأساسي في هويّته، والجذر الأكثر دلالة لحضوره، فاللقاء بين الأشخاص عادة ما يبدأ بتقييم الوجه حتى إنّ النظرة في هذا الاتصال تشبه اللمس البصري المتبادل(1)، هذا التقييم للآخر عبر الوجه لا يتأتّى إلّا بمقاربة دلالة هذا الوجه، فالوجوه مشحونة بالمعنى، إنها رموز تبتنيها قيم اجتماعية وثقافيّة وسياسيّة أيضاً، ومن ثمّ فإنّ التعديل في هيئة هاته الوجوه يشي بتعديلات سابقة لبعض القيم الاجتماعيّة والثقافية، فخلافاً للمفاهيم العنصرية العرقيّة التي ترى أنّ الإنسان منتوج جسده، يستطيع الإنسان دائماً أنْ يجعل من جسده منتوجاً لتقنياته وتمثّلاته(2).

ينماز الوجه المحايد بأنه مفرَّغ من المعنى، إنه ينطوي على بياض دلالي لم يجر فيه حبر المعنى، ولم تنبت بعدُ رموز الجندر، هذا ما يتبدّى في استرجاع السارد قصّته مع اللحية وهو يلتمس الجندر في الزغب العصيّ على الإنبات إذ يقول:

“قصتي مع وجهي في المرآة بدأت مبكرة، علاقة كانت تنمو مع  وجه ذاك الصبي الذي خرج من تحت جلدي ممسوساً بهوس الرجولة المبكرة، ومراقباً ذاك الزغب الأشقر الصغير الذي كان ينمو ببطء تحت الأنف وفي الجزء المدبب من ذقنه، سمع من أحد رفاقه في المدرسة أن حلاقة هذا الزغب سوف تجعله يتكاثر ويصبح أكثر خشونة، فكان يسرق عدة والده ومرآته الصغيرة، ويملأ وجهه برغوة الصابون ويبدأ في الكشط دون هوادة، ولم تُجدِ تحذيرات أمه التي تفطنت له في ليّه عن هذا السلوك، كان يعجبه الرجال الملتحون، ويحتفظ في كراساته بصورة للكاوبوي كلينت إستوود بلحيته العسلية ولفافة السجائر الأمريكي التي تنبثق من زاوية فمه، وصار يؤجل مشروع التدخين حتى تنبت له لحية، لا يتصور منظر اللفافة مع وجه أمرد خال من التعبير، في اللعب مع أولاد وبنات حيه كانت صديقته المفضلة تختار قرينه الأكبر منه سناً عريساً لها بسبب بعض الشعيرات السوداء المتناثرة على وجهه، وعندما غاب مرة عن اللعب اضطرت تلك الفتاة البالغة أن تلصق أوراق الشاي المطبوخة على ذقنه وتحت أنفه كي يحل محل العريس، وعندما شدته مع ذراعه لتقوده إلى طقوس الدخلة أحست بأن الوبر الناعم على ذراعه تحرك، وغدت في ذلك اليوم لعبتها الأثيرة، تداعب بأصابعها الرقيقة ذراعه فيقف الزغب الرمادي الرقيق، تنادي رفيقاتها وتقوم أمامهن بدور الساحرة، يضحكهن المشهد، فينزع يده ويركض إلى البيت كاشطاً عن وجهه بقايا أوراق الشاهي”(3).

يرتبط الجندر بالبعد البيولوجي وبسياقات اجتماعية وثقافية تحدّد سماته، ولهذا تكتسب الهيئة الإنسانية والوجه تحديداً قيمة مضاعفة في ابتناء رموز الذكورة والأنوثة وتمايزها، من هنا تأتي محاولات السارد بذر وجهه بالشعر لتُجسّد رغبة ملحاحة في أن يهب وجهه معنى، مستحثّاً عبر فعل الحلاقة ذكورة لم تفقس بعد، وهو ما تجلّى أيضاً في فعل صديقته التي تبحث في اللحية المصنوعة من ورق الشاي عن ذكورة غائبة.

