طيوب عالمية

رواية “القوقاز” للعبقري ليو تولستوي أو فشل أطروحة إسعاد الآخرين على حساب الذات

عزيز باكوش | المغرب

رواية "القوقاز" للأديب الروسي ليو تولستوي
رواية “القوقاز” للأديب الروسي ليو تولستوي

بودي أن أستأنس ساردا كرونولوجيا الرواية منذ النشأة الأولى حتى الصيغة النهائية التي استقر عليها هذا المؤلف الشامخ ليو. “فعندنا قرر تولستوي أن يكتب شيئا عن القوقاز، تنازعته الكثير من الأهواء. حيث ظل زمنا طويلا يجرب ويتلمس طريقه، يقول ألكسندر سولوفيف “لقد احتاج تولستوي إلى عشر سنوات ليفرغ من قصة صاغها اثنتي عشر صياغة مختلفة. أن الصياغة الأولى يضيف سولوفيف يرجع عهدها إلى شهر شتنبر 1852، وقد نظمها تولستوي شعرا. وفيها نرى البطلة ماريانا الحسناء تخرج من القرية راكضة إلى لقاء حبيبها الذي كان يشارك في حملة بالجبال، ولكنها لا تجد إلا جثمانه محمولا على محفة. لقد قتل في مناوشة” لقد كتب تولستوي “أخذت أحب القوقاز حبا متأخرا، لكنه قوي جدا. حقا ما أجمل تلك البلاد المتوحشة التي يتحالف فيها تحالفا غريبا طافحا بالشعر أمران متعارضان أشد التعارض، الحرب والحرية”

 في عام 1853، شرع ليو تولستوي في كتابة قصة نثرية أول الأمر ، أراد أن يجعل عنوانها (الهارب)،وهي تلخص قصة ضابط أرستقراطي شاب جاء من العاصمة موسكو، فشاء القدر أن يقع في حب امرأة فتية هي زوجة رجل قوزاقي تافه، لكن حقد الزوج على الضابط الشاب دفعته إلى التفكير في محاولة لقتله والهروب إلى الجبل ” وفي صياغة أخرى حصلت شتاء 1853 ،نقرأ لألكسندر سولوفيف في مقدمة الرواية” نرى “ماريانا” فتاة لم تتزوج بعد، ولكنها مخطوبة لفتى محبب إلى القلب ” وفي عام1857 كتب تولستوي في مذكراته “أن الإلياذة” تجبرني على إعادة التفكير في قصة “الهارب” إنني مستاء جدا من هذه القصة القوقازية ” ورغم أن تولستوي قد وضع هيكل هذه الرواية سنة 1852 ،فإنه لم يهتد إلى وضع خاتمتها النهائية ،ونشرها بمجلة “الرسول الروسي” إلا في يناير سنة 1863 ، وذلك بعد عناء طويل ، حيث تردد بين عدة صياغات وأشكال درامية متفاوتة الحبك .

 والحقيقة، أن ما حدثَ لي مع عنوان هذه الرواية تحديدا، (القوزاق – أم القوقاز) جديرٌ بأن يُروى، ويُدوّن في سِجل القراءات والمتابعات على ضوء صفاء ذهن وروقان مزاج. اقتنيت رواية (القوقاز) للشامخ ليو تولستوي صيف 2018 من إحدى مكتبات الشارع المتنقلة بمارتيل شمال المغرب، شعرت حينها برغبة عارمة في التهامها خلال 24 ساعة، وكنت معجبا بترجمة رائقة لسامي الدروبي أحد كبار الأدباء والمترجمين العرب. لكن الأمور لم تجر على هذا النحو، إذ سرعان ما تقاذفني تجاذبات الحياة، بحيث لم أفتح دفتي الرواية إلا بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ.

 لأن موجة البلادة التي اجتاحتني وأعمت بصيرتي لا توصف، لحظتها، لم أستطع التمييز بين مصطلحين ترادفا في دفة الرواية على امتدا الفصول. ورغم أن الاختلاف في الطبع كان جليا إلا أنني كنت دائما وفيا للقوقاز. ذلك أن تداول مصلح القوقاز بهذا النطق في أدبيات السياسة والجغرافية كما في المنطقة الأسيوية كان تداولا تقليديا وعلى نطاق واسع، وتبعا لهذا التنميط، لم أكن في حيرة من أمري حتى أدقق في مصطلح قوقازي أم قوزاقي إلا عند الصفحة 165، حيث تأتي الترجمة أحيانا بمصطلح “القوزاق” وأخرى ب «القوقاز، ولم أستطع الجزم أينهما الصحيح، وأين الخطأ حتى هذه اللحظة؟ هل في الترجمة في النص الأصلي؟ أم سهو الطباعة دون مراجعة؟

