مختار المرتضي
«ذاكرة الميدان» كتاب صدر حديثاً للصديق العزيز والباحث الجاد شكري محمد السنكي.. كتاب بذل فيه الكاتب جهداً عظيماً وليالي طوالاً في كتابة صفحاته معتمداً على البحث الرصين عن الحقيقة، والوقائع كما اثبتتها شهادات الشهود، والاستناد على الوثائق المتعلقة بالأحداث، والتمحيص الدقيق لمرحلة عصيبة من تاريخ وطننا الجريح، الذي ما إن يندمل له جرح حتى تصيبه جراح جديدة.
كتاب «ذاكرة الميدان» نتاج بحث وجهد دؤوب، وغربلة وتصنيف وسرد وترتيب تاريخي لما واجهته صفوف الوطنيين في نضالها من أجل الحرية والدفاع عن دولة المؤسسات التي وئدت يوم انقلاب سبتمبر.
صفحات الكتاب مملوءة بأحاديث الصراع بين الحرية والاستبداد، وبين الانعتاق والزنازين، وبين العيش كريماً والمشانق.. «ذاكرة الميدان» حين تقرأه يعصرك الوجع ويوخز قلبك الألم. وترى في الأفق البعيد ضياء فجر قادم نراه قريباً ويرونه بعيداً.
«ذاكرة الميدان» سجل متكامل للعسف والقمع والاستبداد والفتك والسجن وزهق أرواح أبناء شعبنا.. فالكتاب حين تقرأه تقف أمام عمل توثيقي رصين وجهد ضخم بذل فيه المؤلف طاقات هائلة لإصداره بهذا الشكل العالي بما ضمنه من معلومات كثيفة وأسماء وأحداث وتواريخ الكثير منا يجهلها، تعري وتكشف إجرام حكم سادي ينتشي بعذابات الشعب ويتلذذ بآلام أبنائه ويبتهج حين يرى المواطن يعاني من البؤس والفقر وشظف العيش، ويرقص فرحاً حين يتدلى من أعواد المشانق في الميادين العامة رجال الوطن الأحرار.
«ذاكرة الميدان»، من خلال تجربتي المتواضعة في العمل بالأرشيف والتوثيق، هو عمل متكامل تقوم به مؤسسات حكومية، ومراكز بحوث لها طاقم متفرغ ومتخصص في البحث والتوثيق.. ودون أي مبالغة فالكتاب جدير بأن يكون بحثاً لرسالة الماجستير أو الدكتوراة لقسم التاريخ والعلوم الاجتماعية في جامعة بنغازي.
«ذاكرة الميدان» ليس رواية خيالية، وليس سرداَ لفصول مسرحية درامية اختلط فيها الحدث بمشاعر الكاتب. ولم ينمقه الكاتب بعبارات رنانة ولا تعابير جمالية، ولا استشهد بنصوص من الأدب العربي، بل كانت لغته سهلة ومفرداته بسيطة، فالحديث عن الحقيقة لا يحتاج لعناء الصناعة اللغوية والاستعارات والكنايات وضرب الأمثال. والحديث عن مرارة الواقع لا يحتاج لمكياج أو تجميل أو كلمات مصطنعة. وقد جاء الحديث في الكتاب سلساً متصلاً واضحاَ يفهمه الجميع باختلاف مستوياتهم العلمية.
«ذاكرة الميدان» يروى قصة وتاريخ وطن تم تنفيذ حكم الإعدام فيه ببطء خلال 42 سنة. وطن انتشر فيه الخوف والرعب وطمست فيه الشخصية الوطنية الليبية المميزة الرائعة، وعلق فيه أبناء الوطن على المشانق، وقتل فيه رجال قواته المسلحة برصاص التآمر في ساحات الحروب العبثية، وتم اغتيال معارضي حكم الاستبداد غدراَ في مدن العالم.
«ذاكرة الميدان» كتاب جدير بالقراءة والاقتناء خاصة لمن كان شاباً في بدايات السبعينات وعاصر الحركة الوطنية والعمل النقابي والاتحادات الطلابية.. كما هو جدير بالاحتفاظ به كمرجع ووثيقة تاريخية تؤرخ لمرحلة من تاريخنا الليبي وخاصة تاريخ الحركة الطلابية في الداخل والخارج، ففيه تسطع مواقف البطولة والإباء وتظهر مواقف الخسة والنذالة والبطش والظلم.. تمتزج مشاعر الحزن بالفرح ومشاعر الخوف المفعم بالطمأنينة والأمان، ومشاعر اليأس المختلط بالأمل. وكما يقول مظفر النواب:
«ﻭﻃﻨﻲ ﻋﻠﻤﻨﻲ.. ﻋﻠﻤﻨﻲ ﺃﻥ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﻣﺰﻭﺭﺓ ﺣﻴﻦ ﺗﻜﻮﻥ ﺑﺪﻭﻥ ﺩﻣﺎﺀ»..