هكذا يُعدّ “الوجه من بين كلّ مناطق جسم الإنسان الأكثر تكثيفاً للقيم العالية، حيث يتبلور الإحساس بالهوية، وعبره ينشأ التعرّف على الآخر، وتترسّخ مرايا الإغراء وتمييز الجنس”(4)، وفي ضوء هذا نقرأ هاته الضراعة على لسان السارد للشَّعر أنْ ينبت، وهو في ذلك يبحث عن أول معنى لوجهه ألا وهو الذكورة، هاته الذكورة المؤجلة الغائبة في اللحية التي لم تبزغ بعد يؤكّد أهمية القيم المجتمعية في تحديد معالم الجندر، يتمثل هذا في رغبة صديقته (عزيزة)، وفي تغزّل البنات في الأعراس باللحى، حيث نقرأ في السياق نفسه:

“يقف أمام المرآة ويبدأ خلسة حرث وجهه بشفرة أبيه، وهو يتوسل الشعر أن يخرج، بل وكان كثيراً ما يغسل وجهه ويتركه مبللاً لعلّ العشب القاطن تحت الجلد ينمو ويغطي عورته.. البنات في الأعراس تتغزل أغانيهن الجريئة في الشوارب واللحى، ومعلمه المفضل ذو الشخصية القوية في الفصل يتمتع بلحية كثة لا تترك إلا جزءاً ضئيلاً من وجهه.. كان ينتظر بزوغ أول براعم الشعر في ذقنه مثلما تنتظر صديقته الصغيرة بزوغ النتوئين الصغيرين تحت قفطانها الملون”(5).

 يشي نعت الوجه الأمرد بالعورة بدور الثقافة المجتمعية في شحن الوجه بالدلالة، كما يحيل في الآن نفسه على الأعضاء التناسليّة التي يرجع إليها تحديد نوع الجندر بيولوجيّاً، هذه العلاقة بين الوجه والأعضاء التناسلية تدعمها بعض مقولات السوسيولوجيا “فالوجه مثلما هو الشأن بالنسبة إلى العضو التناسلي هو المكان الأكثر أهميّة والأكثر ارتباطاً بالأنا، والشخصيّة تتزعزع عندما يُصاب أيّ واحد منهما”(6).

ينمو الجندر ظاهريّاً في هذا المتخيّل السردي، فبين الثقافي والبيولوجي تتبدّى ملامح هذا الجندر المنشود في اللحيّة، وفي بروز النتوئين الصغيرين تحت ملابس صديقته، فالمتخيّل السردي يضع القارئ إزاء الهيئة الإنسانية للشخصيّات فنعاين من خلال هذه الهيئة أهمّ تحوّلاتها.

2_ الوجه الملتبس:

 يعيش السارد، وهو سارد داخلي ضمن بنية الحكي وشخصية رئيسة، مآزق متعدّدة بسبب الهيئة التي يتخذها وجهه الملتحي في سياق سياسي وثقافي تغدو فيه اللحية تهمة؛ إذ تراكم الأحداث السياسية والاجتماعية، التي تُشكّل مرجعاً لهذا المتخيّل السردي، دلالة بعينها للحية، وهو ما يجعل من وجه السارد وجهاً ملتبساً، يتجلّى ذلك في علاقته بالآخر المختلف المتمثّل في صديقته المسيحية، وفي علاقته بالسلطة أيضاً، فالهيئة التي يتخذها وجه السارد تضعه في صلب صراعات سياسية وأيديولوجية لا علاقة له بها، بمعنى أن الهوية الاجتماعية الواقعية المتمثّلة في كيفية رؤية الآخرين للإنسان(7)، هي التي تمثّل مأزق الشخصية هنا:

“سألتني كيف أعرفك، فقلت لها أرتدي بنطلون جينز وقميصاً أزرق مقلماً، وملتح.. وعند ذكر اللحية اعتذرتْ بحرج ظاهر على خفوت صوتها المفاجئ: أنت تعرف مشاكل اللحية في مصر والحذر الذي يحيط بالكنائس هذه الأيام، فقلت ممازحاً ولكن البابا شنودة نفسه ملتح.. كررت اعتذارها وقالت ما معناه: لحيتك تنبت في حقل تغذيه المخاوف التي أيقظت من جديد فوبيا الهيئة الإنسانية.. واتفقنا على اللقاء في محطة سفر بعد عقد القران”(8).

