عبد يونس لافي
ها أنذا أشعُرُ أنَّ ثَمَّةَ ما يُلِحُّ عَلَيَّ بأنْ أخرُجَ من مِحْرابيَ في هذه الْهَدْأةِ من الليل!
سكونٌ تامٌّ يتخلَّلُ ما حولي،
ولو أنَّ نملةً دبَّتْ بقُرْبي سمِعتُ دَبيبَها!
لا أكادُ أمَيِّزُ الزَّمنَ وكأنَّه قد انْعدم.
جلسْتُ أتطلَّعُ في سماءٍ مُلِأتْ بالنُّجوم كما تبدو لناظري،
فَلَربَّما كان البعضُ منها ليس إلاّ آثارَ نُجومٍ بعد موتِها وانْدثارِها قبل ملايين السنين،
والذي أراهُ ليس إلاّ ضوءَها.
انها ديناميكيةُ الحياةِ والموتِ تتكرَّرُ
في هذا الكونِ السَّحيق.
هنا أحْسَسْتُ أنَّ روحي تَمَلْمَلَتْ
تريدُ أن تُغادِرَ قُضْبانًا أحاطت بها،
لتنطلقَ في أجواءِ هذا الكونِ دونَ قُيود …..
لم أكُن بالقادرِ على تقييدِها ـ يا أُخَيَّ ـ
لقد حَلَّقَتْ وما حَلَّقْتْ!
كونٌ واسعٌ جميلٌ وحركةٌ لا تتوقَّف!
الكلُّ يدورُ في فَلَكِهِ بانْتظامٍ دون ارْتِطام!
إنه بديعُ صُنعِ الخالق!
“صُنْعَ اللهِ الذي أتقنَ كلَّ شيْءٍ”
قلَّبْتُ بَصَري فانْتابني شعورٌ أنَّ ثَمَّةَ
خلائقَ لا تُحصى في هذا الكون،
وحقًّا كانت كذلك!
انها متنوعةٌ في حجمِها،
منها الكبيرُ الذي لا يُحيطُ به بَصَر،
ومنها الصغيرُ في عالمِهِ الكبير،
سيّانَ لا يُحيطُ به بَصَر.
ختمتُ رحلتي هذه وانا دَهِشٌ مما أخالُني قد رأيت.
فَطَفِقْتُ راجعًا خِشْيةَ أن أُصابَ بِجِنَّةٍ،
أو يُغْمى عليَّ من دُوارٍ ذلك الفضاءِ الرَّهيب!
عادت روحي بعد تحليقها، فبدأتُ أفَكِّرُ فيما على كوكبِنا من خلائقَ كبيرةٍ او متناهيةٍ في الصِّغَرِ،
ما هو حيٌّ وما هو غيرُ ذلك،
بشرًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادا.
إنَّ ما حولنا من عوالِمَ لم نُحِطْ ولن نحيطَ بأعدادها،
لكلٍّ طبيعتُهُ التي تَعُجُّ بمُخْتَلَفِ أشكالِ المْكَوِّنات والحركةِ والحياةِ،
هي ليست بالضَّرورةِ أنْ تكونَ نظيرَ ما نعرِفُ،
او ما يُخَيَّلُ الينا أننا نعرِف.
لا تنسَ يا أُخَيَّ أن تُضيفَ الى هذه العوالمِ،
ما يملأ بينها من فضاءٍ مملوءٍ يتحركُ ويتوسعُ باسْتمرار.
أجسامُ تلك العوالِمِ لا تتعدّى
أن تكونَ محتلَّةً لفضاءٍ تُزيحُهُ ثم تنتقل الى حيِّزٍ آخرَ في وهلةٍ من زمنٍ
يختلف عما نعرِفهُ هنا من زمنٍ،
فالحركة غيْر، والمسافاتُ البيْنِيَّةُ غيْر،
لِتُشكِّلَ منظومةً محكومةً بضَوابطَ لا تغادرُها،
كما أراد لها موجِدُها لكي تؤدِيَ دورًا رُسِمَ لها،
ولكي يكونَ سبحُها وتسبيحُها متناسِقًا فيما بينها
لا عشوائِيَّةَ فيه.
