اشتيوية محمود
الشفاهية والكتابية عند نقاد الأدب
كتب العديد من النقاد في موضوع الشفاهية والكتابية، ومنهم عزالدين البنا وجاك دريدا وأدونيس ومحمد القاضي وسعيد يقطين وعبد المنعم الزبيدي وجيمز مونرو وغيرهم، فهل تم تناول هذه القضية من منظور واحد أم أن زويا النظر قد اختلفت؟! هل تُعد الشفاهية نسقًا ثقافيًّا يحمل في طياته البداوة والبساطة؟ وهل تُعد الكتابية تمظهرًا لنسق التمدن والتعقيد؟!
الشفاهية والكتابية_ تآلف واختلاف:
يشير والترج. أونج إلى أن مراحل الوعي المستوعبة داخليًا بدرجة عالية، هي التي لا يكون فيها الفرد غارقًا دون وعي منه في البنيات الجماعية، وهي المراحل التي يبدو أن الوعي لم يكن ليصل إليها دون الكتابة فالتفاعل بين الشفاهية التي تشكل أول الوعي وتشد الكائنات الإنسانية أحدها إلى الآخر والكتابية التي تخلق الانقسام والاغتراب وتزيد من حدة الوعي، يجعلهما تندمجان في ثنائية دينامية داخل التطور الحديث للوعي نحو داخلية أشد وانفتاح أكبر على السواء؛ فكل التقاليد الدينية للنوع الإنساني أصولها البعيدة في الماضي الشفاهي؛ لكن تم استيعابها من خلال النصوص الدينية (1) .
وفي كتاب (النظم الشفوي_ الشعر الجاهلي) يتناول جيمز مونرو ظاهرة الانتحال من خلال ثنائية الشفاهية والكتابية، ويصف محمد بن سلام الجمحي بالدقة في إطلاق مصطلح الانتحال على ظاهرة الاختلاف بين النص الشفهي والمكتوب، وفي مقارنة بين شفوية الشعر الجاهلي وطبيعة الشعر الإسلامي الذي استخدم الكتابة، يعرض نظرية باري ولورد عن الشعر الشفوي إذ يقول “إن الشاعر الشفوي ينظم خلال حدث الأداء الفعلي، أي أن نقول أنه يرتجل، ولابد أنه حقًّا عمل ذلك بسرعة جدًّا إذ كان عليه أن يستبقي الجمهور الواقف فورًا أمامه. ولكي ينجز الشاعر الشفوي هذا العمل الفذ الملحوظ لإنتاج أشعار منتظمة ارتجالًا ومن غير مساعدة الذاكرة فإنه لم يكن يفقر كلية إلى موارد العطاء الفنية، ذلك لأنه يعتمد على مستودع من القوالب الصياغية”(2) وليس للقصيدة الشفوية نص ثابت حتى تكون قد كُتبت من إملاء الناظم. وقد يضاف لها عناصر جديدة مع كل أداء، وقد يُعاد تشكيلها بالكامل.
ويناقش جيمز مونرو تحت عنوان الدليل الخارجي لطبيعة الشعر الجاهلي الشفوي أن النقاد العرب اعتمدوا على رواية المخبرين البدو الشفوية في تدوين وجمع الشعر ومع أن شفوية النقل بدت واضحة لهم إلا أنهم ركزوا على فعل الرواة واعتبروا بعضهم رواة سيئوا السمعة، وفي دفاع الجاحظ عن العرب ضد الاتهامات التي كانت تثيرها الشعوبية يفرق بين كلام الفرس الذي هو نتاج تفكير وخلوة وتسلسل، وكل شيء للعرب كأنه إلهام؛ فهو بديهة وارتجال، وليست هناك معاناة ولا إجالة فكر ولا استعانة، ويرى جيمز مونرو أن التقليد الشفوي لازال ساريًا في جزيرة العرب على الرغم من مضي خمسة عشر قرنًا، فقراءة ذلك الشعر ظلت مرتبطة بتقاليد العصور الوسطى في الإقصاء وعدم التتبع، وهكذا فليس هناك نص أصلي. وكثيرًا ما ينسى الشعراء القصائد التي نظموها، وكثيرًا ما يجبرون على إنهاء قصائدهم بسرعة عندما يحسون أن المستمع بدى ضجرا، ولذلك تميل خواتيم القصائد إلى عدم الاستقرار، على عكس مطالعها.