 يُضحي وجه الشخصية ملتبساً بسبب التناقض بين الهويتين الذاتية والاجتماعية، أي بين ما هو جوّاني والهيئة الإنسانية المتمثّلة في الوجه الملتحي الذي يقيّمه الآخرون من خلاله خاصة وأنّ الراهن السياسي والثقافي والاجتماعي يشحن هذا الوجه الملتحي بمعنى أحادي، فتصير بذلك كلّ لحية متهمة بانحيازها إلى أيديولوجيا معينة، بحيث يمكن تصنيف الناس من خلال هيئاتهم، وهذا يعني تراجع الهوية الذاتية أمام الهويات الاجتماعية الصاعدة، فلم يعد الوجه رمز الشخصي فقط، وإنما يكتسب عبر هيئته أبعاداً رمزية جديدة، وبالعودة إلى موضوع هذه القراءة نلحظ تزامن تعرّف السارد إلى صديقته المسيحية بحدث مهم تكون اللحية فيه الفاعل الأكبر: 

“لقد كنت أحس بالملل وفي حاجة لمن أتحدث معه.. اخترت رقما قريباً من الرقم المسجل على الصحيفة، وبذلت قصارى جهدي كي لا تشتمينني وتقفلي السماعة ويكون كل شيء قد انتهى.. ثمة جهد وتكتيك يجعل للمصادفة دوراً نسبياً.

كأني كنت انتظركَ، قالت بوهن عذب.. وضاع باقي الكلام حين وقع نظري على الشاشة الصامتة.. دخان غزير يتصاعد من برجين عاليين وعلى الشريط الأحمر أسفل الشاشة خبر عاجل: طائرات مدنية تقتحم برجي التجارة في نيويورك.. ومع استيعابي لما حدث كنت ضمن الملايين الذي يتابعون مباشرة هجوماً على أمريكا في عقر دارها.. هذه الأمة التي كانت بعيدة عن الدخان وحرائق الحروب رغم وجود أقوى قوة إطفاء فيها.. انتابني شعور هو مزيج من التشفي والألم.. وهو ناتج عن مزيج من حب وكراهية لهذه الضفة التي توزع على العالم المرح والموت في الوقت نفسه.. وبدأت معركة للتو في داخلي، بين الشاعر الذي يدين العنف بكل أنواعه، ومواطن العالم الثالث الذي يدين الهيمنة وقسوة القوة”(9).

 يبدو للقارئ أن لا علاقة ظاهرة بين لحية الشخصية (السارد) المفرّغة من أي بعد أيديولوجي وتلك اللحى التي تقتحم برجي التجارة في نيويورك، لكنّ قراءة هذا المشهد في بعده الرمزي تشي بغير ذلك، فلحية الشخصية التي اقتحمت حصون صديقته المسيحية الأرملة التي ظلّت حصينة على كلّ محاولات الإغواء والإغراء تماثل رمزيّاً تلك اللحى التي اقتحمت حصون الغرب المسيحي، ومن ثمّ نكون من جديد إزاء ذكورية اللحية، هذه الذكورة تتجلّى في بعديها البيولوجي والسياسي من خلال القدرة على اختراق الآخر الأنثوي المتمثّل في صديقته المسيحيّة، وفي هدم برجي التجارة اللذين يتجسّدان رمزياً مثل عضوين ذكريين من خلال امتدادهما، واجتثاثهما قص رمزي لهما، ومحاولة لسلب الغرب المسيحي ذكورته وفرض جندر جديد عليه.

