لم تأت الآريوسية نبتاَ غريباَ ولا نتاجاَ شاذاَ للبيئة الثقافية التي ظهرت فيها والتي كانت ترسف في فوضى وارتباك عديد التيارات المتباينة والمتناقضة من حيث وجهات نظرها وتوجهاتها وزوايا تناولها لمكونات واقعها، بل كانت الآريوسية خلاصة لمجاهدات الفطرة السليمة للحفاظ على سلامتها والتعبير عن رفضها لحرفها عن سواءها وذلك عبر مفكرين وفلاسفة ومؤمنين بالدين الحق الذي لا معنى له إلًا بتأسسه على مبدئ التوحيد، وممن تجشموا تلك المجاهدات قبل آريوس وأيقنوا بلا معقولية ولاعقلانية مزاعم ألوهية المسيح عليه السلام، ورفضوا تلك المزاعم وعملوا على تأكيد زيفها وتهافتها، كيرنثوس الذي عاصر الحواريين، وأبيون وأرطيماوس وبولس السميساطي وأمونيوس ساكاس أستاذ الفيلسوف أفلوطين، ولوقيانوس الذي تتلمذ عليه آريوس الذي لم يتوقف موكب الموحدين عنده بل تواصل بعده، مواجهاَ وطأة العداء من التيار التثليثي المتطفل على دعوة التوحيد الذي تمحورت حوله رسالة عيسى شأن رسالات كل أنبياء ورسل الله تعالى، وهو الذي لقي رفداَ من حلف أتباع الطرسوسي مع الرومان فيما سمي بمجمع نيقية الذي تمخض عن شرعنته وترسيمه واعتباره التجسيد لرسالة عيسى ودعوته، فقد عقد مجمع نيقية بأمر من الإمبراطور الروماني قسطنطين بتحريض من احبار اليهود وفيه التقت مصالح الطرفين واتفقاَ معاَ على هدف مواجهة الفكر الآريوسي وانتهيا إلى وصمه بالهرطقة والمروق من الدين، في قلب فاضح للواقع وتزوير مخز لحقائق الأمور، لتغدو (الهرطقة) وما يشتق منها من صفات تبخيسية مخرزاَ يُشرعه أدعياء الوصاية على الحقيقة في مواجهة ناظرَيْ كل من تبدر عنه أدنى نأمة تسفيه لدعاواهم وادعاءاتهم، وذلك ما يشهد عليه تاريخ محاكم التفتيش سيئة الصيت.
ومثلما كانت الآريوسية خلاصة لما طرح قبلها من أفكار وآراء ترفض مزاعم ألوهية السيد وتؤكد وحدانية الله وتنزهه كانت أيضاَ بداية ومنطلقاَ لتيار توحيدي شهده تاريخ المسيحية حتى عصرنا هذا، فمن مخاض تأملاته فيما يسمى الكتاب المقدس أصدر ميخائيل سرفيتوس الذي كان يدرس القانون في تولوز كتاب (عن أخطاء التثليث) الذي خلص فيه إلى أن أفكارا مثل الثالوث والجوهر إنما هي أفكار فلسفية لا صلة للأسفار المقدسة بها، كما انتشرت في إيطاليا فيما بين عامَي 1517 و 1553 دعوة توحيدية تحت مسمى (الحركة المضادة للتثليث)، وكما عرفت دعوة التوحيد في فيسينزا في شمال إيطاليا كانت لها امتداداتها في بال وسان جالن في سويسرا وستراسبورغ في المانيا وفريزلند في هولندا، وعندما ظهرت طائفة الهوجونوت الموحدون في فرنسا أدانهم الكاثوليك وشنوا عليهم حرباَ استأصلتهم إلا من فر منهم إلى هولندا وأمريكا، وفي بولندا كان الاستاذ الجامعي الطبيب والعالم الدكتور جيورجيو سذرات عضواَ في الحركة المعادية للتثليث وتبوأ رئاستها في عام 1558، ونمت حركة التوحيد في المجر حد أن الملك جون سيجسموند كان من معتنقي افكارها، كما امتدت دعوة التوحيد إلى بريطانيا وأمريكا، ففي بريطانيا عرف جون بيدل الذي قادته دراسته لما يسمى الكتاب المقدس إلي الشك في عقيدة التثليث بأبي التوحيد الانجليزي، وكذلك ألّف العالم اللاهوتي الشهير صامويل كتابه (عقيدة التثليث