(1)
كانت شخصيةُ حارس المرمى من الشخصيات المهمة في زمن طفولتنا .. ربما أكثر من زمننا هذا ؛ فما زال جيلي يتذكر أسماءً مثل علي بوعود وإبراهيم المصري وعلى الوش ، ومن الحراس العالميين الروسي المشهور ياشين وكذلك الانجليزي بانكس ، وهناك من الكتّاب الحاصلين على جائزة نوبل من كان يشغل ذلك المركز ومنهم من كتب رواية حول هذه الشخصية التي تحولت بفعل الزمن من الحكمة إلى “التهريج”.
(2)
المهرجُ الذي دفعني إلى الحنين إلى شخصيةِ حارس المرمى هو “أندرو ريدمين” الاسترالي والذي سمح لبلده بالتأهل لنهايات كأس العالم التي تقام حاليّا بقطر؛ ففي الأشهر الماضية وفي مباراة فاصلة انتهت بركلات الجزاء وبواسطة ركلة نهائية تمكن هذا الحارس من قلبِ الأحداث وكان سببُ نجاحه في صدّ الركلةِ هو قيامه برقصةٍ غير متوقعة في لحظات تسديد لاعب البيرو آخر ضربات فريقه . لم يعتمد الحارس على التركيز كما فعل الأقدمون بل قام (هو الذي لم يلعب غير ثلاث دقائق في الوقت الإضافي من المبارة) بالرقص كالمجنون على خط المرمى مما أربك اللاعبَ البيروفي الذي سدد الضربة فأتتْ الكرةُ بين يدي الحارس دون معاناة .. تأهلت استراليا وأصبح الحارس برقصته تلك بطلا بين شعبه . هذا الحدث قلب القوانين وقررت جمعية الحكام الدوليين منع حراس المرمى من الرقص حيث تنص اللآئحة الجديدة على بقاء الحارس عند خط مرماه.
(3)
مركزُ حارس المرمى كان من المراكز التي تتسم بالحكمةِ وعُرف الحراس بالقدرةِ على التأمل كأنهم يملكون في وحدتهم دماغًا له الوقت الكافي للتفكير وملاحظة الأحداث وما يجري بين اللاعبين على أرضية الملعب فلا عجب أنّ كتابًا مشهورين مثل الفيلسوف البير كامو الحاصل على جائزة نوبل للآداب وفلاديمير نابوكوف الأمريكي صاحب رواية “لوليتا” كانا يشغلان ذلك المركز؛ لعب البير كامو لصالح فريقٍ في الجزائر العاصمة والثاني لفريق جامعة كامبردج الأمريكية.
أما الكاتب النمساوي بيترهاندكه الحاصل على نوبل للآداب فخصص لهذه الشخصيةِ روايةً تحمل عنوان “قلق حارس المرمى أثناء ضربة الجزاء” وهي تتناول الجانبَ النفسي لحارس مرمى سابق ولقد اعتمد الكاتبُ في روايته على الاحصائيات المشهورة المتعلقةِ بضربات الجزاء والتي تهتم بسلوك الحارس أثناء التسديد وخاصة القفز إلى زاوية من زوايا المرمى وهذا السلوك لم يكن موجودًا لدى الحراس القدماء الذين اعتمدوا على البديهة في صد الضربات لا كما يفعل حراس اليوم ، وتقول تلك الاحصائيات أن نسبة تمكن الحارس من صد الكرة تعتمد على الوضع الذي يتخذه أثناء الضربة حيث أنه لا يملك إلى ثلث ثانية بين الضربة ووصول الكرة نحو خط مرماه كي يتخذ قراره وهو عادة يقرر القفز يمينا أو يسارا في اللحظة الأخيرة ، تقول الاحصائيات أيضا أنّ الحارس سيكون أكثر حظا إذا بقي ثابتا عند وسط خط مرماه لكن أغلب الحراس لا يبقون واقفين لأنّ ذلك يعتبر وضعًا سلبيًّا في رأي الجمهور المعاصر.
(4)
ها هي ترجمة لمقطع كتبه هاندكه في نهاية روايته:
“احتسب الحكمُ ركلةَ جزاءٍ فاندفع الجمهورُ وراء المرمى وتقدم قلب الهجوم لتسديد الكرة.
يقول بلوك بطل الرواية أنّ حارس المرمى يفكر عندها في الزاوية التي سيسدد نحوها قلبُ الهجوم الكرة وحين يعرف حارسُ المرمى عادات قلبِ الهجوم فلا شك أنه سيخمن الزاوية التي سيختارها عادة للتسديد ، وقلبُ الهجوم يمكنه أيضا أن يتنبأ بمنطقِ حارس المرمى وإلى أيّ جانبٍ سيُلقي بنفسه ، لذلك يستمر حارس المرمى في النظر إلى قلب الهجوم ويقول لنفسه أن الكرة هذه المرة لن تأتي في الزاوية نفسها.
نعم و لكن ماذا لو اتبع قلبُ الهجوم منطقَ الحارس وقام بالتسديد باتجاه الزاوية المعتادة
!! المعادلة مقلقة
وضع قلبُ الهجوم الكرة في نقطةِ الجزاء ثم تراجع ونظرإلى الحارسِ ونظر الحارسُ إلى قلبِ الهجوم وهو يموه بجسده إلى الزاوية التي سيرمي نفسه فيها كي يسدد قلب الهجوم في الزاوية الأخرى.
انطلق قلبُ الهجوم نحو الكرةِ وهو ينظر إلى حارس المرمى الذي يرتدي غلالة صفراء زاهية.
جاءت اللحظةُ الحاسمة ؛ بقى الحارسُ ثابتًا ومستقيمًا ، ركل قلبُ الهجوم الكرة فوضعها بين يدي الحارس. “