رواية ” خبز على طاولة الخال ميلاد”، هي الرواية الأولى للكاتب والقاص الليبي محمد النعاس التي فازت بجائزة البوكر العربية في عام 2022.
الرواية يرتكز عنوانها ويستقى مضمونها، من العبارة المتداولة في ليبيا “عيلة وخالها ميلاد” التي يطلقها المجتمع في الغرب الليبي على العائلة التي تحضي بناتها بفسحة من الحرية في الخروج والعمل في مجالات لا يحبذها المجتمع، مع وجود أب أو أخ يمنح بنات العائلة تلك المساحة من الحرية والعبارة في عمقها تحمل معنى رجعى، ليس ضد النساء فقط بل وأيضا ضد الرجل الذي يحمل عقل متنور ومتفتح خارج عن سياق تقاليد وعادات وفكر المجتمع الليبي التقليدي.
ومن وحى تلك العبارة قام الكاتب برسم بطل روايته ” ميلاد” الذى ولد في منزل بين أم وأربع بنات يتشارك معهن أفكارهن وأحلامهن، بتفهم وحنان ومودة ويساعدهن في تدبير شئون البيت فتظهر شخصية بطل الرواية “ميلاد “، بشكل مغاير عن السائد للرجل الليبي فطغى حبه واحترامه لزوجته ” زينب” على شخصيته، نتيجة لتربيته بين أخواته البنات مما أكسبه الحنان والحب والعاطفة والتفهم للمرأة، والذى تجسد في محبته لأخواته ومعاملتهن بلطافة ورقة واحترام كبير ثم إلى زوجته، التي عاش معها قصة حب قبل الزواج، فلم يفرط في علاقته معها ولم يتخلى عنها رغم أنها تجاوزت معه، التعاليم الدينية والأعراف الاجتماعية بل ارتبط بها وتزوجها ودافع عن خياره الذى رفضته والدته، ووقف مع زوجته ضد كل الحروب التي شنتها والدته وأخواته عليها، وعندما طلبت منه زوجته الخروج من بيت الأسرة للاستقلال في بيت لوحدهم وافقها على ذلك وقام ببناء بيت له بعيد عن أمه وأخواته اللواتي يحاولن التدخل في حياته مع زوجته.
ونتيجة لاختياره الاستقلالية في اختيار زوجته، وقيامه بالابتعاد عن أسرته للاستقلالية بحياته بعيدا عن تدخلات عائلته فلقد أصبح موضع سخرية من أبن عمه “عبسي” والمجتمع الذكوري حوله فهو في نظر رفاقه وابن عمه والمجتمع ليس رجل كامل قوى بل شخص ضعيف الشخصية حسب المنظور التقليدي الليبي.
أسلوب الرواية السردي حي وطازج ، ولكن هناك بعض الحشو والتكرار في بعض الفصول لم يكن هناك داعى له بالإضافة إلى بعض العبارات المبتذلة، بالرواية التي كان يمكن للروائي أن يعبر عنها بطريقة أقل فجاجة، وربما يدافع البعض عن وجود تلك الألفاظ بأنها ضمن السياق الروائي لطبيعة الشخصية الماجنة بالرواية، وهى شخصية ابن عم البطل الذى يحاول جر البطل لأن يغوص معه في عالم المجون ، بدعوته لقضاء ليلة مع إحدى الفتيات العاملات بالدعارة وهذا مفهوم ضمن السياق السردي للرواية، ولكن هناك مئات الروايات العربية والعالمية التي كتبت عن الشخصيات التي تتردد على بيوت الدعارة، ولكن بأسلوب سردي أدبى ومجازى مما يتسق مع طبيعة الرواية كعمل أدبى قائم على جمالية اللغة.