«ذاكرة الميدان» كتاب لا تستطيع أن تقرأه بعينيك فقط، بل يجب أن تحرك لسانك وأنت تقرأ الحروف والكلمات.. فهناك بعض المقاطع والصفحات لا تجوز القراءة فيها إلا بصوت جهوري وتقف عندها ويقشعر جلدك مما فيها من حقائق ويسرح تفكيرك فيها إذا كنت ممن عايش تلك الأحداث أو كنت من ضمن فرسانها، أو ضحاياها، أو صناعها.. فالكتاب يسلط الضوء على كيف يتم الانقلاب وكيف ينجح، وكيف يتم وأد خيارات الشعب وتطلعاته وإيقاف حركة النهضة وجر البلاد للوراء «خلف در»، ثم دفعها في نفق مظلم من العسف والجور والغبن والتخلف.. وكيف يتحول الوطن إلى زنازين.. وكيف يتحول حماة الحمى إلى قيد وأصفاد وأغلال وسجانين لضرب التحولات الديموقراطية والحريات، وكيف تسد كل أبواب التقدم والحضارة.. وكيف يخنق الوطن ويمنع عنه الهواء.. وكيف يتم خلق الفوضى الشعبية، وبدونه الدولة وضرب قطاعات الشعب بعضها ببعض.. وكيف يتم تصحير الوطن والتخلص من مثقفيه الوطنيين.. وكيف يتم نشر الخوف والرعب وتكميم الأفواه.. وكيف يتحول مشروع قيام دولة دستورية متحضرة بعد انقلاب سبتمبر وخاصة بعد خطاب النقاط الخمس إلى معتقل يقوده أعراب وصعاليك ومجرمون أوقفوا حركة النمو والتقدم وحولوا الحلم الوطني إلى كابوس مظلم مخيف غارق في الدماء شعاراته الخيمة والمشانق «سير ولا تهتم.. صفيهم بالدم».
الكتاب يحدد ثلاث محطات رئيسة وهي الشهيد عمر على دبوب، والشهيد محمد الطيب بن سعود، والشهيد عمر المخزومي وهم شهداء الحركة الطلابية والنقابية تم إعدامهم شنقاً في ميدان الكاتدرائية والميناء ببنغازي أمام جمهرة من المواطنين وتركت جثامينهم ساعاتٍ طوالاً متدلية من حبل المشنقة ولم تسلم جثامينهم لأهاليهم.. كانت هذه سياسة المستعمر الإيطالي الفاشي في شنق المجاهدين في الميادين العامة وأمام جمهرة من المواطنين. وتجاوز بطش معمر القذافي بمراحل المستعمر الإيطالي، الدوتشي موسيليني وغرسياني اللذين سلما جثمان الشهيد عمر المختار لأهله لدفنه على الطريقة الإسلامية.
هذه المحطات الثلاث كانت نصف الكتاب الأخير وكان النصف الأول من الكتاب المئة صفحة الأولى يعالج قضايا وطنية عديدة من العهد الملكي والتنظيمات السياسية في ذلك العهد والحركة الطلابية وأحداث 1964م ومواقف الحكومة الليبية من القضايا العربية. ثم يلج بنا في عهد انقلابي سبتمبر وفصول من عسف وقهر الطغمة المنقلبة على الشرعية كما يعرض فصولاً من الكفاح والنضال الوطني والمقاومة في داخل ليبيا وخارجها، ويتابع معنا تطور الأحداث ومواقف الحركة الطلابية ورجالاتها الوطنيين في مواجهة الاستبداد وتغول قوى الانقلابيين ودفاع الطلاب عن الجامعة الليبية واستقلاليتها. كما يعرض الكتاب فصولاً كثيرة واحداثاً عن تكوين الاتحاد العام لطلبة ليبيا في الداخل والخارج بالتواريخ والأسماء والوثائق، والمواقف الوطنية للاتحاد العام لطلبة ليبيا وصراعه مع سلطات سبتمبر الفاشية ولجانه الثورية «الغستابو».
الكتاب «ذاكرة الميدان» يتكون من 264 صفحة بالحروف الكبيرة مما يسهل عملية القراءة منها 30 صفحة وثائق في نهاية الكتاب وهو كما قلت آنفاً جدير بالقراءة وإضافة رائعة للمكتبة الليبية، وجدير بأن يزين مكتباتكم ويكون مرجعاً تاريخياً لحقبة مظلمة مرت بها ليبيا تحت حكم عسكري فاشي صعلوك أرعن، لم يخلف وراءه بعد حكم 42 سنة إلا الجهل والخراب والظلام..
مات نيرون وعاشت روما..
مات الدوتشي وغرسياني،
ومات العقيد،
وسيموت الطغاة..
ويحيا الشهيد..
ويحيا الوطن..
الأربعاء الموافق 23 أغسطس 2023م