قصة

قصص قصيرة جداً

محض عبث

عاثت به غربته وأزرت به، ضربات قاسية من رحاب الفضاء، متاعبٌ لا حصر لها يشمت الاعداء لها، لأول مرة ينتابه القلق الغامض فتوصد الابواب، صدئت قلوب الأصدقاء في كلّ المدائن..  خرج من بيته من دون يقين، في الطريق اِمتلأ ذهنه دون املٍ بفكرة الرحيل إلى بلدٍ مُباركاً من روح البحر، سيرحل بين أسراب المنافي ينتظر احلام خلاص من الدّهر الذي كدّره..  دخل مقروراً لطراوة صمت في الحديقة العامة، دخلها رابضة في وسط المدينة، لا يدري كيف وصل اليها، جلس على مقعدٍ خشبي مطليّ بطلاء بُني، تراقبه نظرات صارمة، ينفث سيجارةً اِثر سيجارةٍ، يقتنص الرضى من عبق عطر فاتنة مرّت به تمشي في دلالٍ رهيف، على بعد ٍ يرنو اليه الظّماء البديد، حيّرته تبسّم شفتها تبسّم ينهشها سكون ضجيج الصمت العتيق.. راح يراقب الناس ولكن لا أحد يراه، لم يكن يدري إنْ كان قد تبقى منه جسداً أو روحاً أو عقلاً أو وجداناً، أمْ أنّ كل ما تبقى محض عبثٍ.


عتمة ليل

بشراهةٍ شرسةٍ أخذ نفساً عميقا من سيجارته، نفخهُ من أعماق خواطره القادمة من روع النهار، نفخهٌ تظهر أمامه حسيراً، تلاشى دُخان النفخة المذهلة، تلاشى في لحظةِ ثوانٍ منكسرةٍ، أحسّ أنّه مفقودٌ لا ذكريات له ولا وطنٌ، ذُهل من فراغ الزمن، من غدر الزمان، سأل الهباء الماثل أمامه بصوت ملئ بالشك وهول الدروب الخوافي: كيف الوصول إلى وطنٍ كل الطرقات مفتوحة اليه إلا طريقي؟.. أخذته رعدة تدلف من نَفَسٍ إلى نَفَسٍ أراد أن يصيح فاِنكسر صوته الغريق انكسار ضوءٍ في عتمة ليل مزقها البرق في تجاويف السنين.


كبد الكروم

أقبل المساء ككل مساء اقبل في يومِ صيفٍ حار، أقبل هذا المساء، فإلى أين سيذهب في هذه المساء، ظلّ مترقباً للخروج من بيته منذ ساعات الظهر المملة، ساعة اقداره المرصودة.. تعلّم من طبيعة الدنيا أنْ لا يعبأ لسلطة الزمان الحائر المتقلب ولا يبالي بمطبات تضعها الطرقات أمامه، تعلم ذلك في صبرٍ محرق.. أقبل الليل، تدجّت سوالفه مسرعة بسحبٍ سود، تسلل من حوشه يبغي حانةً يطرب لها، حانة فيها بعض من كؤوسٍ تنز خمرة من كبد الكروم العتيقة.. وصل الحانة فجلس في نفس المكان الذي غدا مجلسه المعتاد، ترائب ضوء الشمع تترنح بين كرٍّ وفرٍّ تتماوج تلطم وجهه الغريب بلطماتٍ متعجلةٍ.. ترامت الكؤوس أمامه، ظمآن لم يطفئ ظمأه كأسٌ أو زيرٌ أو نهرٌ، غمره شجن رتيب، ساعات مضت، تجمعت أمامه أيامه الماضية في غمضة عينٍ، الليل يطول وشموع الحانة أمست شظايا نارٍ كأنها هاوية من أعالي مدرات النجوم النيرة، ما أدرك أنّ الليل يطول، وأنّ أوقات المسرات تزول.. في لحظة نسيّ كيف وصل للحانة ومتى، وفي لحظتين نسيّ كيف يعود إلى بيته.. وفي اللحظة الأخيرة ظلّ يعدو خلف ظله الخفي إلى ريحٍ لا يراها ووهي تعدو أمامه وقد وهبت ذاتها للعدم.


نُطق الريح

 ذات مساءٍ كأنها سمعت ما تنطق به الريح، أحسّت بعناد قسوة مدينتها لرذاذ المطر السارح في ليلٍ دامسٍ، تستمع لموسيقى ” راخمانوف”، تقرأ رواية العجوز والبحر، امتلأ عقلها بالشك، احتدمت خواطر برأسها كزفرات ريح ربتت بابتسامة سحرية في ثغرها وعينيها، أحست برذاذ بحر الراوية واِصرار العجوز.. منذ الصباح ومدينتها تنام في رغدً تحت فيافي الرياح، ومع كل ريح من الرياح تظهر السماء مبهورة بالنجوم الصغيرة، فضاء الأنترنت المُبعثر في متاهات المزن والغمام يغطي سحائبها، كل بيتٍ تحشوه الفضائيات بالجهل و حكايات الأماني الجافلة، أحسّت بأنّ كل المدينة تسبح في بحارٍ من بريق الوهم، وثب أمامها الزمن من دون استئذانٍ كزحوف الثلج ونتف الفراغ، زرع بينها وبين الفراغ نبع من الماء النقي، اِنهمرت الأسئلة في ذهنها،  تأملت فراغاً أمامها ما تأملته من قبل، تراءت لها ضواحي المدينة ناعسةً، تحدث نفسها إلى نفسها وتسأل: تُرى:  أيّ فراغٍ أجوفٍ يقودك يا هذه المدينة الزاهرة قادماً من نفس جوف الفراغ الباهت؟


من نطق التاريخ

ما عاد يرويه درس التاريخ وكتب التاريخ، ما عادت ترويه أية دروس تواري الحقيقة أو تحجبها أو تتلاعب بها ولم يعد يحسّ بأصوات الناس وهي من كل صوبٍ تتنزل تلطم وجوه الناس ولا يعرف لماذا يُدرّس التاريخ ولا يعرف لماذا درسه وما الذي دفعه لدراسة هذا المجهول، كان قاصداً سوق الخضرة لشراء بعض الخضار.. من غير سابق اِنذار وقف في وسط الفندق خطيباً:  يا اخوتي في هذه المدينة واخوتي على هذه الأرض هل نحن صادقون فيما نقول أم أننا فقدنا نعمة الصراحة؟ دخل غرفته حتى ينام، عندما أفاق في منتصف الليل أيقن أنّ النهار انتهى

مقالات ذات علاقة

توتة عمي “بومدين”

عزة المقهور

الممرضة…

أحمد يوسف عقيلة

هشاشة…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق