د. أريج خطاب
كنا نشد الرحال إلى(الجشة) كلما حان الربيع الذي كنا ننتظره بشوق مختلف عن شوق الآخرين لأزهاره وشمسه الدافئة واخضرار الأرض خلاله، ونترقبه بشغف مختلف عن شغف الأطفال من جيلنا فكثيرون منهم لم يخوضوا خلاله مغامرات كتلك التي كنا نخوضها حال ذهابنا إلى الوطن القبلي، ولم يحظوا بحضور مواسم كالتي عشناها وعاصرناها مثل موسم الجلامة1 وموسم التغطيس2.
في الوطن القبلي (الجشة) نستسقي من الجابية ونذهب في مغامرة مكررة إلى حيث حقفة الحجاج3 نشاهد مشهد الجلّامة وقذاذيرهم وأهازيجهم وطقوسهم فيما كانت والدتي تخيط الجوالات بعضها ببعض لتصنع (حمادية)4 يوضع فيها الصوف، أما المثرودة فلابد من أن تضع لمساتها خالتي مبروكة، والعصبان فبلمسة خالتي سالمة زوجة خالي لا أحد يضاهيها في سبكه وتتبيله
وأشياء كثيرة لا تحدها كلمات، إحدى هذه الطقوس أو المواسم وأكثرها تشويقا وتنوعا موسم الجلامة.
ومن عام إلى عام نترقب فصل الربيع لنشد الرحال إلى الجشة وحضور الجلامة، ننام تحت قعقعة صفيح (البراكة) في الصباح الباكر وعلى صوت الجلم نصحو متتابعين واحدا تلو الآخر نتقافز من على مراقدنا في اتجاه الخلاء قاصدين الجابية (بناء مغطى بالإسمنت لتجتمع فيها مياه الأمطار) وما أدراك ما الجابية؟ إنها مغامرة أجمل تضاف إلى مغامرة الجلامة يرمي أشجعنا الدلو في الماء ثم يسحبه والبطل هو من يستطيع جره لوحده دون مساعدة أحد لنتمكن من غسل وجوهنا بالماء.
تسفع وجوهنا الصغيرة نسمات الصباح الباردة التي تميز الوطن القبلي ويزيدها تبلل ملابسنا الصغيرة فنحن لم نعتد على الغسل عن طريق الجردل.
وتأمل مشاهد (الجلّامة) وهو يجزون أصواف الأغنام مرددين أهازيج تسمى (قذاذير) يعبر من خلالها الجلام ( الغناي) عن حالته العاطفية من حب وشوق وفقد وحزن وفرح وقد تتجاوز عقلية الغناي حالته العاطفية فيعبر عن أوضاع بلده السياسية . منها ما أحفظها عن ظهر قلب
(ربيع قديم أخطر عالضان*** اصّابت من فوق الحيضان)
في دلالة رمزية للعهد الملكي
كنا أطفالا لا نعي هذه الأهازيج وبصعوبة شديدة نلتقط كلمة أو كلمتين نرددها في تقليد طفولي لجلسة الغناي ووضعه يده على وجهه في تقليد متوارث لجلسة الغناي على مدى أجيال أُرجعه ربما لشعوره بالحياء أمام كبار عائلته أو قبيلته
صوت أنصلة المقصات (الجَلَم) مبهج متراتب أشبه بمعزوفة موسيقية فريدة لن تحظى بسماعها إلا هنا في البر أو الوطن القبلي.
1- الجلَامة موسم زمن محدد من السنة لجز صوف الغنم يجتمع فيه الجلّامة يجزون صوف الغنم يغنون الأهازيج الشعبية التي تدعى القذاذير ومفردها قذارة
2- التغطيس موسم أيضًا مرة في السنة حيث يقومون بغطس الأغنام في حوض كبير ماء به القليل من الدواء تغطس فيه الأغنام واحدة تلو الأخرى لحمايتها من الأمراض.
3- حقفة الحجاج كهف في الجبل أو حفرة في الأرض تظهر نتيجة لتغيرات المناخ وهنا حفرة في الأرض تمتلئ بالماء أما تسمية الحجاج المنسوبة لها فقد قيل إن قوافل الحجاج كانت تقصدها لشرب الماء
4- الحمادية هي غرارة كبيرة تصنع من مجموعة جوالات (شوالات) يخاط بعضها ببعض يجمع فيها المحصول الزراعي أو الصوف ليسهل حمله وبيعه.