النقد

السيفاو.. الكتابة بحبر الذكريات

المصور الليبي أحمد السيفاو
المصور الليبي أحمد السيفاو

يتوقف بشنب ماركيز وشعر اينشتاين امام المخبز، يلتقط رغيفين من خبز الشعير، يضعهما في كيس وينطلق متمهلا في خطاه صوب المرسم المحاذي لقوس ماركوس بالمدينة القديمة.

يسلك التواءات الشوارع والازقة وقد تخضبت ظلالها بأشعة شمس الصباح، منتشيا بمشاركته اياها هذا الطقس اليومي رفقة الكاميرا توأم الجسد والروح، وربما لا يستغرق ممشاه وقتا طويلا حتى تجده معتدلا في جلسته أمام باب المرسم، يقضم قطع الخبز القمري المغموسة بزيت الزيتون، تجول عيناه في تناوب مدخل زنقة الفرنسيس و محتويات حجرته الصغيرة،بنافذتها المطلة على قوس ماركوس، وكأنما يجدد بهذه النظرة اليومية ميثاق حب قديم قدم (أم السرايا) الرافلة في عمر اوقد الفنيقيون اولى شموعه.

وقد حظيت بمرافقة الفنان احمد السيفاو مرات عديدة في هذا المشهد المتكرر، ذهابا وعودة، وعايشت معه تلك اللحظات في مرسمه الصغير باحثا في اكوام اللوحات والصور والاوراق عن شيء ما، ثم تلتقط اطراف أصابعه فجأة احدى الاعمال الغير مكتملة، كانت تلك طريدة من طرائده الضوئية المختبئة في الفوضى، يضعها بجانبه يتحسسها برفق وينشغل بإضافة لمساته الاخيرة، اخيرا يدنو مني مبتسما كطفل يريد اطلاعي على سره قائلا: (هذي يا فقهي نجهز فيها لمعرضي القادم ) وقد تحقق ذلك لاحقا في معرضه (نفير الشمس ).

ينتمي الفنان الراحل أحمد السيفاو الى جيل مابعد النقطة الرابعة، التي يمثل أحد روادها الفنانون محمد كرازة وبشير شنيبة، اللذان وثقا لعروس البحر كثيرا من تحولاتها وهي تتجهز لارتداء ثوبها الجديد بعد ان قذفت أسمالها البالية، وأزالت عن جسدها أثار غبار حرب كونة طاحنة، قدم كرازة الواجهة الفنية للنهوض وتتبع شنيبة اثار التبدل العمراني وشوهدت نماذج لهذا المخزون في معرضه سنة 2004 كمقارنة بين عالم الامس واليوم.

معرض ثنايا الزمن للفنان المصور أحمد السيفاو

وباكتمال تمدد جسد المدينة يصبح لزاما رؤيته وهو يموج ويتفاعل بمكامن حيوية قاطنيه، بل ويندفع بطلائعه نحو معارك قضاياه المصيرية في السياسة والثقافة والاقتصاد، وسيكون السيفاو متأهبا بعدسته مع مطلع السبعينات متشوفا لرصد ملامح العنصر الجمالي في تمظهرات تلك الخطوط وامتداداتها العديدة بعد أن اتيحت له فرصة التعرف على بعض اسرار الصورة عبر نافذة الفن السابع على يد كارلو كارليني مدير التصويرفي السينما الايطالية آنذاك، مكنته من امتلاك مفاتيح الضوء والظل واكتشافه بالمعرفة والتجربة جانبا من مفازات الفوتوغراف.

يقترب السيفاو من الصورة في زوايا لاتنحو الى التوثيق، ولكن الى توظيف المكان والمادة لصالح رؤية فنية خالصة، يقدم فتاة الجنوب بزي وابتسامة ساحرة، او عرائس مدن الساحل في زفة من الحلي، أومعزوفة الريح في منحوتة صخرية على تخوم جبل نفوسة او سلاسل اكاكوس، ومدارج الفن والطبيعة في درنة والبيضاء وشحات.

سنرى وميض الشعاع وهو يمضي عميقا في قلب الصورة، مكتشفا جوهرالتكوين الجمالي بتكبير الهدف وتجسيره مع الضفة الموازية..التشكيل، فنرى الابواب، والشبابيك والاجراس والاقفال وحتى الاطارات والخردة وقد تحولت الى عجائن ضوئية تتحور بفعل الفوتوغراف من قالب لآخر عبرنمدجتها مجهريا بالعدسة.

وذلك لم يكن سوى بروفة الوثوب الى ضفة التشكيل بعد تشبعه بلفسفة النص الفوتوغرافي وتكويناته البصرية، وقد جهد منذ ارهاصات تلك القفزة عقد نقاط تقاطع مع الصورة في سياقها الضوئي وملمحها اللوني باستثمار مخزون جولاته في عالم الشمس، والنظر في دواخل سفر ذاكرته التي تمتاح من مجالات الرؤية والتروي،وكل شوارد الومضات المتطايرة عبر مسارب زمن ممشاه مع الكاميرا.

وبالتشكل اراد لخياله جموحا اخر لايروم الى مداعبة تكنيكات الصورة في رتوشها الخارجية فقط، بل استبدال فرضيات الفوتوغراف وبدائله العديدة الى شواغل الفرشاة واللون المتمردة على قوانين الضوء وفيزياء المكان.

ولا يقترب من هذا التموضع الا رؤيته الذاتية في مدلولات الاشياء وابعادها السابحة في الفراغ، ففي معارضه المختلفة يخرج احيانا عن سكون لغة التماهي مع المفاهيم الدارجة ليقدم تجاه كسر تابو ما، كما في صورة القارب المقلوب، اوشباك عادي وتقديمه كسياج زنزاني وهكذا.

ورجوعا الى التشيكل يقدم السيفاو مثلا في معرضه تثاؤب، اسئلته ملغزة في بؤر وخطوط متشابكة يجتاحها الغموض والقتامة وهي تعبر عن حالة الانكسار والخذلان وكذلك الفوضى التي يعايشها الفنان والعاكسة اساسا لصراع المجتمع مع ذاته وصراعه هو مع مجتمعه، وربما ذلك يجيبنا عن جانب من تعليلات تجربته مع التشكيل، حيث اللامباشرة تمثل مناخا خصبا لاستنطاق المسكوت عنه، وتتيح امكانية سبر لامتناهي لأسئلة النهوض وعواثر التحول.

وبعد، يغفو السيفاو اخيرا متوسدا جناحه الصغير كعصفور جبلي انهكه التحليق لأربع عقود متواصلة، يغمض عينيه بعد تجوال منحه اياه القدر ليوثق بعدسته منابت الجمال في فضاء قاري لوطن اسمه ليبيا، كما اهدى عروس البحر(طرابلس ) كل جوذاب ايقاعاتها الفاتنة، يمثلها مخزون عدسته الهائل في حياة الناس وتفاصيل البيوت وذخائر فلكلورها الساحر.

مقالات ذات علاقة

الخوف أبقاني حيّا: الرواية الليبية الممنوعة

المشرف العام

القصيدة الأكثر نقاءً

ناصر سالم المقرحي

حساسية التّراكيب اللّغوية بين شفرة النّص والمضمون الشّعري

المشرف العام

اترك تعليق