المقالة

عندنا انتخابات..!

وُصفـت أيام الانتخابات الأخيرة في بنغازي بأنها عـرس .. وقـد كانت كذلك ليس فقط لأنها ازدانت بصور ولافتات الدعايات الانتخابية .. بل لأن الانتخابات تمت فعلا في جو من الفرح والاسـتـبشار .. دعنا من الحملات الانتخابية .. لكن للانتخابات وقع نفسي غريب على جمهور المنتخبين .. إنها تشعرهم بساعات من الأمانة والنزاهة .. والمساواة، فضلا عن الأمل .. الكل يشارك، وعلى قدم المساواة .. الاقتراع السري والترقب والتوقعات كلها تضيف قليلا من التوتر الضروري كما في مشاهدة مباراة كرة قدم أو في حفلة عرس.

قبل شـهور طالبت في لقاء تلفزيوني بإجراء انتخابات محلية ، من أجل أن يكون لبنغازي ولكل مدننا مجالس شرعية تعبر عن آراء أبنائها .. مجالس منتخبة وبالتالي شرعية، لآن البلاد ليس بها هيئة شرعية على مستوى الدولة حتى الآن. ولهذا أيضا ذهبت لحضور انتخابات مصراته، ونوهت بها. ولو أجريت انتخابات محلية في كل المدن والمناطق لما احتجنا للمؤتمر الوطني أصلا. على أي حال ، ولحسن الحظ نهض بتنظيم انتخابات بنغازي لجنة نزيهة ومنضبطة على رأسها المستشار سليمان زوبي ومجموعة من الشباب المتطوع ومنهم المهندس وليد الساحلي وآخرين.

ابنـة بنـغــازي

زوجتي نجاة .. أو الأستاذة نجاة كما يعرفها الآخرون وبالتأكيد طلـبتها في مادة الإحصاء بجامعة بنغازي (قاريونس)، وهم يعدون بالآلاف، بالنظر لأنها قضت ثلاثين سنة في تدريس المادة .. لم يكن لديها طموح للمشاركة السياسية .. لكنها بحكم نزاهتها اللامتناهية والصارمة ، كانت تردد دائما .. وتعلق على شتى الأخبار ومشاكل المؤسسات التعليمية والجامعية .. ” آه لو بس أمنح فرصة .. لأعدت الأمور لنصابها .. ووضعت حدا لهذه الفوضى والإهمال والتجاوزات” ، هكذا مثلما يعلق معظم الليبيين. وذات يوم عبرت عن نيتـها في الترشح ثم أعلنت ذلك على صفحتها بالفيس بوك. وكانت المفاجــاة. كان الترحيب والتأييد والتشجيع هائلا.

الحملة

ترشحت نجاة في الدائرة الرابعة ، البركة والحميضة والماجوري .. وكانت الحملة الانتخابية بسيطة . أدار حملة نجاة الانتخابية ابنتينا المهندسة فتحية، وفاطمة طالبة الطب .. وتولى شقيقـها المهندس محمد الكيخيا دور الوكيل أي الممثل .. وتطوع عدد من المراقبين : شـقيقتها الأستاذة فوزية الكيخيا، السيدة نائلة عصمان، الأستاذة حليمة عبد المطلوب .. والأساتذة محمد الصبيحي، محمد البركي، أحمد العابدية، وليد المغيربي .. أما حملتنا فكانت من لافتتين كبار، دون صورة في ميدان الكتيبة وعند تقاطع شارع الجلاء .. ومطويات وزعها إبـنــنا أحمد وأصدقاؤه .. الشريف الشهيبي، عبد الحكيم ماماش، عبد الرحمن القذافي، عمر شـنيب، جمال طرخان، وإسلام العريبي .. وإنما ذكرت كل هذه الأسماء لأؤكـد على أن مجتمع بنغازي يتحرك بعيدا عن الانتماءات القبلية .. وهذه روعة الانتخابات فهي ظاهرة حضارية تتجاوز التعصب والانغلاق.

وأختتمت الحملة الانتخابية بجولة على الأقـدام قامت بها نجـاة برفقة أخيها المهندس محمد ، في شـارع 14 ، بعد العصر ، من باب إعلام سكان الماجوري والتعارف معهم.

يوم التصويت

كان يوما مشمسا، والناس في حالة استرخاء وفرح .. طوابـيـر منظمة منتظمة في مراكز الاقتراع / المدارس .. الوجوه مستبشرة ، مبتسمة، يتبادلون التعليقات و النكت والبعض يتصفح الصحف. داخل قاعات التصويت .. المشرفون وكلهم متطوعون ، في غاية التعاون .. لتأخذ ورقتك وتغمس إصبعك، وتقف بمفردك عند منضدة وتضع ورقتك لتؤشر في المربعات أمام الأسماء التي اخترتها .. هكذا متحررا من كل تأثير .. سواء المجاملة أو رابطة القرابة أو القبيلة .. أو أي تأثير كان. هذا هو سر الديموقراطية أن تدلي بصوتك بكامل حريتك .. وهكذا تتضح مهزلة المؤتمرات الشعبية التي فرضها الطاغية ، فالتصعيد كان يتم علنا وبالتالي فتح الباب على مصراعيه للكولسة والاحراج والابتزاز القبلي والخوف.

