أسامة بن هامل
في خضم المقالات التي تنشرها العديد من المنصات الليبية، والتي تكشف عن رغبة في دراسة التاريخ الليبي لإضاءة عتمة صفحات لا تزال حاضرة في الوجدان الليبية مع غياب تفصيلاتها، تبرز إشكالية منهجية تعيق فهمنا لحركية التاريخ المحلي وتفاعلاته الحضارية؛ إنها معضلة القراءة الخارجية للظواهر التاريخية عبر عدسات مستوردة، بدل الغوص في أعماق المصادر المحلية التي تحمل المفاتيح الفهم الأقرب. في هذا الخضم تظهر هذه الإشكالية بوضوح عند دراسة التصوف الليبي ومشاريعه الإصلاحية، حيث ينزلق كثير من الباحثين إلى فخ التأويلات المستندة إلى مرجعيات أجنبية أو تصورات مسبقة، في حين تكشف القراءة المتأنية للمصادر الداخلية عن حقائق مغايرة تنسف الكثير من المسلمات السائدة.
وأبرز مثال على هذا الانزياح المنهجي الارتباك الكبير عند دراسة مشروع الإمام محمد بن علي السنوسي عبر قراءات اختزالية تلبسه ثوب المشروع السياسي الطامح لبناء الدولة الحديثة، سببها – برأيي – عدم القدرة على إفراز أدوات قراءة الفكر السنوسي الصوفي من داخله، فتحولت السنوسية على يد باحثينا من “طريقة” الى “حركة” تشبه ورشة سياسية وإن أشاروا على أدوار أخرى لها، وظلت بذلك دراساتهم أسيرة تصورات استشراقية تركز على الشكل والمظهر دون قدرة على تجاوز الأطر الخارجية ببذل الجهد لقراءته من الداخل ورصد أسسه ومنطلقاته. ولأن نظرية الحكم والسياسة ليس واضحة في الفكر السنوسي – كما في يظن باحثينا – ذهبوا إلى لوي أعناق مقولات وكتابات الإمام السنوسي لإثبات انخراطه في المعترك السياسي، فمن النسب الشريف السنوسي كغطاء لشرعية الحكم الذي كان يسعى إليه، الى إعطاء فكرة “الاجتهاد” لدى الإمام السنوسي معاني سطحية ترمي الى مفهوم “حرية التفكير” لفك قيود الخطاب الفقهي التي ضربها على العقل العربي – وفق فهمهم طبعا – على الرغم من أن كتبه مثل “إيقاظ الوسنان” تؤكد على التزامه بمنهج المذاهب الفقهية وتقيده بقواعدها.
لاشك في أن مثل هذه القراءات المشوهة لا تعكس سوى العجز عن فهم الخطاب الصوفي من منطلقاته الداخلية، والفشل في إدراك أن الإصلاح الصوفي “يبدأ من القاعدة لا من قمة الهرم”، وكل هذا يزيد من الحاجة الى فهم التصوف وخصوصيته الليبية لإجلاء دوره كفعل هام ضمن فواعل حركة التاريخ الليبي، بداية برصد تجليات أثره في تشكل الهوية الليبية – مع اعتراضي على هذه التسمية والتوصيف: “الهوية” – مرورا بأثره المباشر في بناء أغلب مناحي الحياة في المجتمع والسياسة والاقتصاد والفكر والثقافة.
المنهج التسطيحي نجد أنه يتكرر عند تناول شخصية أخرى محورية في التاريخ الليبي، وهي شخصية الإمام عبد السلام الأسمر، إذ نجد الكثير من باحثينا سقطوا في فخ المقاربات التبسيطية. ففي حين ذهب الأستاذ عمر الكدي في مقال عنونه بــ”لماذا فشل مشروع عبد السلام الأسمر” إلى الحكم المسبق بفشل مشروع الأسمر في بناء كيان سياسي، مستندا في ذلك إلى قراءات في نصوص ووقائع لا تتصل بشكل وثيق للمشاريع الإصلاحية، نجد الأستاذ منصور أبوشناف في مقاله (منارات) يقترب عند حديثه عن مشروع الشيخ أبوالقاسم البصير من خلال زاويته في قرزة، من الجوهر الحقيقي للمشاريع الصوفية، عندما اعتمد على دراسة حديثة استندت الى مصادر محلية كشفت عن دور مؤسسة الزاوية الصوفية ونجاحها فيما يمكن نسميه بخلق تنمية مكانية شاملة، حيث تحولت “قرزة” من منطقة قفر صحراوية إلى مراكز إشعاع ثقافي واقتصادي، ما يفتح أفقا للحديث عن مشروعات إصلاحية أخرى ناجحة مثل مشروع الشيخ محمد الأزهري الجروي في منطقة “طبقة” التي بنى فيها زاوية على تقاطع مسارين تجاريين وحولها على مركز جذب حضاري بعد أن كانت قفرا.
