هل استخدم أو قال أحدكم بعدما تأسف هذه الديباجة: الاعتراف بالخطأ فضيلة، أو شجاعة، أو أي نوع من عبارات المديح، والتي تظهره برغم الخطأ الذي استوجب أسفه، أنه أفضل ممن تأسف له؟ أو يمنّ عليه بالاعتذار؟ إذن أحدكم هذا نُغّار.
روح رياضية
كنت حين ألعب الخُمّيسة مع حنّاي، أو حين نلعب ثلاثتنا أنا وأختي مريم وبنت خالتي نوال وتتفرج علينا حنّاي، فاحتج على النتيجة بينما ألعب معها هي البارعة، أو حين تحتج إحدانا على الأخرى فيما هي تراقبنا، كانت تصفق بيديها قائلة: النغرة ادير البوصار تخلي الدود احيار احيار، كانت هذه العبارة المخيفة ترسخ في وعينا عاقبة عدم قبول الهزيمة، النغرة تجعلنا مرضى بهذا الشيء المخيف، الذي لا نعرفه.
في الشارع أمام بيت جدتي حيث يلعب الصبيان كرة القدم كانت يانُغّار تتناطر في الملعب وهي حكم قاس، وحين تثبت على أحدهم النُغرة سيكون مستقبله في اللعب انتهى تماما وسينبذ، بهذه الوصمة: ماتلعبوش معاه راهو نُغّار.
هذا التعبير الليبي النُغّرة كعزّارة تعني ضرورة التحلي بالروح الرياضية، هذا المسمّى البديع والذي لم يقتصر فقط على الرياضة بل صار تعبيرا يشمل كل مواقف الحياة التي تستوجب القبول بها، حتى شاع هذا النوع من الحث: خلّي روحك رياضية.
الأخلاق الرياضية
هل عاد أحد يسمع هذا التعبير؟ لا بالتأكيد ، فالرياضة التي كانت صحة وتسلية ومتعة والفوز والهزيمة مقبولين بنفس الدرجة، صارت صراع بقاء، وروح الفريق الذي كان تعبيرا شائعا أيضا ، صار شيء من الماضي بعدما بات يلخص الفريق في لاعب واحد فقط، على طريقة الندرة في الاقتصاد وهى ندرة مصطنعة مثلما يقوم تاجر ما بإخفاء سلعة ليرتفع سعرها بسبب نقص العرض، إي نعم الرياضة التي هي الساحة التي خلقت من أجل السلام، تحولت إلى ساحة حرب وضغينة بين الشعوب، حتى أنها تفاقم النزاع والحساسيات والتي مثلتها حرب المائة ساعة بين هندوراس والسلفادور في 1969 وذلك في تصفيات كأس العالم 1970.
نسيت أن أخبركم عن ماهية الأخلاق الرياضية، إنها: النزاهة، الانضباط، الاحترام، الالتزام، تحمل المسئولية، التنافس الشريف، وما فيش نغرة.
النُغّرة العامة
لنخرج الآن من الملاعب، وما يحدث فيها، من هدف مارادونا الذي حرك الكرة بيده في منطقة الجزاء الانجليزية في كأس العالم 1986 وحتى آخر نغرة للجمهور الليبي لهزيمة فريقه أمام الفريق التونسي 2023، و لندخل إلى منطقة أكثر تأثيرا في الناس، وهى السبب في رأيي الذي يجعل الأسف فعل هزيمة، وفي حال الاضطرار للتأسف يحوله السيدة/السيد النُغّار إلى حدث أهم من الفعل الذي تأسف عنه، إنه شعور عدم القبول بالخسارة أو الهزيمة والذي يجمد المهارات، وهو بالضبط ما حاربته حنّاي بتلك الاهزوجة المرعبة والتي جعلتني أفكر كل مرة أهزم فيها بتطوير مهاراتي ليمكنني الفوز، وعزّارة النُغّار في ملعب الصبية في زنقة حوش حنّاي، علّمت النُغّار كيف يتخلّى عن إفساد اللعبة، بالنظر إلى أخطائه وتصحيحها وهى الطريق الوحيد الذي يعيده إلى الملعب.