يضع الوجه الملتبس الشخصية التي تتولى السرد في علاقة متوترة مع السلطة التي تحاول أن تُوجد نظاماً جسدياً تتحكّم من خلاله في مصائر أصحابها، ذلك أنّ كل سيادة لا بد أن تفرض نفسها بالعنف والإكراه الجسديين، أي أنّ كلّ نظام سياسي يوازيه نظام جسدي(10)، ومن ثم تطمح السلطة عبر هذا النظام الجسدي إلى فرض نظام سياسي يتحّكم في الناس من خلال مراقبة هيئاتهم وإخضاعها لمزاج السلطة، ولهذا تخضع شخصية السارد للتحقيق للتأكد من سلامة منابت لحيته:

“وقفت أمام مكتب المحقق الذي بدا عليه الإرهاق ملقياً بنظرة خاطفة إلى الكرسي الحائل أمام طاولته، والذي ما عاد قادراً على إخفاء إنهاكه من كثرة المؤخرات التي عبرته إلى مصيرها.. إنه عرش الشبهات بامتياز الذي تداولته الأجساد المرتعشة.. رمقني وهو يفتش في أوراقه المتراكمة أمامه بنظرة خاطفة وأشار لي بالجلوس، وبعد سيل من الاستجواب التقليدي عن هويتي قال دون أن يحيل نظره عن الأوراق التي أمامه والتي فيها يقرر مصير ومستقبل كائنات بشرية كاملة:

ـ لماذا أنت ملتحٍ؟

يبدو من سؤاله أنه تحصل على معلومات كافية عني جعلته يطرحه بهذا الهدوء.. فلم يكن عبثاً كل الجهد الذي بذلته في الحاجز والسيارة والممر للخروج عن سياق الجماعة الأخرى.. وكنت أثناء انتظاري قد توقعت هذا السؤال، وفكرت في عديد الإجابات التي تدفعني أكثر خارج البؤرة.. فكرت أن أجيب: لأسباب صحية، ولكني تراجعت لأنه سيطلب تقريراً طبياً يؤكد هذه الذريعة، فانتقلت إلى فكرة أن أقول: إنه نوع من الكسل والإهمال، لكن لحيتي المهذبة بعناية ستضع هذا السبب في إطار ريبة أنا في أشد الحاجة للابتعاد عنها.. فكرت ان أجيب: بسبب حزني على صديق عزيز مات منذ فترة قريبة، ولن أعدم اسماً أذكره له، لكنني تراجعت ليقيني بأن الحزن في حد ذاته تهمة ضمن منظومة لا تنفك وسائلها الإعلامية تتحدث عن فردوس أرضي يتم إنجازه وسعادة تاريخية تعاش في ظله. فانتقلت فوراً إلى الخيار الأقرب إلى الحقيقة لعل بساطته تجعل المحقق أكثر تعاطفاً مع نبرتي الساذجة: صديقتي التي أحبها من كل قلبي لا تطيق الرجل دون لحية، لذلك أخذت مني وعداً أن لا أحلق لحيتي أبداً.. لكنني فكرت بسرعة أن البوح بمثل هذه الخصوصيات لرجل أمن تدرب على العمل خارج العواطف الرومانسية سيضعني في دائرة الاحتقار التي ستوقف تعاطفه معي.. إن هذا المكان المدجج بالأحذية الخشنة والعيون القاسية والطلاء الرمادي لا يصلح أبداً للحديث عن وعود الحب أو رغبات الأنثى.. تصارعت كل هذه الأجوبة المقترحة في ذهني الذي كان مشغولاً بمحاولة تذكر الوجه الأليف في الممر، ثم قررت أن ارتجل الإجابة عندما أمثل أمامه معتمداً على حدسي وعلى خبرتي في قراءة عيون الشخص الذي أمامي، إنه الملل.. قلتها بسرعة بينما ازداد خفقان قلبي وارتعاش أطراف أصابعي”(11).