هنا وجدتني أتعاملُ مع شعورٍ جامِحٍ يدفعني أن أُناجيَ خالقَ هذا الكونِ ومُبدعَهُ ومدبِّرَهُ،
مناجاةَ ضعيفٍ.
أعرِفُ أنَّ المُناجى هو أعلمُ بما أُناجي وبما هو أخفى من ذلك.
هذه المناجاةُ ـ حَباكَ اللهُ ـ لم تكن إلّا سعيًا لِإسقاطِ ما انْطوى عليه الصدرُ من لَواعِجَ عَصَفَتْ،
فَوَجَدَتْ طريقَها لكي تُبَثَّ هَمْسًا مَحْضًا،
لا منَّةَ فيه ولا رِياءَ،
بل اتِّباعٌ لهدْي النُّبُوَّةِ في التَّوسُّلِ بصالحِ الأعمالِ.
علَّكَ ـ قارئي ـ ولاأشكُّ أنَّك الحَذِقُ الفَطِنُ،
تذكرُ مناجاةَ اولئك الثلاثةَ الذين انْطَبَقَتْ عليهمُ الصَّخرةُ في الغارِ،
وإلّا فراجع ما رواهُ ابْنُ عُمَرَ عن النبيِّ الرَّحمةِ لكلِّ العوالمِ ـ ما عرِفنا وما لا نعرِفُ ـ
فيما وردَ في الصَّحيحيْن*، لكي ترى كيف كانت مناجاتُهم في محنتهم،
وعليه كانت مناجاتي:
اللّهُمَّ إنَّكَ تعلمُ أنِّي صلَّيْتُ لكَ في مكانٍ
لم تُؤَدَّ فيه صلاةْ،
وقرأتُ قُرآنَكَ في مكانٍ
لم يُقْرَأْ فيهِ من قبلُ قُرآنْ،
وأنت أعلمُ بذاكَ المكانْ.
اللّهُمَّ وأعْطَيْتُ من عَطاءِكَ كما أمَرْتَني،
منْ عَرَفْتُ ومن لم أعرِفْ، وأنت بهِ أعْرَفْ؛
ربِّ ولم أكُنْ في ذلك العَطاءِ إلّا ناقِلًا
لما كنتَ عندي قد أوْدَعْت.
اللّهُمَّ ووصلتُ الرَّحْمَ ما أقْدَرْتَني وما قَصَّرْت،
وأخلصْتُ الصُّحْبَةَ ما اسْتَطَعْت.
اللّهُمَّ فاجْعَلْ جزاءَ ذلك لِمَنْ ماتَ أو سيَموتُ،
صغيرًا أو كبيرا، ذكرًا أو أنثى،
وارْزُقْنا حُسْنَ الخاتمةِ فالْجَنَّة،
لأنَّكَ أنتَ أنتَ الرَّزاقٌ دون مِنَّة.
اللّهُمَّ لا جَلالَ إلاّ جَلالُكَ، ولا كَمالَ إلا كَمالُكْ.
اللّهُمَّ هَبْ لنا رِضاكَ لكي نرى الْاشياءَ بعينِ الرِّضا،
وعند ذاك نراها كما يجب.
فعينُ الرِّضا لا ترى إلّا الْجَمالَ،
وهي كليلةٌ أن ترى عكسَ ذلك.
واجْعلْ قلوبَنا تهفو الى من أحْبَبْناهم
وإنْ شطَّتْ بنا الدِّيار.
اللّهُمَّ اجْعلنا نذكرُهم بالخير هنا،
ونذكرُهم هناك ان كَتَبْتَ لنا الجَنَّة،
واجْعلهم يذكرونا بالخير هنا،
ويذكرونا هناك ان كَتَبْتَها لهم يا الله.
* إشارة الى حديث نبوي ورد في كتابَي البخاري ومسلم