الحقيقة التي تغيب عند قراءة المشروعات الصوفية في ليبيا أنها تشتغل على مستوى مختلف تماما عن منطق الدولة الحديثة، فـ”المرابط” الليبي أدى أدوارا متعددة ومتشابكة من خلال مؤسسة الزاوية، التي عُرفت في بعض الفترات بــ”الأربطة” بسبب وقوعها على ساحل البحر للمرابطة فيها، فلم يكن دوره للحراسة ومراقبة الثغور فقط، فمواقع تلك “الأربطة” الملاحظ أنها تقع مشرفة على الموانئ، ما يشير الى مشاركتها في حماية التجارة البحرية، وهي ملحظ هام يعكس وعي “المرابط” بأهمية التجارة كشريان للحياة، ويزيد ذلك وضوحا بالنظر الى مشروع الشيخ البصير في “قرزة” والشيخ الجروي في “طبقة”، في تأمين طرقات التجارة الصحراوية وربطها بمسارات تأمينها من البحر. قلت هذا باعتبار اعتناء الاستاد الكدي بالأبعاد الاقتصادية لفهم مشروع الامام الأسمر الذي ظن أنه مشروع سياسي وفشل!
من تجليات أزمة القراءة والمنهجيات، الاستناد الى كلام منسوب الى الإمام الأسمر منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي والقول بأن ورد “في مطلع وصية عبد السلام الأسمر”، وكان من الأجدر بالأستاذ الكدي الرجوع إليها، فهي مطبوعة متداولة ولا يوجد فيها على الاطلاق مثل هذا الكلام. والى جانب وصيته توجد رسائله، المطبوعة أيضا، والتي تظهر نجاح مشروعه بالنظر الى مناطق توزعها، إذ أرسل بعضها الى أتباعه في تونس وسوس الأقصى بالمغرب وتنبكتو في مجاهل صحراء افريقيا، ما يعكس خارطة انتشار دعوته الإصلاحية للتجاوز ليبيا الى آفاق أوسع. بالإضافة الى مصادر أخرى تزيد من وضوح نحاج مشروع الإمام الأسمر مثل سيرته التي كتبها تلميذه عبد الرحمن المكي الحجازي (مخطوطة) التي قال فيها: “وقد اتفقت على ولايته وطريقته المشارقة والمغاربة وجاءوه واقتدوا به وتركوا معه في زمانه جميع المشائخ والطرق ولو عاش بعد ذلك لاتخذه أهل المشرق والمغرب مذهبا لعلو ذوقه ومراتبه العلية”، ولننتبه لكلمة “مذهب” وقد وردت على لسان الشيخ عبد الرحمن المكي، وهو فقيه محدث، وبالفعل نجد هذا الصدى في أكثر من مكان، كشخصية سالم السنهوري المصري، الذي صار شيخا للأزهر فيما بعد، فقد ترك مصر وعلمائها وجاء لمدرسة الامام الأسمر في زليتن ليتعلم عليها عليه ويتخرج على يديه، وتاليا كتب في سيرته كتابا سمّاه “النور النائر”، وهو مطبوع محقق.
لا يقتصر الأمر على الأستاذ الكدي، فالأمر نفسه حدث مع الأستاذ د. عبد الحميد الهرامة لما أجرى عملا تحقيقيا على “روضة الأزهار” للشيخ كريم الدين البرموني، تلميذ الإمام الأسمر، فعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب إلا أن د. الهرامة أغرق مقدمته الدراسية للكتاب بإسقاطات غريبة عجيبة، لم يضف فيها شيء سوى أن واجه رأي البرموني الفقهي برأي آخر فقهي يعارضه، أما أكبر هنات – ولن أقول خطأ أدبا مع الأستاذ الهرامة – أنه نسب مخطوطا حديثا عنوانه “الزهر في الأكمام” الى خليفة الشيخ الأسمر الشيخ عمر بن حجا، فقط لتطابق اسم المؤلف ولقبه، مع أن المؤلف من نسل الشيخ بن حجا المعاصرين.
ولاشك فإن إغفال كل هذه المصادر يعكس أزمة منهجية أعمق تتعلق بفقدان أدوات القراءة التاريخية من الداخل، خاصة وأن امتلاك هذه الأدوات تتطلب إلماما بالعلوم التي تكونت فيها تلك الشخصيات الصوفية، فقضية “الاجتهاد” عند الامام السنوسي تتطلب دراية بعلوم الفقه وأصوله لنفهم أنه لم يكن يتحدث عن “مجتهد مطلق” بل “مجتهد داخل المذهب”، وأكثر من ذلك يبدو الارتباك في نتائج دراسات أكثر باحثينا نابع مع صعوبة فهمه لاصطلاحات التصوف ما يجعلهم غير قادرين على تفكيك الخطاب الصوفي، وأكثر صعوبة في اقترابهم من فهم التصوف بخصوصيته الليبية التي ولاشك تظهر في اختلاف مشروعات التصوف الإصلاحي في ليبيا عن غيرها من الأقطار الأخرى.