يمثّل استنطاق السلطة (المحقّق) الشخصية نوعاً من البحث في دلالات الوجه الملتحي الملتبس، في المقابل تأتي كل إجابات الشخصية ضمن حوارها الداخلي مجسّدة رغبة في استعادة الهوية الذاتية المفقودة بعيداً عن الهويات الاجتماعية التي تصنّف الناس ظاهرياً عبر هيئاتهم، فالشخصية تقع داخل دائرة الشك بسبب هيئتها الإنسانية المتمثلة في الوجه الملتحي، وهو ما يستدعي من السلطة البحث في تاريخ هاته اللحية، وفي الأفكار التي تغذّيها، ورغم أنّ الشخصية تضعنا أمام عدة احتمالات غير أنّ المسكوت عنه يعيدنا إلى وجه ذلك الصبي المحروث بشفرة الحلاقة الباحث في الزغب المنثور عن ذكورة غائبة، وعن علاقته بـ(عزيزة) التي كانت تفضّل صديقه (ياسين) عليه ليكون عريسها بسبب لحيته، وهو ما يؤكد أنّ الشخصية تنمو في هذا المتخيّل السردي من خلال هيئتها الإنسانية، وأنّ حاضرها مرتهن بماضيها، فاللحية الحاضرة تعويض عن اللحية الغائبة في وجه ذلك الصبي الأمرد المرتعد في حضرة (عزيزة) وهي تلصق أوراق الشاي عليه، من هنا يمكن القول: إنّ الوجه هو الدالّ الأكبر الذي نعاين فيه أهم تحوّلات حياة هذه الشخصية.

3_ الوجه المشوّه:

 يتمثّل الجسد نظاماً رمزياً تشيّده عدة دوالّ اجتماعية وثقافية وسياسية، ويحظى الوجه في هذا النظام الرمزي بأهميّة بالغة منشؤها الإحساس بأنّ الشخص كلّه هنا، أي في الوجه(12)، ولهذا فإنّ أيّ تغيير في مظهر الوجه يؤدي إلى تغيير الإنسان نفسه، هذا ما تقوله بعض مقولات السوسيولوجيا التي ترى أنّ الجسد شيء منفصل عن الإنسان يمكن تعديله وصياغته، وأنّ أي تعديل لمظهر الجسد يؤدي إلى تعديل الإنسان نفسه(13)، وفي ضوء هاته المقولات نعاين شخصية (ياسين) الذي يرسم له والده مساره السردي من خلال التحكّم في مظهره، وهو ما يؤدي لاحقاً إلى تعديل سلوك (ياسين) نفسه ليتماثل مع مظهره الجديد:

“لقد فصّل أبي هيئتي على مزاجه بما فيها لباسي وطريقة كلامي ولحيتي التي طلب مني عتقها لأكمل ديكور الشيخ الذي أراده لمغفرة ذنوبه، ومات وهو لا يعرف أن لحيتي كانت من أجل عزيزة، وأن تنغيم آذاني في مسجد القرية كان من أجلها.. رأيت فيها ذلك الصلف الذي كم توقفت على تخومه، وفي جسدها الممشوق المتبختر في مشيته محرابي السري وسحنة التمرد التي كم اكتفيت بتمثيلها وحدي أمام المرآة، هي التي دربت جسدي على أن يكتشف نفسه، وهي التي كم روت بلعابها شعر لحيتي، وعلمتني طقوس الرعشة منذ بلوغي الأول.. كانت الملاذ لي من كل إحباط، وبئر المتعة الذي قاومت به قسوة المحيط، لذلك عندما عرض علي أبي الزواج لم أفكر في غيرها، وبارك أبي الخبير في النساء الجامحات اختياري، لكن يبدو أن هذا الجموح كان أكبر من شطحتي”(14).

