تطالعني بين الحين والآخر نصوص منثورة مُضمَّخة بعبق الشعر ولغة الوجدان وشذا الحلم ، لكن الكثير منها يفتقد عذوبة الجرس اللفظي والموسيقا ، والمشكلة حين تناقش شاعر قصيدة النثر في أهمية الموسيقا والإيقاع يردد لك الإجابة الجاهزة المعروفة : الوزن والموسيقا حلية وزينة وليس ضرورة، ويتصور أنك تبحث في قصيدته عن بحر من بحور الشعر العربي الستة عشر، وكأن ليس للشعر غير هذه الأوزان، فلا شك أن هناك ألوانا موسيقية غير أوزان الخليل تضفي على النص جمالا وشعرية يمكن للشاعر توظيفها فنيا كالتكرار والتقسيم والتجانس والتضاد والتطابق والتصريع والترجيع والتقفية وغيرها.
ويبدو لي أن عددا ممن يكتبون قصيدة النثر يغفلون أن اللغة العربية بطبيعة بنيتها هي لغة موسيقية تتميز عن غيرها من اللغات ، فكل كلمة من كلماتها لها ميزانها الصرفي، ويغفلون أيضا أن الكون كله مضبوط إيقاعيا بحركة الزمن، وهو ما يمكن ملاحظته في هذا التتابع والانتظام الذي يمكن الإحساس به في مجموعة من العناصر كالأصوات اللغوية والموسيقية، ونبضات القلب، وحركة الجسد أثناء الرقص، والخطوط والألوان في الرسم والتصوير والنحت وغيرها، كما يمكن ملاحظة الإيقاع في هذا التناسب والتناظر والاختلاف الذي يظهر في بعض مظاهر الطبيعة كاختلاف الليل والنهار، وتوالي الساعات والأيام والسنوات.
فإذا كانت اللغة العربية لغة موسيقية بامتياز، وإذا كان نظام هذا الكون موقعا ومموسقا، فهل من الحكمة إرسال سطور مجردة من أي ضابط إيقاعي مكتفية بالصور والأخيلة؟
إن الموسيقا أو الإيقاع ضرورة شعرية وعنصر هام للقصيدة لا يقل شأنا وضرورة عن عنصر التصوير، فالقصيدة التي تفتقد الانسجام والتناسب الصوتي ليست كتلك القصيدة التي تكتنز مفرداتها مشاعر ورؤى تتردد في وحدات صوتية على مسافات متقايسة بالتساوي أو بالتناسب لإحداث الانسجام، وعلى مسافات غير متقايسة أحياناً لتجنب الرتابة.
فلماذا يصر عدد من شعراء قصيدة النثر على تجريد قصائدهم من التتابع والانسجام والتناسب الصوتي وتجريدها من الموسيقا؟
ما القيمة الفنية والجمالية لسطور منثورة بدون ضابط إيقاعي، غير قابلة للحفظ في الذاكرة، ولا هي قابلة للتلحين والغناء، ولا هي تصلح للاستشهاد بها في مقام من مقامات الكلام، ولا تصلح للاستدلال بها لتأكيد رأي أو فكرة؟