وتحت عنوان الدليل الداخلي لطبيعة الشعر الجاهلي الشفوي يصنف جيمز مونرو الصيغ التكرارية إلى أربعة أصناف:
1_القالب الصياغي: فهو بحسب مفهوم (باري) لا يشمل إلا التكرارات الحرفية (عفت الديار: معلقة لبيد_ عفت الديار: امرؤ القيس_ لمن طلل: زهير_ لمن طلل: لبيد…).
2_ النظام الصياغي: إن الكلام الصياغي الشفوي هو بمعنى من المعاني نحو ثان في نطاق نحو اللغة المحلية. إنه يسمح بتوقفات ممكنة قليلة جدًّا للكلمة. أي تلك التوافقات المفيدة في انتاج كلام وزني منتظم (يا عمرو: المفضليات_ يا بؤس: امرؤ القيس_ يا ذات: المفضليات_ يا دار: زهير…).
3_ القالب الصياغي البنيوي: وجود مجموعتين أو أكثر من الكلمات في نفس القالب الوزني (إلى كل محبوك: لبيد _ إلى جذر مدلوك: زهير_ على عجل: امرؤ القيس_ على أحد: المفضليات…)
4_ الألفاظ التقليدية: وهي استعمال كلمات ذات ارتباط بأصل تاريخي واحد، لنقل أفكار ومعاني تقليدية محددة (بمنى تأبد: معلقة لبيد_ تأبد: النابغة…) (3) .
إن الخواص السابقة نموذجية للشعر الشفوي بوجه عام، لا يشترك معها الشعر المكتوب، فطرق النظم والإيصال تحدد بنية المحتوى، ودون هذا الوعي لن يكون للنقد الأدبي معنى، حيث يذهب فريق من النقاد إلى تمجيد الشعر الجاهلي ويرى الفريق الآخر أنه مجموع أدب ممل ومكرر، فدراسة بنية الشعر الشفوي هي خطوة إيجابية لتذوق جماليته، حيث إن الشعراء الجاهليين افتقروا إلى الطرق الفنية المتطورة، لكن طريقتهم الفنية البديهية كانت ملائمة للمحيط الشفوي الذي نظموا فيه(4) .
ويرى عبدالمنعم الزبيدي في كتابه (مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي) أن الشعر الجاهلي شأنه شأن أي أدب جماعي أو شعبي الطابع، يمثل حكمة العرب وعلمهم ومعتقداتهم ومواقفهم الفكرية والعاطفية التي تناقلوها مشافهة دون اعتماد الكتابة، فالشاعر الجاهلي راوٍ ومؤلف في الوقت ذاته وقصائده تكرار لما سبق وخلق جديد في آن؛ فالشعر الجاهلي يمثل أدبًا موروثًا مأثورًا، نصيب الفرد فيه أقل بكثير من نصيب الجماعة، وكانت القبائل تتناقله شفهيًّا معتمدة على الذاكرة والممارسة الدائبة دون الكتابة، تتوارثه الأجيال اعتمادًا على الكلمة المنطوقة دون المكتوبة(5) .
وقد قد تناول دريدا الكتابة من خلال دراسته لاعترافات إنسان لـ (جان جاك روسو) الذي عدّ الكتابة ملحق للكلام؛ فهي عرضة لسوء الفهم إذ تتم قراءتها في غياب المتكلم على عكس الكلام؛ فهي مضللة، ويتوقف دريدا عند كلمة ملحق التي تعني (التكملة أو الإضافة) ويتساءل هل تُكمل الكتابة ما فقده الكلام، أو أنها تضيف شيئًا يمكن للكلام أن يفعل فعله في غنى عنه تمامًا؟ ويستمر روسو في وصف الكتابة على أنها زيادة وإضافة غير جوهرية، ويرى دريدا أن كتابة روسو ذاتها تسد نقصًا في كلامه، فهو قد اختار كتابه اعترافات (ـه) ليخفي نفسه عن المجتمع؛ فهو لن يظهر في وضع غير موات كما يقول، إذًا فهو ذات مغايرة ومتباينة عن تلك التي تخرج في الحوارات، وهو في حاجة للكتابة ليتمم علامات كلامه المضللة(6) .