يتعرّض وجه (ياسين) للتشويه بخضوعه لسلطة الأب الذي يتحكّم في وجهه وهيئته الإنسانية ليعيد صياغتهما بما يتناسب مع شخصية الشيخ الذي أراده، ورغم أنّ (ياسين) يستجيب لرغبة والده ظاهرياً غير أنه ظلّ في داخله يناقض هذه الهوية المفروضة من الأب، فهو يطلق لحيته وينغّم صوته في الآذان إرضاء لمحبوبته (عزيزة)، وبما أنّ التعديل في الجسد يستدعي تعديلا في سلوكيّات الإنسان نفسه، فإنّ شخصية (ياسين) تعيش أهمّ تحولاتها السردية بتماهيها مع هذه الهيئة الجديدة التي فرضتها سلطة الأب، فلحية (ياسين) تدفعه إلى الانخراط مع مجموعة من الملتحين الذين يتخذون من اللحية سلاحاً يشهرونه في وجوه الأعداء في أفغانستان: 

“ودون أن ادري وبعد العديد من الاجتماعات السرية والخطط التي لم تنفذ والمحطات التي مررت بها، وجدت نفسي في جبال أفغانستان البعيدة أحارب مع رجال ملتحين لا أعرفهم ولا أعرف ماذا يريدون بالضبط، لكن كلما وجهت بندقيتي لهدف انتصب أمامي طابور من الأعداء المتمترسين في أدغال الذاكرة، المعلم القاسي وأبي والناظر ومشرف القسم الداخلي الشاذ وذلك الرجل المجهول الذي انتزع عزيزة من سريري، فكنت أضرب دون هوادة وأنا أهتف الله أكبر”(15). .

يعاين القارئ في هذا المتخيّل السردي نوعاً آخر من الوجوه المشوّهة، حيث تتدخّل السلطة السياسية لتعبث بالنظام الرمزي للجسد، وهي في ذلك تحاول أن تهدم النظام الجسدي لخصومها عبر تشويه الهيئة الإنسانية للوجوه المنقّبة، يتجلّى ذلك في إطلاق السلطة مجموعة من المومسات المنقّبات لتشحن الوجه المنقّب بدلالة جديدة تناقض الدلالة المعهودة، فيغدو بذلك الوجه المنقّب وجهاً مشوّهاً ومفخّخاً بإحالته على الشيء ونقيضه في الآن ذاته، إنها حيلة السلطة في مقاربة وجه المرأة المحرّم المساس به اجتماعيّاً، فحينما عجزت عن تشويه وجه المرأة ظاهرياً، كما تفعل مع وجوه الرجال الملتحين بحلق لحاهم، نفذت إلى النظام الرمزي للوجه المنقّب لتهدمه من داخله، حيث نقرأ على لسان (ياسين):

“في تلك الفترة بدأت ظاهرة الخمار تنتشر وشكلت قلقاً لأجهزة الأمن، لكن التعامل مع النساء كان أصعب مما هو مع الرجال في مجتمع محافظ لم يزل ينظر إلى المرأة ككائن محذور على التداول بحرية معه حتى وسط تلك الهستيريا، كان من الممكن القبض على الرجال وتحليق لحاهم أو طلائها بالزواق، لكن الخمار صار شبهة مفخخة، وجاءت الفكرة الجهنمية، القبض على مجموعة من المومسات وإبرام عقود عمل معهن ليمارسن مهنة ممنوعة خدمة للأمن الوطني.. يعني.. دعارة وطنية. قالها بصوت منخفض ويبدو أن كل ما مر به من ألم لم يروض حسه الفكاهي القديم الذي طالما تجمعنا حوله طالقين العنان للضحك، لكنه هذه المرة لم يعطِ كعادته وقتاً للضحك، واسترجع بسرعة سحنة جديته وهو يدرك أن فكاهاته أصبحت مطعونة بالمرارة: بمعنى أن يلبسن ملابس الحجاب والخمار ويتوزعن في المدن المنتشر فيها الخمار”(16).

