1
الرابطةُ الوجودية بين الفِكْر والعاطفة تُمثِّل منظومةً معرفيةً في تاريخ المعنى الإنساني بكُل تحوُّلاته الذهنية وتَجَلِّياته الواقعية، ومَاهِيَّةً كامنةً في فلسفة العلاقات الاجتماعية بكُل أنماطها الحياتيَّة وتفاعلاتها الثقافية. والفِكْرُ والعاطفةُ لا ينفصلان في السُّلوك الواعي في المجتمع، لكنَّهما يتجسَّدان وَفْق أشكال لغوية رمزية، ويَظهر تأثيرُهما في تفاصيل الحياة اليوميَّة، وظُهورُ الأثر لا يَستلزم بالضَّرورة ظُهورَ المُؤثِّر. وهذا يعني أنَّ الفِكْر والعاطفة يتَّخذان صُوَرًا أخلاقيَّةً مُتعدِّدةً، وتصوُّراتٍ قائمةً على الإشباع الرُّوحي، من أجل تحقيقِ التوازن في داخل الإنسان، لِيَمْلِكَ القُدرةَ على التَّكَيُّف معَ البيئة الخارجية، وتحقيقِ السلام بين الإنسان ونَفْسِه، لِيَمْلِكَ الشجاعةَ على عَقْد مُصالحة دائمة معَ نَفْسِه ومُجتمعه. وإذا لَم يتحقَّق السلامُ الداخلي في كَينونة الإنسان الوجودية وكِيَانه المعنوي، فَسَوْفَ يظل ثائرًا ضِدَّ نَفْسِه، وناقمًا على مُجتمعه. وتحقيقُ التوازن في داخل الإنسان يعني الوصول إلى حالة الاتِّزان بين الأشواق الروحية والأنظمة الاستهلاكية، وهذا مِن شَأنه إعادة الزَّخم العقلاني إلى النشاط الاجتماعي. وكُل عُنصر فكري يَملِك تأثيرًا مُبَاشِرًا على حياة الإنسان الداخلية والخارجية، هو عاطفة مُغلَّفة بقوانين التفاعل الاجتماعي روحيًّا وماديًّا، مِمَّا يدلُّ على أنَّ العاطفة هي الأساس الوِجداني للفِكْر، والباعثة له، والمُحرِّضة عليه. وَدَوْرُ تاريخ الفِكْر في الأنساق الحياتيَّة أن يَكشِف عن طبيعةِ العاطفة ضِمن قواعد المنهج العِلْمِيِّ، ومَدى تأثير العاطفة في خصائص السلوك الإنساني، وكيفيَّةِ انبثاق مَنطق اللغة الرمزي مِن حركة الإنسان في المجتمع على الصَّعِيدَيْن الفكري والعاطفيِّ.
2
العاطفةُ في البُنى الفكرية الاجتماعية لَيست تَكَتُّلًا مِن المشاعر السَّاذَجَة، أوْ حالةً ذهنيةً تَفتقر إلى الخِبرة الواقعية. إنَّ العاطفةَ بُوصلةٌ نَفْسِيَّةٌ لاستعادة الذكريات المنسيَّة في أعماق الإنسان، وخريطةٌ وُجوديةٌ لإعادة ترتيب شظايا التاريخ التي تتساقط في داخل الإنسان، ورؤيةٌ مصيريةٌ لِتَكوين إيقاع جديد للأحداث اليوميَّة التي تَسحَق الأحلامَ الفرديَّة، وتُهشِّم الطموحات الجماعيَّة. وبالتالي، تُصبح العاطفةُ عَالَمًا مُتَكَامِلًا، يَحتضن الفِكْرَ القادرَ على إلقاءِ الحَجَر في الماء الراكد، وصِناعةِ واقع ديناميكي (حياة يوميَّة مليئة بالنشاط والحيويَّة)، والكشفِ عن الدافع الكامن خَلْف كُل سُلوك، لأنَّ الإنسان لا يتحرَّك في طُرُقَات الحياة ومَساراتِ المعرفة، إلا إذا كانَ هُناك شيء يُحَرِّكه للفِعْل، ويَدفعه نَحْو أداء وظيفة مُعيَّنة تُحقِّق له الإشباعَ، وتَجلِب له الاحترامَ والتقدير، وتُساعده على إيجاد نَفْسِه في الزِّحَام، وتَكوينِ صَوْتِه الخاص في الضجيج. وهذا يدلُّ على أنَّ الفِعل الاجتماعي لَيس مَوضوعًا تِلقائيًّا، وإنَّما هو نظام مركزي وظيفي يقوم على الخِبرة والتحليل والاستنتاج، والعاطفة لَيست انفعالًا عَفْوِيًّا، وإنَّما هي سُلطة نَفْسِيَّة قادرة على توليد السُّلوك في الواقع، وتجميع شظايا الوَعْي في رمزية اللغة. ومُهمةُ رمزية اللغة في الإطار الفكري والسِّياق العاطفي، هي دَمْج النظام المركزي الذي يُجسِّد الفِعْلَ الاجتماعي معَ السُّلطة النَّفْسِيَّة التي تُمثِّل العاطفةَ، مِن أجل إزالة الغُموض في العلاقات الاجتماعية.
3
الفِكْرُ والعاطفةُ يُشكِّلان البُنيةَ العميقة في شخصية الإنسان المُتصالح معَ نَفْسِه ومُجتمعه، ويُكوِّنان المنظورَ اللغوي الحاكم على السلوك. وهذا مِن شأنه مَنْع السلوك من التَّحَوُّل إلى دَافِع ميكانيكي آلِيٍّ، وحماية الإدراك العقلي مِن التَّوَتُّر النَّفْسِي، وإعادة الاعتبار لرمزية اللغة في عملية توليد العلاقات الاجتماعية، وهذه الرمزية قادرة على إيجاد حُلُول منطقية للإشكالية الوجودية في الحضارة الإنسانية، والتي تتمثَّل في تَحَوُّل العَالَم إلى قرية صغيرة مُتكاملة ومُترابطة، في حِين أصبحت العلاقاتُ الاجتماعية جُزُرًا مُتباعدة، وصارت حياةُ الأفراد غارقةً في الفَرْدِيَّة والانعزال والاغتراب. وكُلَّمَا ترابطَ العَالَمُ أكثرَ، صارَ الإنسانُ أكثرَ انطوائيةً وانزواءً، وكأنَّ انفتاح العَالَم على بعضه بعضًا يَعني انغلاقَ الإنسان على نَفْسِه. وهذه الإشكاليةُ الوجوديةُ هي سبب انكسارِ المنظومة الحضارية، وانتشارِ التفكُّك الاجتماعي. والتناقض الصارخ بين الكُل (العَالَم / الكَوْن) والجُزء (الإنسان/ الكَينونة)، يَنبغي أن يُدرَس في إطار قُدرة رمزية اللغة على تفسيرِ المراحل التاريخية، وإدراكِ التَّطَوُّرات الحاسمة في الفِكْر والعاطفة اللذين يُواكبان التاريخَ في كُل مراحله، والمُجتمعَ في كُل تحوُّلاته.