الطيوب
تمر السنون كسرعة الضوء بإيقاع زمني يقفز بنا من مرحلة إلى أخرى تسّاقط فيها أوراق الشجر، فيذبل وجه الأيام معلنا عن ميلاد الخريف، وما بين المنطقتين يبرز هاجس الذاكرة بمحنتها وحُرقتها على ما مضى بيد أن للحب متسع شمولي الأبعاد تُنضج تلكم السنوات بالضحكات والدموع بنضارة خفة الوقت وأثر التجاعيد على صفحات العمر، وها هي الذاكرة تنبش أغوارها من تلقاء نفسها حيث يتزامن هذا اليوم مع الذكرى الخامسة عشر لرحيل إحدى أيقونات الحركة الإبداعية الليبية في الشعر والحب والجمال الشاعر “علي صدقي عبد القادر” ذاك الطفل الذي لم يكبر يوما متشبثا بوردته الحمراء رغم نغزات الأشواك ظل مخلصا لقلبه حتى وارى الثرى ضحكته لكنّها ماتزال ترقص بشوارع المدينة وأزقتها تتخذ من الحب والأشعار دربا.
ويُحسب للشاعر الراحل أنه من أوائل الشعراء الليبيين اللذين كتبوا القصيدة بفمٍ يلهج بدعوات الحب وصدر يمتلئ بنسائم وطن اسمه ليبيا فحالما تغنّت حنجرة المطرب الراحل “محمود كريم” صادحا برائعة (بلد الطيوب) تيقّن ابن الأرض أن لبيته قرط يُضيء في أذن السماء، ويُعد الشعر بالنسبة للراحل كأصابعه الخمس في اليد الواحدة يستشقه مثل رائحة أمه، ولا غرو حين أطلق عليه الأديب الراحل “رضوان أبو شويشة” لقب السريالي الأخير كما لم يسلم الشاعر الراحل من ويلات الاعتقال وقسوته فقد تعرّض جراء نشره لنصوص أزعجت سلطات الحكم أوان ذاك الزمن.
الطفل الذي لم يكبر
علي صدقي عبد القادر ابنٌ بارّ للقصيدة حاز عن جدارة على لقب -شاعر الشباب- ولد ونشأ وترعرع في حي الظهرة بزنقة الخلوة بطرابلس في 6 نوفمبر من عام 1924م نال شهادة دبلوم المعلمين ثم تحصل على الليسانس في مجال القانون، عمل لمدة تزيد عن الأربعة عقود بالمحاماة انتقل إلى رحمته الله تعالى عام 2008م عن عمر ناهز الـ83 عاما صدر له عدة مؤلفات شعرية وأدبية ومسرحية، وفي هذا الصدد تشير الشاعرة “حواء القمودي” بأن الراحل قد اهتم بالتفاصيل والاستغراق في الحديث عن الذات، وتصفه بأنه الطفل المتنعّم بالدفء والألعاب لافتة إلى أن الشاعر يكتشف الشعرية في هذا العالم المحيط به (حضن أمي) فهو لم يضفِ شعرية عليه بل اكتشف كل ما به من نبض وحياة وجمال.
شاعر خلّد مدينته الأم
كما يؤكد الكاتب والشاعر الراحل “أبو القاسم المزداوي” أن الشاعر “علي صدقي عبد القادر” خلّد مدينة طرابلس كما لم يسبق لأحد من الشعراء قبله، وفي المقابل منحته هذه المدينة الكثير من الذكريات الجميلة والهواء النقي والهوى العذري والحياة ككل، من جهة أخرى يُبيّن المزداوي من خلال قراءته النقدية لإحدى نصوص الشاعر الراحل بأن نص لدى الشاعر علي صدقي عبد القادر تنقلنا فيه الصورة الشعرية عبر حقائب الطفولة التي تبتعد كثيرا عن مشاغل الكبار وهمومهم فهي ليست حقائق لنقل الوثائق الرسمية وصكوك المال وحجج الأراضي بل هي تحتوي على أشياء نحن في حاجة إليها، ويردف قائلا : فالوردة بما تحمل من معاني الجمال وما تحتويه من الأريج الفواح، وكذلك التفاحة التي يغلب شكلها وجمالها ولونها على أهميتها الغذائية وهو أمر أخر يجب ألا نغفل على أهميته.