تنجح السلطة في تفخيخ وجه المرأة المنقّب عبر حقنه بمعنى جديد وتفريغه جزئياً من معناه القديم، لنشهد هذا المزج بين المدّنس والمقدّس، بين العهر والطهارة، ونعاين هذه الدلالات المتناقضة تنضوي تحت دالّ واحد، حيث يعمل العهر على تلطيخ الطهارة وتشويهها، ومن ثم تصير كلّ امرأة منقّبة عرضة لاتهامها بامتهان الدعارة، هذا ما يحث فعليّاً مع زوجة (ياسين):

 “كنا خارجين أنا وزوجتي المنقبة في السيارة للتنزه يوم جمعة حين أوقفتنا بوابة، أدخل الجندي رأسه من نافذة زجاجي وقال: أين تذهب بهذه العاهرة؟”(17).

 تُمثّل (عزيزة) أيضاً جزءاً من معركة السلطة في تشويه وجوه معارضيها وهدم هيئاتهم الإنسانية، (عزيزة) التي تركت خطيبها (ياسين) وفضّلت أن تتزوّج رجلاً نافذاً في السلطة في طرابلس تجد نفسها مطلّقة في مدينة لا تعرف فيها أحداً فتمتهن الدعارة، لكنّ السلطة، التي تقيم نظامها السياسي بفرض نظام جسدي تتحكّم من خلاله في أجساد معارضيها، تحتكر الدعارة، فتغدو غير ممكنة إلا بشروط السلطة نفسها، وتصبح الدعارة مهمّة وطنية، تسهم في بقاء النظام واستقراره، نعاين هذا على لسان (عزيزة) وهي تحكي للسارد كيف أصبحت مومساً منقّبة:

“كنت أسير على رؤوس أصابعي وسط هذا الحشد المبتذل، وأنا على يقين أنني أعذب كل واحد فيهم، حتى قبضوا علي مرة وكدسوا أمامي تهماً تكفي لأن أقضي بقية حياتي في السجن، تهم أخلاقية واقتصادية ودينية وسياسية، وتركوا لي باباً واحداً موارباً لا يؤدي إلى السجن، ولم أجد بداً من الموافقة، فارتديت هذا الزي وانطلقت في الشوارع أمارس مهنة ممنوعة ومحمية من كل الأجهزة، وكان دوري تشويه هذا الزي من جهة، واستدراج زبائني ليقولوا كل ما يفكرون به، لكني في النهاية وجدت متعة لا تصدق عبر حركتي داخل هذا السواد الذي يعتم هويتي ويطلق عيني المعزولتين تعبثان بحرية، أحسست أنني كآلهة تَرى ولا تُرى أسيطر على كل شيء، وأني أمارس من جديد حياتي السرية داخل ذلك الخص القديم، الذي تساقطت فيه أوراق الشاي من على لحيتك، وأنت مستسلم لأصابعي هذه التي كانت تدربك على ولوج الحياة من أوسع أبوابها”(18).

هكذا يتخذ صراع السلطة مع معارضيها بعداً سوسيولوجيا، فتشوّه السلطة خارجيّاً أو داخليّاً هيئة أولئك المعارضين، وبما أنّ كلّ نظام سياسي لا بد له من نظام جسدي، نعاين في السياق نفسه حرص الجماعات الجهادية في أفغانستان على حرق محال الحلاقة وتدميرها كي لا تصل مقصّاتهم إلى لحاهم المتدلية، فالمساس باللحية في ذلك النظام السياسي يُعدّ تهمة وخيانة تستدعي العقوبة والقتل(19)، كل ما تقدّم يشي بأهمية الوجه والجسد عموماً في ابتناء هذا المتخيّل السردي، لهذا يصح القول: إنّ الجسد يمكن أن يُمفْهم وأن يشغل موضعاً مركزيّاً في الخيال السوسيولوجي(20)، هذا ما أظهره فعل القراءة الذي كشف عن دور الوجه وهيئته في صراع الهويات المختلفة، لتتمثّل في هذا الجسد والوجه تحديداً، استعارياً، كلّ تلك التوترات السياسية والثقافية والاجتماعية.