النتائج

” آلو .. بشر الأستاذة .. سألت الناخبين .. كلهم يقولوا أنهم صوتوا للأستاذة .. شـبه إجمـاع .. أكيد انتصار كاسـح ..’’ .. هكذا كانت تأتيني المكالمات من الأصدقاء ومن المراقبين، بعد الساعات الأولى من فتح باب الاقتراع. أخبار مفرحة، ومحيرة في البداية. وكان لابد من الانتظار إلى يوم الاثنين حين أعلن المستشار زوبي النتائج .. في قصر المنار. وهنا أيضا كان المشهد ذي دلالة: فالفرح عام، وهـو دليل على رضى الناس عن العملية الانتخابية .. وقبولهم لنتائجـها .. بما في ذلك قبول من لم ينجح ! وهذا هو جـوهر الانتخابات والديموقراطية، الرضوخ لرأي الأغلبية.

أما باقي القصة، فقد تقاطر علينا الأقارب والأصدقاء ، وغمرتنا المكالمات التلفونية بالتهاني .. وأمست نجاة عضو أول مجلس محلي منتخب لمدينة بنغازي. شئ رائع. ولكنه أيضا بداية الطريق لكثير من الجـهـد الإرهاق والقلق .. فمن، يا ترى، يستطيع أن يرضي الناس جميعا ؟

وإذ تساءل آخر تعليق في الفيس بوك من أسامة الخفيفي، مرفقا بصورة لنجاة في مطبخ القلعة تشارك في إعداد وجبات للثوار في الجبهة، عمن “يسويلـنا الغداء؟”، رد آخـر ” خليها تـوا تخدم بنغازي.. المطاعم واجدات”.

المعادلة السحرية ؟

إذا تحدثنا بلغة تخصصها، نجد أن نجاة حققت أرقاما إحصائية لم يتوقعها أحد .. المرأة الوحيدة التي نجحت .. وبمجـموع أعلى أصوات على مستوى المدينة. لماذا؟ وما السر؟ هناك الانتماء العائلي .. فأسرة الكيخيا عريقة في مجال العمل السياسي .. .. والأهم أن إسمها يذكرنا بأخيها منصور المناضل الوطني وأحد قادة المعارضة ، الذي اختطفه أزلام القذافي في القاهرة قبل عشرين سنة واخـتـفى دون أثر منذ ذلك الحين .. وهي أخيرا زوجتي .. زوجة سـجين سياسي سابق قـضيت 11 سنة في سجون القذافي، وطبيب معروف بالمدينة ومؤلف كتاب هدرزة في بنغازي .. لكنني أعتقد أن كل هذه العوامل ثانوية .. المفتاح السحري لما حـقـقـته نجاة في اعتقادي هو ولاء طلبتها الذين عرفـوها في قاعات المحاضرات .. فمن كان عمره عشرين سنة حين بدأت التدريس بكلية الاقتصاد في بنغازي، الآن عمره خمسين سنة .. بل هي الآن تدرس لأبنائهم. وهؤلاء جميعا يعرفون الأستاذة نجاة عن قرب ولمسوا تفانيها وإخـلاصها في العمل، ونزاهتها في التصحيح .. وشجاعتها في مواجهة المشاكل. هذا فضلا عن عدد كبير من الكتب التي ألفتها لطلبة الثانويات والجامعات لتيسير مادة الإحصاء. تلك هي شـخصية نجاة .. شخصية تبعث على الثقة ، وبالتالي صوّت لها الناخبون.

دلالـة ما حدث

فشكرا لكل من ساهم وأشرف ونظم لإنجاح انتخابات بنغازي. وشكرا لرجال ونساء وشباب بنغازي الذين أكدوا على رقيّ اختياراتهم .. فأدلوا بأصواتـهم لسـيدة، وأدلوا بأصواتهم دون اعتبار للقبلية .. وهكذا عبروا عن الوجه الحقيقي للمجتمع الليبي المعاصر، عكس ما يزعـم البعض. فتهانينا لمن فـاز، وشكرا لكل من خاض التجربة. ولتبقى بنغازي مدينة المبادرات الجسورة .. ومدينة كل الليبيين.

مقالات ذات علاقة

الخال يوسف القويري (2)

سالم الكبتي

بلادُ وَأدَ مؤرخ اللحظة!

أحمد الفيتوري

الصحفيون ضحايا الحقيقة

المشرف العام

اترك تعليق