وليس المعنى هنا عدم وجود بعد سياسي في المشروع الإصلاحي الصوفي، لكنه لون آخر من التعاطي مع قضايا عصرهم يبرز لونا من التعاطي السياسي يختلف عن مفاهيم الحكم الحديثة، فزيارة مراد آغا -أول حاكم عثماني لطرابلس- للإمام الأسمر في زاويته بزليتن، وتحوله إلى تلميذ له وفقا لما تذكره العديد من المصادر – ومن بينها الحوليات الليبية لشارل فيرو باعتبار موثوقية المصادر الأجنبية أوساط جامعاتنا- لا تعني بالضرورة مشاركة الإمام الأسمر مباشرة في تفاصيل الحكم والسياسية، بقدر ما تعكس نجاح المتصوفة في صياغة نمط من الموازنة مع السلطة السياسية.
بل وحتى مشاركة الإمام الأسمر في الجهاد ضد المستعمر كان بطريقة تختلف عن المشاركات السائدة، بل مشاركة تكشف عن وعيه العميق بضرورة مقاومته من الداخل وقدرة على مواجهته عن قرب، فمن نفاه من طرابلس لم يكن الوالي العثماني بل الاسبانيين بعد أن نجح في التضييق عليهم من على منبره في جامع الناقة مسجد حاضرة طرابلس – الذي كان إمامه، وهو امتداد لمعنى “المرابطة” في حماية الحاضرة المجتمعية. ومن جرد حملة عسكرية لملاحقته في منفاه بجبل سوف الجين لم يكونوا العثمانيين، بل الاسبان لدوره المستمر في مقاومتهم، ولا اعتقد أنه من المنطقي أن تُجرد مثل هذه الحملة على رجل متنسك منعزل في رأس جبل بصحراء قفر، فموقع منفاه في جبل سوف الجين لا يزال الى اليوم يحمل اسم “القلعة” بكل ما يحمله هذا الاسم من دلالات عسكرية التي تشير الى ممارسته لأدوار جهادية لا تزال غائبة عنّا. كما أن له موقفا من فرسان القديس يوحنا الى حد تأثيرها لزمن طويل، فالحملة التي قادها يحيى السويدي بدعم من فرسان القديس يوحنا – كما يؤكد ايتوري روسي نقلا عن ارشيفهم في مالطا ذات 365 كنيسة كما يخبرنا إحصاء الأستاذ الكدي – بعد وفاة الامام الأسمر بــ 15 سنة تدل على عمل انتقامي، فقد دمر السويدي وحلفائه منشآت الزاوية وقتلوا شيخها، الشيخ عمران نجل الإمام الأسمر، وعشرين من أساتذتها، وربما ليس للانتقام فقط بل لدور زاوية الإمام الأسمر المستمر في التأثير كما أرساه مؤسسها.
إن ريادة المشاريع الإصلاحية الصوفية في خصوصيتها الليبية تكمن في نجاح أصحابها حيث فشلت النخب السياسية؛ فخلقت تحولات مجتمعية عميقة الجذور بينما كان القادة السياسيين تتهاوى دولهم بسهولة أمام الغزاة، واستطاعت تلك المشاريع الحفاظ على استمرارية النسيج الاجتماعي عبر قرون. فلم يكن التصوف في خصوصيته الليبية مجرد حالة فردية بل نظام مجتمعي متكامل انتج ثقافته الخاصة وحمي اقتصاده المحلي وصان هويته في وجه العواصف، وهذا النجاح لا يقاس بمعايير تأسيس الدول وزوالها، بل بمعيار القدرة على تشكيل وعي جمعي مقاوم للاندثار.
ما تحتاجه الساحة البحثية اليوم هو ثورة منهجية تعيد الاعتبار للمصادر المحلية التي بدأت الأوساط الاكاديمية الى الانتباه إليها، فسمتها بــ”الدفينة” و “البديلة” و “والرديفة” لاحتوائها على تفاصيل مهمة عن الحياة بشتى صورها، هذه المصادر مهمة لكن أهميتها متربطة بالقدرة على قراءتها من واقع إفراز أدوات من داخلها لقراءتها والتوصل من ثم لفهم حركية الإصلاح من الداخل. إنها دعوة لانتشال التاريخ من براثن القراءات من الخارج التي حوّلت تراثنا إلى مجرد ظاهرة أنثروبولوجية، بل دعوة لاستعادته كمشروع حضاري متكامل يستحق الفهم من خلال مفرداته الخاصة.
بالمناسبة، وقبل أن انتقل الى الحلقة التالية من هذه السلسلة، فالتصوف الذي أقصده، هو تصوف المدرسة الليبية بخصائصها ومناهجها وشخصياتها، فليبيا تميزت “بأن القادة الفعليين لمسيرة حضارتها على كافة الأصعدة منذ وجد الإسلام على أرضها كانوا دائما من رجال التصوف، ولا تكاد تجد مجالا علميا أو اجتماعيا أو ثقافيا لم يكونوا هم بناته ومؤسسوه، وواضعوا لبنته الأولى”، بنص عبارة أستاذنا الشيخ أحمد القطعاني أهم من أرخ للتصوف في ليبيا وعلى أطروحته استند واستمد، لا التصوف الداعي للانسحاب من الحياة والانعزال عنها بدعوى التنسك والتعبد، والدروشة التي حولته الى مواكب فلوكلورية تراجعت معها الحياة في مؤسسة الزوايا.