خاتمة:

مثّل الوجه دالّاً مهمّاً في بناء المتخيّل السردي لرواية (اللحية) متجاوزاً بعده الشخصي ليجسّد أبعاداً جندرية وسياسية واجتماعية، وغدا بذلك الفضاء الذي تمثّلت فيها الرهانات السياسية والاجتماعية والثقافية رمزياً، فالوجه أقحم الشخصيات في صراعات كانت الهيئة الإنسانية مظهرها الأبرز، هذه الهيئة مكنت فعل القراءة من رصد تحوّلات تلك الشخصيات، بدا ذلك في شخصية السارد التي نمت سردياً من فتى أمرد مسكون بالذكورة المبكّرة إلى رجل ملتحٍ تدفعه لحيته إلى أن يكون جزءاً من صراع لا يربطه به شيء إلا وجهه الملتبس، وبدا أيضاً في شخصية (ياسين) التي نمت في ظل سلطة الأب الذي حدّد لها ملامحها، فغدت الهيئة الإنسانية نفسها سلطة أدّت إلى تعديل أفكار (ياسين) وسلوكه بما يناسب سلطة هاته الهيئة، كما أنّ شخصية (عزيزة) تنمو من فتاة تختبر الجندر في نهديها الصغيرين إلى مومس ترتدي خماراً تحميه السلطة.

جسّد الوجه وهيئته أبرز مظاهر الهوية الاجتماعية، كما أنه انضوى على بعد أيديولوجي صارت بسببه الشخصيات جزءاً من صراع السلطة مع معارضيها، هذا الصراع تمظهر في تتبّع السلطة الوجوه الملتحية وتشويهها، وبذلك أصبحت شفرة الحلاقة عدو الجماعات الجهادية التي حرصت على هدم محال الحلاقة وحرقها، ومن ثم صار إطلاق اللحية مظهراً لمناهضة السلطة، هذه السلطة نجحت في تفخيخ جسد المرأة المحجّبة، فوجدت (عزيزة) نفسها جزءاً من لعبة السلطة في تشويه الوجوه المنقّبة تمارس دعارة وطنية مقنّنة.


الهوامش:

1- انظر، لوبروتون، دافيد، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، تر: محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1997م، ص:99.

2- انظر، لوبروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، تر: عياد أبلان، إدريس المحمدي، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2014م، ص:81.

3- العوكلي، سالم، اللحية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2012م، ص:10.

4- لوبروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص:135.

5- العوكلي، سالم، اللحية، مصدر سابق، ص:10.

6- لوبروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص:135.

7- لمعرفة الفرق بين الهوية الاجتماعية الافتراضية والهوية الاجتماعية الواقعية، انظر، شلنج، الحسد والنظرية الاجتماعية، تر: منى البحري، نجيب الحصادي، دار العين للنشر، القاهرة، ط1، 2009م، ص:122.

8- العوكلي، سالم، اللحية، مصدر سابق، ص:5.

9- المصدر نفسه، ص:8، 9.

10- انظر، لوبروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص:149، 150.

11- العوكلي، سالم، اللحية، مصدر سابق، ص:15، 16.

12- أنظر، لوبروتون، دافيد، سوسيولوجيا الجسد، مرجع سابق، ص:136.

13- انظر، المرجع نفسه، ص:163.

14- العوكلي، سالم، اللحية، مصدر سابق، ص:31.

15- المصدر نفسه، ص:32.

16- المصدر نفسه، ص:33.

17- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

18- المصدر نفسه، ص: 39.

19- انظر، المصدر نفسه، ص:34.

20- انظر، شلنج، كرس، الجسد والنظرية الاجتماعية، مرجع سابق، ص:44.

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 26 (ماعون)

عبدالرحمن جماعة

دراسة لقصة أقدار ساخر لإيمان السنوسي وهلي

عبدالحكيم المالكي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (7) .. ظلّ الذّات.. بحثاً عن صورة الضدّ

المشرف العام

اترك تعليق