بطل الرواية “ميلاد” الذى واجه سخرية المجتمع، وتنمره ورفضه لشخصيته المتفتحة المتفهمة والمساندة لحقوق المرأة يتعرض لصدمة وهزة كبيرة، حين تتسرب السخرية والهجوم على شخصيته من المجتمع الى المرأة التي اختارها، رفيقة لحياته وتخلى عن أمه وأخواته من أجلها وبعد مرور عشر سنوات يتسرب الملل للزوجة، التي لم تعد ترضيها الحياة معه وتخلت عن مبادئها في العمل، ورفضها لسلوكيات رئيسها في العمل وتحولت شخصيتها الى امرأة باحثة عن المال ولو كان عن طريق إقامة علاقة مع رئيسها، في العمل وهنا تكون الصفعة القوية لبطل الرواية “ميلاد” الذى يتفاجأ بالتغيير الكبير في شخصيتها، وفى البداية لا يصدق ما أخبره به ابن عمه عن رؤية، زوجته في سيارة مع مديرها في العمل ولكنه بعد مراقبتها ومتابعتها يكتشف فعلا بأنها تخونه مع رئيسها في العمل، وحين يواجهها بالأمر تصرخ في وجهه وتصارحه بانها لم تعد تحبه وأصبحت تكره رقته وحنانه، وكل شيء فيه وينهار العالم في عيون بطل الرواية الذى يتجه، لزميلتها في العمل التي تتحرش به لإقامة علاقة معها، انتقاما من خيانة زوجته له ولكنه لا يجد نفسه في تلك العلاقة وكتعبير، عن يأسه وصدمته بما فعلته زوجته يقوم بخنقها وقتلها وتنتهى الرواية بهذا المشهد الدامي، الذى يعبر عن النهاية المأساوية لرجل مختلف في مجتمع يعلى من قيمة الرجل العنيف، الذى يعامل المرأة بذكورية مفرطة وبعنف ويسخر من الرجل الذى يحترم المرأة ويقدرها ويتشارك معها الأفكار والخيارات، والرؤى ويمنحها مساحة كبيرة من الحرية وليس المجتمع فقط من يرفض هذه الشخصية، ويستهين بها ويسخر منها، وإنما المرأة نفسها عندما يقدم لها الرجل، كل تلك المساحة من الحرية والاحترام ترى ذلك تعبير عن ضعف شخصية الرجل، وتستهين به وبرجولته لأن المرأة الليبية تلقت تربية تقوم على التسلط الذكوري الذى تتماهى معه، وتعجب به وتراه معيار للانجذاب والحب عكس موقفها من الرجل المنفتح الذى يحترم ذاتها وكينونتها، ويمنحها مساحة للحرية بناء على قناعاته وثقافته المختلفة وروح الحنان والعاطفة، التي استقاها من محيطه العائلي فهي كثيرا ما تنقلب عليه وتتبرم منه وتستهين به وتعتبر ذلك معبر عن ضعف شخصيته، وهذا ما نجده في شخصية بطلة الرواية “زينب” التي انتهت علاقتها بزوجها بحادثة قتلها، نتيجة الضغط المجتمعي الذى قاده للتحول من شخصية مسالمة إلى قاتل ومجرم نتيجة الضغط المجتمعي، الذى يريده أن يكون على مستوى مقاس تربية الذكر الليبي حيث العنف وإهانة المرأة وتعنيفها، هو مقياس للرجولة المجتمعية التي تنال التبجيل والاحترام فكل تلك الضغوطات المجتمعية وانقلاب المرأة التي اختارها زوجة ورفيقة له بعد قصة حب، وسخريتها من شخصيته حولته في النهاية إلى مجرم وقاتل.
الرواية تفكك ذهنية المجتمع الليبي في معنى ومفهوم، الرجولة بالمقاييس الليبية من خلال طريقة تربية الرجل التي تنحو نحو تجذير العنف في عقله، وجعل معيار الرجولة يتجسد في القتال والعنف والتسلط لذلك يتعرض الرجل، ضغوط نفسية واجتماعية حين يحاول التمرد على تلك الذهنية المجتمعية من والأقارب والرفاق، وأبناء الجيران ويدفع ثمن باهظ لتمرده على الصورة التي يرسمها المجتمع والتي قد تدفعه، إلى أن يتحول إلى شخص عنيف أو قاتل وكأن بمشهد قتل بطل الرواية “ميلاد” لزوجته في نهاية الرواية كناية عن رغبة مكبوتة في داخله لقتل المجتمع الذ ى سخر من شخصيته واستهان به.
بطلا الرواية ” ميلاد” وزوجته” زينب” يجسدان الصراع بين السعي للحداثة والنكوص والارتداد للخلف بفعل الذهنية المجتمعية، التي ضغطت عليهما فقادت بطلة الرواية ” زينب” للجنوح وخيانة زوجها وقادت “ميلاد” لارتكاب جريمة القتل، فصراع الماضي مع الحاضر متجذر بالرواية ما بين المفاهيم التقليدية الراسخة، حول الرجولة بمعنى العنف والتسلط والصورة المجتمعية المضخمة للشخص المقاتل في الحروب، وبين محاولات التحرر من تلك المفاهيم التي تبوء في النهاية بالفشل الذريع.