تجنب ذكر الهزيمة
في 12رمضان كانت معركة أُحد وهكذا كان اسمها قبل أن تتغير مفردة معركة إلى مفردة غزوة، وشتان بين المدلولين، المهم أن معركة جبل أّحد حدثت في العام الثالث للهجرة، وهي المعركة التي خسرها المسلمون أمام خالد بن الوليد قبل أن يصبح سيف الله المسلول حسب الرواية، فماذا فعل المسلمون في العصر الحديث؟ إنهم يحتفلون بمعركة بدر الكبرى 17 رمضان، وبفتح مكة 20 رمضان، ويخصصون لها الكثير من الخطب والعبر، في الوقت الذي يفترض التركيز على العبرة التي تتركها الهزيمة، لأنه حين تقبل الهزيمة ستنشغل بالوصول للنصر، ولكن النغّار سيريد أن تختفي الهزيمة بعدم التفكير في أسبابها، لهذا يبكي أو يخرّب، أو الخيار الأسهل تجاهلها.
تراث لمكابرة
من النغرة ادير البوصار، مرورا بنُغّار ماتلعبوش معاه ووصولا إلى لمكابرة في الشتي تقتل، هي تعبيرات تنبذ النكران والمكابرة، وعدم المرونة، لأنها تهدم الأخلاق، لهذا شغلني دائما تفاعل الناس مع الهزائم وأعني الهزائم الكبيرة، حرب 1948، التي سموها نكبة أي تستلزم النواح ، وحرب 1956 التي سمّوها العدوان ، وحرب 1967التي سميت النكسة، وكل هذه الحروب التي خسرها العرب ، تكررت كما هو ملاحظ بسبب التلاعب بالكلمات الذي يؤدي إلى التعامل مع الهزيمة كعارض وليس لأسبابها وأعراضها، ثم هذا الإرث الذي سمح بمحو الهزيمة من دروس التلاميذ، فالهزيمة مفردة غير مسموح التعامل معها كحدث متوقع أيضا، وأنه ضمن ثنائية الحياة ، بل تعميق الخجل من الهزيمة حين يتم التركيز على النصر، ولكن أين هو النصر؟ في كتاب التاريخ هل قرأنا شيئا عن هزيمة الليبيين أمام الطليان؟ تذكر معارك (الجهاد) وبطولة (المجاهدين) دون ذكر من انتصر في تلك المعارك، وهذا يتم تزكيته بالدراما والأفلام والأغاني في تشويش على النهايات، فللهزيمة أسباب لا يريدوننا معرفتها على الأرجح، أو لا يريدون الاعتراف بها، أو لجهل وسطحية في فهم فلسفة الهزيمة التي تجبر المهزوم اللي مش نُغّار على تغيير طريقة تفكيره، أو تغيير أدواته، مثل تجاهل النصر الذي صنعته المفاوضات، فمفهوم التفاوض الذي صار بعقلية النُغّار فعل إذعان، وهزيمة، هو الذي فتح الباب أمام دومينو الاستقلال في المرحلة الثانية من النظام العالمي الجديد وقتها والذي أقام العقود مع كل المهزومين في الحرب العالمية الثانية. وبنص نظرة للشعوب التي قبلت واعترفت بالهزيمة، والشعوب التي تصّر عبر مناهجها أن تذكر معاركها ذات النهاية المفتوحة أو المموهة، سنرى اليابان وألمانيا مقابل كل الدول العربية وعلى رأسها ليبيا اللي تنقرا مالجيهتن حسبما يعتقد شعبها.
إعادة الاعتبار للهزيمة
اسمع لكلام اللي يبكّيك اللي يضحّكك يضحك عليك، هذه أيضا عبارة كنّا تربينا عليها، كم مرة ترددت في بيتنا؟ آلاف المرات، اتصور في كل البيوت ترددت عشرات الآلاف من المرات فأساس التربية في ليبيا كان واحدا، والقيم كانت أفقية، لهذا لم يكن الاختلاف جذريا كما هو الآن بين قيم البيت والمدرسة والشارع والعمل، فالكلام اللي بيكّيك هو النقد الذي يؤلمك، إنه الهزيمة الشخصية التي تعلم الشخص كيف ينتصر بمواجهة الخطأ وفهمه وتصحيحه، النقد الذي يأخذه النُغّار على أنه محاولة لهزيمته، فيما الهزيمة لمن يعيها هي الطريقة الوحيدة التي تعلمك النصر، يانُغّار.
صحيفة فسانيا | 10 أبريل 2023م.