ويناقش محمد زغلول سلام “إشكالية العلاقة بين الخطبة والرسالة أو النص الملقى والمقروء والنص المكتوب، ذلك أنهما وإن كانا كما قال القلقشندي من ضرب واحد هو النثر إلّا أنهما يختلفان في طريقة الأداء. ذلك أن النص المقروء يعتمد أكثر ما يعتمد على الصوت وعلى الرسم، فاللفظ المُؤدَّى الملفوظ والمسموع هو أداة التوصيل للمتلقي… وقد يتجاوز الخطيب في سياق الترتيب المنطقي وترابط المقدمات بالنتائج، أو توفير الحجاج العقلي، اعتمادًا على التأثير البياني بفخامة اللفظ… وهو عكس الحال في الرسالة أو الكتابة لاعتمادها على رسم الكلمات. وهنا قد يحسن إطالة العبارة، واستطرادها على عكس الخطبة التي لا يحسن فيها إطالة الجملة، بل كل ما كانت الجملة أقصر، والاستطراد أقلّ كانت الخطبة أبلغ وأوقع أثرًا”(7) . ويتضح من هذا الاقتباس الفرق بين الشفاهية في الكتابة التي تميل إلى الترديد والتكرار وغير ذلك من الجماليات التي تجعلها تتنصل من التحليل وإيراد الحجج والبراهين، فهي تكتفي بالملفوظ وطريقة أدائه، على عكس الكتابية التي تميل إلى التدقيق والإقناع وفق آليات الاستدلال، وذلك من خلال إيراد معارف جديدة تُعلي من شأن التفكير قبل وسائله، وكأن ذلك يقود إلى ثنائية الشكل والمضمون التي طُرحت في النقد القديم وتناولتها المناهج النقدية الحديثة مثل البنيوية والسيميائية.
الخلاصة:
يستخلص مما سبق أن ثنائية الشفاهية والكتابية، لا يمكن دراستهما بمعزل عن نظرية الأدب فلكل منهما خصائصه وملابساته التي لا يمكن للدراسات النقدية أن تتم بطريقة علمية دون الرجوع إليه فعلى سبيل المثال: ترتبط الشفاهية بالبساطة والتكرار واختلاف الروايات، على عكس الكتابية التي تتصف بالعمق والإبداع والثبات في الصياغة، ويمكن دراسة ثنائية الشفاهية والكتابية في ضوء بعض المصطلحات التي تتماس معها في الإشكالية ومنها:
الشفاهية _______________ الكتابية
الشكل ________________ المضمون
القدم _________________ الحداثة
البداوة ________________ التحضر
الثابت ________________ المتحول
ولا يُقصد بالثبات هنا ثبات الشكل، وإنما بمعنى التكرار ومسايرة النسق العام للجماعة، على خلاف التحول الذي يخرج عن النسق العام مثل خروج أبي تمام عن عمود الشعر، إذا يمكن الخروج بنسق شفهي اتباعي يحمل أفكار وتقاليد الجماعة، وعلى النقيض من ذلك نسق إبداعي يُعلي من شأن الفرد ويتمرد على النسق الأول.
20_1_2024م.
الهوامش:
(1) _ ينظر: والترج. أونج: الشفاهية والكتابية، ترجمة: حسن البنا عز الدين، مراجعة: محمد عصفور، 1994م، ص 248.
(2)_ جيمز مونرو: النظم الشفوي_ الشعر الجاهلي، ترجمة: فضل بن عمار، دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، ص27.
(3) _ ينظر: جيمز مونرو: النظم الشفوي_ الشعر الجاهلي، ص27_50.
(4)_ ينظر: جيمز مونرو: النظم الشفوي_ الشعر الجاهلي ،ص 74_76.
(5)_ ينظر: عبدالمنعم خضر الزبيدي: مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي، منشورات جامعة قاريونس، 1980م، ص 283_285.
(6)_ينظر: جوناثان كالر: النظرية الأدبية، ترجمة: رشاد عبدالقادر، منشورات وزارة الثقافة_ دمشق، ص18_19.
(7)_ محمد زغلول سلام: الأدب في العصر المملوكي (فنون النثر وأعيان الكتاب)، منشأة المعارف_ الاسكندرية، 2/12.