السؤال الأكثر إلحاحاً
حاتم الصكَر
1- كثيراً ما يواجهنا في الملتقيات الثقافية والحوارات السؤال عن مستقبل قصيدة النثر .فالإحتكام إلى القول بالتجدد وحاجة الجسم الشعري إلى دم جديد تضخه القصيدة وهي تستكشف العالم والذات،يجعل من المنطقي التساؤل عن مجرى أو طريق جديد للقصيدة الباحثة عن التجدد..وأرى أن السؤال ذو مشروعية رغم ما يبطن نيّات بعض المتسائلين من تشكيك بإمكان استمرار قصيدة النثر كنوع شعري. الأسئلة تحمل معرفياً توجهات تدفع باتجاه إجابة محددة.لكننا سنحاول الإفلات والتغافل عن تلك التوجيهات التي يتضمنها السؤال، ونتبصر في ما يمكن أن يحدد حياة وتجدد أو موت النوع الشعري.
يهبنا التاريخ الشعري أمثولات كثيرة حول الموضوع. انقرضت السونيتات الغربية تقريباً وصارت جزءاً من برنامج قصيدة ما أوتجربة لا تعني عودتها للتداول .وعربياً حصل ذلك بصدد الموشح.سيقول بعض شعراء قصيدة النثر إنها لا تاريخية وبالتالي يكون الإحتكام إلى تجارب نوعيية أخرى غير مبرر.بجانب التعالي على الموروث الشعري أو قصور الإطلاع والتثاقف مع الأشكال الشعرية من حيث السلالة والتاريخ دون أن يعني ذلك الإرتهان بها ،أو الإرتباط جينياً بمزاياها.هذه مناسبة للبوح بأن اللغة هي ميراث مشترك بين الأنواع.والتهاون بشأنها والضعف أوالخطأ اللغوي و النحوي أو التركيبي لا يبرره التمرد أو الثورة أو التجاوز وسواها من اللافتات النظرية التي رفعها رواد كتابة قصيدة النثر، وصارت جزءاً من برنامجها وخلفياتها.
أصل من هذا للتمثيل بأنواع لم يكتب لها الإستمرار رغم ما فيها من تحديث كشعر البند والإستمرارية الرجزية والتدوير ..ولكل منها ظرف خاص أملى ظهورها، ليس مكان بيانه هنا. كم أن توقف كتابتها له مستجدات إطارية تسببت فيه.
ما أراه أعرضه هنا للنقاش والإضافة واإقتراح الآراء والتوقعات.رغم أنني لا أجزم بإمكان التوقع في ما يخص مستقبل أو غد الشعر كله، وقصيدة النثر خاصة.وأعرض أدناه إحدى إجاباتي على سؤال وُجّه لي حول مستقبل الشعر ضمن استفتاء ثقافي أسهم فيه شعراء وكتّاب نقد وقراء متخصصون.
2- في أرض ذات طبيعة زلزالية كالشعر،من يستطيع التنبؤ بما ستكون عليه قصيدة المستقبل ،أو أي نوع من القصائد ستكون جديرة بذلك المسمى؟
ربما سيقَ ذلك الإدعاء في مرحلة الحماسة التبشيرية – كما أود تسميتها – من مراحل حياة قصيدة النثر وتداوليتها المبكرة،. لكنها في الحق أصبحت قصيدة الحاضر إحتكاماً إلى هيمنتها على المشهد الشعري، وطرق الكتابة الشعرية المعاصرة وأساليبها الممكنة . أما المستقبل في الشعر خاصة فإنه ضرب من الحدس والتوقع لايمكن الوثوق به كشيء مطلق ونهائي. فالحساسيات الشعرية دائمة التغير، وبالغة التاثر بسياقات محايثة لها، هي جزء من مزاج عصر كتابتها، ونوع تلك الكتابة مقارنة بالعلوم الإنسانية والمجالات القريبة منها ،لاسيما الفنون النثرية والمؤثرات الثقافية الممكنة في زمنها ..
نقول هذا مؤيَّدين بما جعل قصيدة النثر اليوم بهذا الشيوع والتداول الحر والمتنوع. ومنحها جماهيرية نسبية وقبولاً في الأوساط الثقافية والأكاديمية. و كذلك بالتأمل في تبدلات الحساسية الشعرية ذاتها: كاختفاء المطولات الشعرية ،والميل للتركيز والكثافة – ذلك الشرط الذي سخر منه نقاد قصيدة النثر حين سمته سوزان برنار واحداً من مستلزمات كتابة قصيدة النثر ،ونقله عنها رواد كتابتها العرب- .وهيمنة السرد المطلقة على القصيدة الحديثة، بديلاً عن الغنائية والوصفية والمعالجات المجردة في القصيدة التقليدية .
ما يمكن الوثوق به ووضعه في لائحة التوقع هو الجانب التقبلي والبنيوي للقصيدة .
فالقراءة المستقبلية ستدرج قصيدة النثر بشتى أنواعها وأنماطها: الدلالية والموضوعية والسردية وسواها ضمن جنس الشعر دون تردد وتساؤل.سيخف رفضها ،وتدخل بتراكم نماذجها وتنوع مناخاتها ضمن ذخيرة القراءة وخبرات القارئ – بمصطلحات علماء القراءة والتلقي- ما يجعل قراءتها قيد إمكان الكثير ممن لا يقاربونها حالياً لأزمات موضوعية وذاتية ؛ كتسميتها المستفزة، ومخالفتها للسائد المألوف من الشعر ،وهذا ما حصل في الشعر العالمي نفسه كتجارب يمكننا استخلاص عبرها ودلالاتها..
كما تظل قصيدة النثر بجانب أنواع الجنس الشعري الأخرى بكونها تلبية لتنوع الحساسيات الشعرية ذاتها. فالأمزجة تتأثر رفضاً وقبولاً بسياقات يصعب التكهن بها ؛لأنها تتعلق بيوميات الحياة وثقل أحداثها ووقائعها ،ولعل في مقدمتها الحروب كوقائع كبرى، والتغيرات السياسية والإجتماعية والتقنية وسواها.
توقع آخر ممكن خارج الحدوس المستجيبة للنيات والرغبات ، هو إمكان صيرورة قصيدة النثر شعبية وجماهيرية بفعل وسائط التواصل وما تفرضه من هيئات وتشكلات للنوع الشعري. مثلاً قبول قصيدة الومضة ،وماعرف عربياً بالهايكو – حتى في مخالفة نماذجه لمنطلقات الهايكو الياباني- ضمن مناخ الشعرية العربية المتحررة من مفهوم القصيدة المقطعية أو الطويلة والملحمية.تغيرت الحساسية إذاً بفعل الوسائط الشائعة اليوم ؛كالرسائل النصية في الهواتف والأجهزة المحمولة .والقراءة الإلكترونية اليوم لا تتحمل التطويل والإطناب كبنى للنصوص..
وهو ما يحمل سلبيات ممكنة أيضاً، صرنا نراها في كتابة قصيدة النثر كالتماثل الصوتي والتقليد ،والتوهم بنثرية القصيدة وجعلها مسرحاً للخواطر والغنائيات والإستعراض ..
ذلك كله نوع من الحِجاج الشخصي الذي أسوقه دوماً لتقرير قناعتي بأن لا شيء متوقع ونهائي ومستقر في الكتابة الشعرية…