 وتجمع كافة المصادر التي تهتم بسيرة هذا الاديب الشامخ على اعتبار رواية ” القوقاز ” من الصنف الروائي القصير. وهي سيرة ذاتية إلى حد ما، فحياة تولستوي حقبة تحمل تجارب شبابية طائشة لا سيما  خلال المراحل الأخيرة من حرب القوقاز. بعد أن انخرط في العديد من الشراكات الفاسقة، وأدمن على الكحول ولعب القمار؛ وقد تجسد ذلك بوضوح شبه مقنع في بطل روايته أولينين، الذي يحمل بصمة تحيل على شخصية المؤلف حيث شكلت تجاربه مصدر إلهام له في العديد من الاعمال الأدبية الرائعة.

وهروبا من روتين حياته اليومية ورتابة الأحداث، بعد أن تخلص من وهم حياته الثرية في المجتمع الروسي باحثا عن صفاء الروح ونقاء السريرة، سيلتحق بطل الرواية الرجل النبيل ديمتري أندريش أولينين بالجيش كطالب عسكري. وتشاء الصدف أن يصادق أولينين شيخا عجوزا في محاولة منه للتكيّف مع ثقافتهم المحلية. ففي تقاليد شعب القوزاق، الإدمان على شرب النبيذ وممارسة الشتم كطقس يومي فضلا عن هواية صيد طيور الدراج والخنازير. وشيئا فشيئا سيندمج البطل العسكري في الثقافة القوزاقية بدء بتغيير أسلوب لباسه. ويقع في حب فتاة شابة تدعى حب ماريانكا، على الرغم من كونها مخطوبة لعسكري شاب يدعى لوكاشكا الذي سيتزوجها نهاية المطاف. وخلال هذه المرحلة بالضبط، تتشكل فلسفة حياة مختلفة تماما، على ضوء تجارب ودروس ما يجعل من حياة البطل الداخلية، فلسفة ترتكز على الأخلاق وتستند على طبيعة الواقع كفرد من مجتمع القوزاق. من هنا نعثر على مفارقات نفسية وتعقيدات تعقيدات تسبح في عوالم النفس البشرية في تفاعلها مع مكونات الطبيعة والحياة.

 وفي مفارقة الأشد عمقا، يحاول أولينين التحدي بالوقوف في وجه مشاعره وأحاسيسه، ويقتنع في نهاية المطاف بأنه يحبّ كلا من لوكاشكا خطيب حبيبته ماريانكا في نفس الوقت. لكنه سيكتشف لاحقا أن إرضاء ذاته أولا قبل التفكير في إسعاد الآخرين ومع مرور الوقت، استطاع البطل أولينين كسب احترام ثقافة شعب القوقاز لا سيما القرويين المحليين، لكن ظهور شخص روسي آخر يدعى بيلتسكي سيعمل على إقناع أولينين باسترجاع حب ماريانكا ومحاولة كسب حبها وتعاطفها من جديد. يحاول أولينين التقرب منها عدة مرات، لكن لوكاشكا الذي ظلت الأخبار تصله في شأن هذه المحاولات من القرويين. ويقرر عدم دعوته لحفل خطوبتهما.

يصاب لوكاشكا خطيب ماريانكا بجروح خطيرة بعد ذهابه برفقة مجموعة من القوزاق لمواجهة مجموعة من الشيشان الذين يحاولون مهاجمة القرية. يشرف لوكاشكا على الموت ويساعده أهالي القرية على الشفاء، فيتقرب أولينين من ماريانكا مرة أخرى طالبا منها الزواج منه، لكنها ترفض بغضب. يدرك أولينين أن «انطباعه الأول بعدم قدرته على الوصول إلى هذه المرأة صحيح تمامًا». يطلب أولينين من قائد سرّيته السماح له بالمغادرة والانضمام إلى الأركان. ما يعني فشل الحب كما خطط له. وفشل نظرية إسعاد الناس على حساب تعاسة النفس الداخلية.

مقالات ذات علاقة

متحف حي في قلب أثينا

عبدالسلام الزغيبي

الرواية في عصرنا

المشرف العام

مشقة سؤال الأوبرا والباليه عند نيتشه وفاغنر (3-6)

إشبيليا الجبوري (العراق)

تعليق واحد

عزيز باكوش 27 أبريل, 2023 at 11:26

إدراج شيق

رد

اترك تعليق