من الأسفار) وخلص فيه إلى أن ما يشار إليه في الادبيات المسيحية بتسمية (الآب) هو وحده الإله الأسمى، وأن المسيح دونه مرتبة، كما كتب العالم الطبيعي جون بريستلي رسالته إلى (أساتذة المسيحية المخلصين الموقرين) معلناَ فيها أن الإله الذي أنزل الوحي هو السبب الوحيد لكل الظواهر، وأن عيسى يعطينا بتعاليمه مثلاَ أخلاقية، وفي أمريكا ناضل القس الدكتور جوناثان ميهيو ضد عقيدة التثليث، وفي مطلع القرن التاسع عشر اجتذبت عقيدة التوحيد كثيراَ من الواعظين في كنائس نيوانجلند وامتدت تلك الجاذبية إلى غرب وجنوب أمريكا وتأسست كنائس توحيدية في بلتيمور وواشنطن وبافالو، وكان القس جارد ساكس الذي صار فيما بعد مؤرخاَ ورئيساَ لجامعة هارفرد راعياَ لكنيسة الموحدين في بلتيمور، وفي عام 1825 تكونت جمعية التوحيد الأمريكية، إلى ذلك فإن عدداَ من رؤساء الولايات المتحدة كانوا موحدين من بينهَم الرئيس الثاني جون آدمز الذي تنسب إليه معاهدة طرابلس التي تضمنت نفياً لأن تكون (الجمهورية الأمريكية – آنذاك – دولة نصرانية، وبذلك فهي ليست معادية للإسلام)، وقد خلفه توماس جيفرسون الذي وضع انجيلاَ معدلاَ، كما أن الرؤساء الأمريكيون جون كوينسي آدمز وميلارد فيلمور وويليام تافت كانوا موحدين.
هذه بعض من الشواهد التاريخية التي هي (بصيغة أو بأخرى) امتدادات للأريوسية، وأدلة على أنفة الفطرة الإنسانية السوية عن الانسياق مع الأهواء المتدنية والانسياق مع النزوعات الاستحواذية التسلطية، وهو مالم يكن حقيقياَ ولا أمر واقعي لدى ممثلي ما يعرف رسمياَ بالإصلاح الديني، كما نرى من موقف مارتن لوثر من حرب الفلاحين التي شهدتها المانيا فقد كتب في إحدى رسائله (في رأيي أنه من الخير أن يُقتل الفلاحون جميعاَ ولا يهلك الأمراء والحكام…)، ويقول في مكان آخر (لو تحققت نيات الفلاحين، فلن يكون هناك رجل شريف في مأمن منهم…) ، كما أنه نعت سرفيتوس الذي أدين بتمسكه بعقيدته التوحيدية بالمغربي وهو نعت يستعمل للتبخيس ويعني (المسلم)، لينأى بذلك عن الاصلاح الديني الفعلي، ويظل مسمراَ في حضيرة المماحكة الأيديولوجية التي لا تهدف إلى الإصلاح الجذري لا عبر الحوار ولا افحاماَ بالحجج والبراهين التي لا يمكن إلا التسليم بها، فشأن كل المماحكات الأيديولوجية كان ما يسمى الاصلاح الديني خصوصاَ مع أبرز ممثليه لوثر وكالفن مجرد صراع استهدف هزيمة الآخر (المختلف) وهو في حالتهما المذهب الكاثوليكي وممثليه. وبالإشارة إلى نعت لوثر الموحد سرفيتوس بالمغربي بهدف تبخيسه، فقد حكم كالفن الذي كان يرتجف فرقاَ من مبدأ التوحيد، وبسادية مرضية، على ميخائيل سرفيتوس بأن يحرق على نار هادئة عقاباَ له على تمسكه بالتوحيد.
لم تكن لما يعرف بالإصلاح الديني صلة بالمعنى الحقيقي للإصلاح، بل الاصلاح الحقيقي هو الذي تجسد في التيار الذي انطلق مع آريوس، بل لعله من قبله مع برنابا الذي كان أحد السبعين تلميذا الذين انضموا إلى حواريي السيد المسيح ورأوا المسيح واستمعوا إلى ما كان يلقيه من عظات، ودون ذلك في انجيله المعروف (انجيل برنابا) الذي تتفق كل المذاهب والطوائف المسيحية التي تدين بالتثليث على تحريمه وانكار ما جاء فيه من حقائق.